خواطر حول الطبقة الوسطى المصرية (1)
...............................................................
هويدا طه
..............
(1) إدمان الفشل
مصطلح "إدمان الفشل" استخدمه الدكتور منصور خالد في الحركة الشعبية لتحرير السودان ليصف به حال النخبة السودانية المثقفة، نخبة أيديها خاوية من أي مشروع لمجتمعها ووطنها ومع ذلك تظل تطنطن بلوم الاستعمار الذي كان.. والزمان الذي كان.. والغرب الذي يتآمر على العالم الثالث و..و..، لكن إدمان الفشل يبدو لي وصفا لحالنا نحن أيضا، نبدو في مصر وكأننا (استمرأنا) الاكتفاء بلوم النظام وتحميله مسئولية الفشل المصري على كل الأصعدة طوال العقود الماضية، بالطبع هذا النظام سيؤرخ له في المستقبل البعيد باعتباره وحلا كبيرا غرقت مصر فيه حتى أذنيها! لكن النخبة المثقفة في مصر (والتي- للأسف- وباستقراء التاريخ.. لن يكون ممكنا إحداث تغيير جذري في مصر وطنا ومجتمعا وثقافة بدونها) هي أبعد في اللحظة الحالية عن التأثير في حاضر أو مستقبل هذا البلد، ولأن (النقد سبيل التقدم) هي قاعدة قامت عليها مشاريع التغيير في كل دولة شهدت تغييرا في هذا العالم.. فإن تلك النخبة لا يبدو حتى الآن أنها بدأت نقد ذاتها.. بالطبع لا يجب أن تتوقف عن نقد النظام وتعريته لكنها لابد أيضا أن تنقد ضعفها وعجزها الراهن.. والحقيقة أن (النقد الذاتي) هو بذاته مشروع كبير ومهم، على سبيل المثال وخلال الثلاثين عاما الماضية كم بيانا أصدرت تلك النخبة وكم ائتلافا شكلت وكم جماعة كونت ترفض فيها جميعا أسلوب النظام الحالي في حكم مصر؟ ثم ماذا؟! صار المثقفون في مصر في غالبيتهم يعتبرون مهمتهم انتهت بالتوقيع على تلك البيانات.. وكذلك صارت الحكومة لا تعير بياناتهم أي اهتمام! فهي تعرف مآلها! مؤخرا وقع الكثيرون بيانا عُقد له مؤتمرٌ صحفيٌ كبير.. لإعلام الفضائيات بأن ائتلافا قد تكون لرفض النظام الحالي بل والعزم على تغييره! كثيرون من شخصيات نحترمها للغاية- بل لها فضل مشهود في تكوين وعي عدة أجيال- وقعت ذلك البيان.. ثم.. ثم تفرقت السُبل! حتى يهيئ لك أن ذلك الائتلاف ما هو إلا حلقة في سلسلة لا تنتهي من ذلك النوع من (الرفض المسترخي) لفشل مصر داخليا وخارجيا، العيب إذن ليس في نظامنا المستبد الفاسد فقط بل نحن أيضا معيبون! وكأننا أصبنا بداء (إدمان الفشل)، لا أعرف إن كان للإدمان علاجا حاسما.. لكن بالتأكيد مواجهة الذات هي أولى خطوات الاستنهاض المطلوب للتخلص من هكذا إدمان مخجل.. ولنواجه ذاتنا أولا بالاعتراف بأننا فشلنا.. ثم قبل أن نبحث عن وسيلة لتخليص مصر من نظامها الفاسد علينا أن نتواضع قليلا! علينا أولا أن نبحث عن طريق جديد للاستنهاض الذاتي من حالة.. إدمان الفشل!
