سقطت بلطجة النظام .. و ظهرت بلطجة الثورة
| |
ماهر ذكي | |
ماهر ذكي
.............
تغيير .. حرية .. عدالة إجتماعية .. هكذا كانت الهتافات التي سمعتها بنفسي من المتظاهرين في يوم الخامس و العشرين من يناير بالقاهرة ( حيث كنت في زيارة سريعة لمصر وعُدت في الأول من فبراير ) .. ثم تطور الهتاف في التظاهره المجمعة و التي أخذت تتجمع من أنحاء مختلفة من القاهرة إلى ميدان التحرير في يوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير (جمعة الغضب ) بعد صلاة الجمعة مباشرة .. حيث أن المتظاهرين كانوا قد قسموا أنفسهم لمجموعات و توزعت المجموعات على مناطق القاهرة .. على ان تدور المظاهرة حول العمارات السكنية بالمنطقة مرتين او ثلاثة بحسب حجم المربع السكني الذي تدور فيه .. و بالطبع في كل دورة كان عدد المتظاهرين يتزايد و كانوا جميعاً شباب مفعم بالحيوية ( شكلهم يفرح ).. تطور الهتاف إلى مناداة كل من يقف في شباك او شرفه للنزول و المشاركة و كان ذلك يتم بسؤاله سؤالاً أخلاقياً على شكل هتاف ( قاعد عندك تعمل ايه .. مش مصري زيي ولا إيه ؟) ثم نداء أخر ( يا أهالينا يا أهالينا .. ساكتين ليه ماتردوا علينا ) ثم الهتاف الأكبر ( الشعب يريد إسقاط النظام ) .. هكذا بدأت التظاهرة تتحرك شيئاً فشيئاً إلى أن حدث التجمع بميدان التحرير .. و بدأ التعامل الأمني الغبي - كالعادة – حتى صدر أمر الخيانة بإنسحاب الشرطة و كانت هذه هي البداية الحقيقية لثورة 25 يناير المصرية .
و جدير بالذكر ان نفس المشهد و بنفس الترتيب حدث في الأسكندرية و السويس و الإسماعيلية و المنصورة و المحلة وأسيوط .. و كل هذه المدن هي عواصم محافظاتها و هي المدن المركزية و الأكبر في مصر بعد القاهرة .. و المدهش أن كل ذلك حدث في ظل إنقطاع تام لكافة وسائل الإتصالات في مصر من أقصاها إلى أقصاها .. كيف فعلها هؤلاء الشباب الشرفاء ؟ ألله أعلم .
حاول النظام أن يستخدم البلطجة – كالعادة – و هذا رأيته بعيني في مظاهرة شارع يوسف عباس بمدينة نصر في جمعة الغضب .. و لم يفلح .. ثم عاد بالبلطجة في بث الرعب و الفزع في قلوب المواطنين من خلال أعمال تخريب و سلب و نهب .. و فشل .. ثم عاد في قلب ميدان التحرير فيما يعرف "بموقعة الجمل أو الحمار سمها ماشئت " و فشل .
تطورت الأحداث إلى أن جاء خطاب تنحي مبارك بصوت نائبه عمر سليمان و سقط النظام و الحمد لله .
و تنفس كثير من المصريين و أنا منهم الصعداء .. و كنت في حيرة من أمري .. هل أفرح لهذا اليوم الذي حلمت به أكثر ما حلمت في حياتي و لما فشلت في تحقيقه عاقبت نفسي بالبُعد عن مصر .. مصر التي أعشقها اكثر من عشقي لإبني .. هل أفرح لهذا اليوم الذي سُجنت و سُحلت و أهُدرت كرامتي مرات و مرات على أيدي الزبانية من أجل أن أعيشه .. و عندما جاء هذا اليوم تجمدت مشاعري ؟؟ هل أفرح ليوم تزينت فيه مصر بزهرة شبابها و ودعت كهولتها و شيخوختها و عجزها و تصابت و إحلوت و صارت فعلاً ( مصر يا أما يا بهية .. يا أم طرحة و جلابية .. الزمن شاب و انتي شابه .. هو رايح و انتي جاية) كما قال أحمد فؤاد نجم .. هل أفرح لهذا اليوم الذي فقدت الأمل في مجيئه ثم فاجئني و جاء .. جاء ليقول لنا انا و كل جيلي اننا كنا جيل لم يستحق ان يعيش بمصر .. كنا جيل منخور العصب .. ضعيف الإرادة .. قليل التحمل .. سريع اليأس .. جيل شعارات .. جيل شعارات .. نعم جيل شعارات .. جاء جيل اليوم ليؤكد لنا اننا كنا جيل الشعارات و هم جيل المهمات .
تحققت المعجزة .. و سقط العسكر عن سدة الحكم في مصر و خاصة بعد البيان الرابع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة و الذي بعث في نفسي طمأنينة كبيرة جداً .. و بخاصة عندما قدم اللواء محسن الفنجري التحية العسكرية إجلالاً لروح الشهداء رحمهم الله .. و أكد ان الجيش لن يكون بديلاً عن الشرعية الثورية و ان الجيش باقي حتى إنتقال السلطة لحكم مدني فقط و بعدها سيعودون معززين مكرمين مشكورين كل الشكر و التقدير لثكناتهم .
و بدأت شمس جديدة تشرق على أرض مصر .. تصبحت مصر بصبح يشبه جمالها و رونقها ونضارتها .. إستردت عافيتها مصر و إكتملت ثمارها و طابت .. وقف العالم أجمع ينظر للمصريين الذين علموا الناس قديما كيف تكون الحياة الراقية .. و ليس قديماً فقط و لكن حديثاً ايضاً .. طالبت جامعات عده في مختلف دول العالم بإقرار الثورة المصرية في مناهجها التعليمية .. و لما لا؟ .. وقف بريطاني يقول أدعو البريطانيين ليتعلموا من المصريين كيف تكون الحرية .. ناهيك عن أن هذه الثورة أرعبت كل الأنظمة الديكتاتورية القمعية في العالم ففاضوا على شعوبهم بالعطايا و الجود بغير حساب و كأنهم لم يكونوا يعلموا بأن شعوبهم تعاني الأمرين في الحصول على لقمة الخبز .. كما ألهبت الثورة حماس الشعوب في مختلف بقاع الأرض فبدأنا نسمع عن ثورات في بلاد لم نكن نتخيل ان يتحرك بها ساكناً .. و لا يفوتني هنا ان أتوجه بالشكر للشهيد محمد البوعزيزي و كامل الشعب التونسي العظيم شعب تونس الحرة الذي فجر ثورة المصريين العظيمة.
إلى هنا و كل شئ تمام التمام ..
و لكن - كالعادة - هناك من يكون في المقدمة و يشعر بقوته فلابد له و أن يستقوي على الضعفاء .. و يجد ان الجميع يستمع له بإنصات فيطيل .. يرى ان الجميع أظهر له الأحترام فيتمادى .. و هذه هي أخلاقيات البلطجي .. و كما كان النظام له بلطجيته فإن للثورة أيضاً بلطجيتها .. و لكن بلطجية الثورة اشد قسوة على ضحاياهم لأن بلطجتهم ليست بسكين ولا سيف و لا بأي نوع من الأسلحة الفتاكة .. بلطجتهم معنوية و تأتي في مقتل فتصيب و تجرح وتؤلم اشد الألم.
الغريب في الأمر أن هذه الثورة و حدت المصريين جميعاً على قلب رجل واحد .. إلا أن البلطجة أرادت شيئاً أخر بعد نجاح الثورة .. فرقت المصريين و صنفتهم لمجموعتين كبيرتين .. مجموعة الثوار و مجموعة الخونة او الخائنين .. إما ان تعلن انك مع الثوار و تسب و تلعن النظام البائد ( كما أطلقوا عليه ) و تمجد و تعظم و تسبح بجلال الثورة في كل صباح و مساء أو تكون خائن .. و على الفور إنتشرت محاكم التفتيش ..و قوائم سوداء .. و طلبات هي أوامر و ليست طلبات .. اوامر واجبة النفاذ .. الأن .. دون أية نقصان .. و تم إلصاق الشعب بكل المطالب الصغيرة و الكبيرة ( الشعب يريد ...... ) ولا أدري من هو الشعب الذي يريد كل شئ في وقت واحد و يهدد بإنه إن لم يحصل عليه سيخرب البلد .. أهذا هو نفس الشعب الذي كان يريد إسقاط النظام ؟؟ ( الشعب يريد تخفيف المنهاج .. الشعب يريد تظبيط الأجور .. الشعب يريد إقالة المدير .. الشعب يريد إسقاط الحكومة .. الشعب يريد إلغاء يوم السبت – يوم دراسي – الشعب يريد وزراة للأثار .. الشعب يريد تثبيت الوظيفة .. الشعب يريد لبن العصفور ) .