(2) الآباء المؤسسون
باستقراء تاريخ الأمم.. لم تحدث نقلة حضارية مؤثرة في أي أمة بدون ذلك (الدور الفارق) الذي يقوم به (آباء مؤسسون) يبرزون من بين صفوة أبناء تلك الأمة، تكون بصيرتهم نافذة فتلخص الآمال الجمعية لأمتهم في مستقبل مغاير لحاضرها المعوق، خذ مثالا الحالة الأمريكية.. أمريكا التي لا تفخر مثلنا ليلا ونهارا بأنها (أمة عريقة).. إنما في صبحها ومساها تفخر بأنها (أمة حديثة) تدين بالفضل للآباء المؤسسين، آباء أمريكا المؤسسون وضعوا دستورا استوي فوقه بناء أمة تحترم إلى حد التقديس (حرية الإنسان)، هذا الدستور الفذ أثارني أثره على تلك الأمة (غير العريقة).. وليس مبالغة أن (التفوق الأمريكي) سببه الأصلي هو ذلك الدستور، رحت أبحث بشأنه وفي رأسي يلح سؤال.. ما الذي ميز ذلك الدستور بحيث تمكن بتلك الجدارة من التأسيس لهذا الصرح الإنساني الحضاري الفذ المسمى أمريكا؟! فذ حتى لو سبته العرب ليلا ونهارا! أتعرفون أهم ما ميز (لحظة بناء) ذلك الدستور؟! شيئان أساسيان.. أولهما أن واضعي الدستور (ثلاثة عشر رجلا) كانوا رجالا مميزين ثقافيا.. ذوي ثقافة نخبوية للغاية.. تمتعوا بقدرات استشرافية عالية للمستقبل.. كما كانوا متحررين بدرجة كبيرة من (مقولات العراقة) المعوقة للتقدم التي ابتليت بها الأمم العجوز! لم يكونوا موظفين (يفصلون) دستورا تنفيذا لأوامر (السياسيين أو العسكريين)، لم يكونوا نوابا أو رجال أعمال أو مستثمرين، بالطبع كانت لهم أعمالهم وأملاكهم لكن.. وهذا هو الشيء الثاني والأهم على الإطلاق الذي ميز تلك اللحظة التاريخية.. اتفقوا جميعا على ألا يكون لأي ٍ منهم أي فائدة خاصة أو (شبهة فائدة خاصة) من ذلك الدستور! وضع هؤلاء الرجال دستورا من أجل (أمة ستأتي من بعدهم) وليس دستورا يفيدون منه في لحظتهم الحاضرة.. أو يفيد منه أولادهم.. أو يحمي أملاكهم.. أو يستر عوراتهم.. بل هؤلاء (الآباء المؤسسون) كانوا أفذاذا إلى درجة أنهم رأوا أمتهم في المستقبل قبل أن تولد فجهزوا لها تربتها.. (دون هوى)! حلم يصحو ويبيت معي أن تأتي على مصر لحظة مماثلة.. لحظة يتجمع من بين صفوة المصريين (رجال بلا هوى)! يستشرفون مستقبل (أمة مصرية حديثة) ولتذهب العراقة المعوقة تلك إلى الجحيم! يضعون دستورا لا يفيدون منه ولا يشتبه فيه تفصيل لصالح ذويهم.. في وجودهم أو من بعد غيابهم، دستور فاصل يحارب الباقون من أجله.. (وإلا بالله عليكم من أجل ماذا بالضبط تناضلون؟! إذا كان هناك أصلا شيءٌ من النضال في هذا البلد؟!)
المؤسف أن هكذا حلم لا تبشر (الحالة المصرية الراهنة) بإمكانية تحوله إلى واقع أو بداية ولادة أمة.. فحتى صفوة رجالنا الذين تستبشر بهم عندما يبزغون.. سرعان ما تجدهم وقد تحولوا إلى متحدثين باسم جماعة أو فرقة أو تيار أو أو.. تتساءل بحسرة.. كيف (ونحن أمة عريقة!!) لم نستطع حتى الآن إنجاب مثل هكذا... آباءٌ مؤسسون؟!
(3) الجينات المصرية
يتقدم العالم من حولنا في كافة أوجه الحياة وعلى رأسها نظم الحكم والإدارة، بلدان لم يكن يتصور أحد في العالم أن يتغير فيها نظام الحكم من ديكتاتورية شرسة إلى ديمقراطية.. أطل عليها القرن الحادي والعشرون وهي تتحول.. فإذا بها اليوم تتمتع بحرية الوطن والمواطن أو تخطو نحوها بخطىً يلحظها العالم كله، خذ دول أمريكا اللاتينية مثالا وغيرها من دول آسيوية بعضها حتى كان ملكيا مستبدا لعدة قرون.. يحدث ذلك حولنا في العالم كله بينما مصر.. مصر ما زالت (خائفة) من الحرية (زاهدة) فيها بجناحيها.. الحاكم وحاشيته من ناحية والشعب ونخبته من ناحية أخرى، وكلما حيرني تأخرنا عن (مسيرة تحول البشرية) تلك تأملت تجارب الآخرين.. فإذا بشيء ما يثقل عليّ في كل مرة.. ذلك أن كل تجارب التحول الأخرى كان فيها نظم حكم ديكتاتورية تقاومها نخبة واعية من الشعب راغبة بحق في الحرية.. نخبة تستمر في المقاومة سلمية كانت أو عنيفة حتى تهزم ثقافة الاستبداد القبيحة.. ليس فقط الكامنة في نظم الحكم وإنما أيضا في التيار السائد الراسخ في ثقافة الجماهير ذاتها.. لكن نخبتنا المصرية أمرها يختلف! أحزاب المعارضة تمارس ليلا ونهارا (طنينا) حول أهمية تداول السلطة.. ومنذ وعيت على الحياة منذ ما يقرب من نصف قرن لم أشهد (تداولا للسلطة) في تلك الأحزاب! حتى الأحزاب (تحت التأسيس) تبدأ بشخصية ما وتستمر بها إلى أجل غير مسمى! كهول شاخت وهرمت تحكم مصر وكهول مثلها تعارضها كذبا.. فمالنا نحن بصراع العجائز هذا؟! وحتى المعارضون من رجال في منتصف العمر هم أيضا يسيرون على نفس الدرب! درب يرسمه لنا فيما يبدو (جين يجري في الدماء المصرية) يجعلنا جميعا حكاما ونخبة وشعبا (نأبى) أن نترك موقعنا إلا بالموت!.. وفي نفس الوقت لا مانع من (ممارسة الطنين) من وقت لآخر عبر رحلة التشبث بالموقع هذه عن.. (تداول للسلطة) في مصر! إذا كان (النقد سبيل التقدم) قاعدة فلسفية ساعدت شعوبا أخرى لمعرفة داءها ومن ثم بدأت تعالجه.. فإننا في مصر نحتاج قبل أن ننتقد حكامنا لتشبثهم البشع بالبقاء في السلطة حتى الموت.. أن ننقد أنفسنا أولا.. هل يعقل أن (ثقافة التشبث) هذه كامنة في دماء المصريين كأنها قدر؟! متى كانت آخر مرة سمعتم فيها برئيس جديد لحزب مصري.. قديما كان أو تحت التأسيس؟! يا لها من جينات!