و ظهر البلطجية الحيتان الذين جاءوا من خلف الثورة ليقفزوا عليها .. و هم كُثر .. و سنفصل لكل منهم في مقال لاحق .. لكن الغريب ان كل من يتكلم الأن يقول لك لما كنا في التحرير كان يحصل كذا و كذا .. أكثر من أربعين مليون مصري كانوا بميدان التحرير ؟.. لا تقرأ تعليق على أي خبر إلا و تجد المئات من التعليقات على طريقة لما كنا في التحرير و بأسماء مختلفة تعدت الأربعون مليون إسم .. و الجديد انك ان طالبت بتهدئة الأمور لكي تستعيد البلد إستقرارها فأنت خائن و عميل و من " فلول" الحزب الوطني الفاسد او انك من أصحاب الأموال الذين إستفادوا من النظام السابق .. أو إنك مش فاهم حاجه و "أهبل" .
و الجديد أيضاً انك تجد من يعايرك بالثورة .. كمن يقول لك إحنا كنا بنموت في ميدان التحرير و انت قاعد في بيتكم .. إحنا اللي حررنا البلد يعني إحنا أصحاب الإنجاز و عليك ان تتبعنا .
" مش عارف ليه بدأت أشم رائحة إنقلاب اقصد "ثورة " يوليو .. ( إحنا اللي حررناها و انتوا قاعدين في بيوتكم ) معناها يبقة انتوا اللي تحكموا و احنا المحكومين .. إنتوا عملتوا الثورة يبقة من حقكم تاخدوا البلد ستين سنة انتم كمان.. لفين ؟ الله أعلم .. البلد أصبحت تعاني من كل شئ .. مصر إنضربت تحت الحزام يا أخواننا ياللي كنتوا في الميدان و إحنا مش في الميدان .. اللي مصر خسرته في أقل من شهرين ضعفين اللي إتسرق في تلاتين سنة فساد .. و كل الكلام عن المليارات اللي بره وهاترجع ده كلام فاضي .. تسعين في الميه منه إشاعات و كلام بلطجية برضه بس من نوع تاني( بلطجية الإعلام ) هانتكلم عليهم بعدين .. إقرأوا كتاب " محاواراتي مع السادات " للكاتب الراحل أحمد بهاء الدين و إعرفوا حقيقة قصة العشرة مليون دولار اللي قالوا إن عبد الناصر سرقهم قبل مايموت و هربهم بره مصر .. و السادات نفسه إتقال عليه سرق كام و هربه بره مصر .. و ايه النتيجة ؟؟!!! أرجوكم فوقوا لمصر .. حبوها زي ما بتحبوا نفسكم .. البلد داخلة على نفق مافيهوش ريحة النور لو مالحقتوهاش انتوا اللي هاتدفعوا الثمن .. و انا بقول الكلام ده و انا مش في مصر .. و مش في ميدان التحرير .. لكن قلبي هو أكبر ميدان في الكون و شايل فيه مصر .. و انا مش من " فلول " الحزب الوطني .. ولا جمعت أموال في عهد النظام البائد لا سمح الله .. ولا من بتوع الثورة المضادة و العياذ بالله ..و لا أنا " أهبل " .. أنا مصري بيحب مصر و بس."
و انا على قناعة تامة بأن أكثر من تسعين بالمائة من ثوار ثورة 25 يناير عادوا لبيوتهم و أعمالهم في اليوم التالي لتنحي مبارك لأنهم واعون لحجم المشكلة .. و ان من يُغلب طلباته الفئوية " المشروعة جداُ من وجهة نظري " .. و من يحاول سرقة الثورة و نجاحها .. ومن ينافق الثورة و أعمالها .. لم يكن لهم وجود في التحرير أصلاً .. بل هم من أسميهم بلطجية الثورة.
و للحديث بقية إن شاء الله
شاعر و كاتب مصري مقيم بالصين