(4) الفرقة الناجية
صدر حكم قضائي بإعدام الفتى القاتل، في حادثة مقتل ابنة المطربة ليلى غفران وصديقتها، لنقف قليلا في تلك القضية أمام ذلك (التفاوت الطبقي) بين القاتل والضحيتين، المجتمع المصري لديه ثقافة لاعقلانية تعتبر الفقير (دائما على حق)، والغني (دائما ظالما)، فوصف أهل القاتل لابنهم بأنه (خروف الأكابر).. إيحاءً بأنه فقير تتم التضحية به لإنقاذ قاتل آخر غني.. تعاطف معه الكثيرون في المجتمع، لكن لعل وراء هذه الثقافة اللاعقلانية شيئا آخر، توتر طبقي قسّم الأمة المصرية إلى أمتين، أمة كثيفة العدد من الجوعى المحرومين المسجونين في نفق الفقر المعتم، وأمة أخرى تنقسم بدورها إلى شريحتين.. شريحة تتمتع بثراء (فاحش).. لا يتوفر غالبا إلا لمن تزاوجت لديهم (قوة السلطة وقوة المال).. وهي شريحة قليلة العدد حتى أنها معروفة الأسماء، وكانت تسمى قبل ثورة يوليو (مجتمع النصف بالمئة)، وشريحة أخرى وصفها أحدهم تندراً بأنها (الفرقة الناجية)!، وهم هؤلاء الناس الذي ينتمون لطبقة وسطى جاهدت في ظل هذا التقسيم المروع للمجتمع.. لتنجو من السقوط في نفق الفقر المعتم مع تلك الملايين من الجوعى، سواء بفرص عمل في الخليج أو بخدمة هذا النصف بالمئة أو بفارق أسعار لممتلكات ضئيلة أو غير ذلك.. هذه الشريحة تقف حاجزا بين الجوعى ومجتمع النصف بالمئة الرهيب.. وملايين الجوعى تلك عندما يفيض بها ألم الفقر لن تتمكن من الوصول إلى تلك (الأسماء المعروفة) المختبئة بما (نهشته) من ثروات مصر، إنما يسهل عليها الانقضاض على الشريحة الفاصلة بينهما.. وهي المرشحة بقوة في القادم من الأيام لدفع ثمن ذلك التفاوت الطبقي الفاجر بين المصريين، جوعى مصر لا يتوفر لديهم لا وعي تنظيمي ولا سياسي.. ولا أخلاقي بالطبع (فالجوع والأخلاق لا يجتمعان)، لا يتوفر بين أيديهم إلا ذلك النوع من الطعنات الموجهة للأقرب إليهم.. وإعدام ذلك الفتى ليس بالضرورة (قصاصا عادلا)! هناك محرض مختبئ بغنيمته.. يحمي ظهره من طعنات الجوعى بطبقة عازلة سينتمي لها المزيد من الضحايا المقبلة، لكنها طبقة باستقراء التاريخ مسئولة عن تفكيك هذا التوتر.. لذلك كانت كل مشاريع التغيير في التاريخ الإنساني بقيادتها، لا تصدقوا أن الجوعى يغيرون شيئا! الخائفون من الجوعى هم من يقودون مشاريع تفكيك التوتر الطبقي! لكن عندما يشعرون بالخطر!.. خاصة تلك الفرقة التي ظنت أنها.. نجت! فإذا بها تفصل بين وحشين.. أحدهما يجب ترويضه.. أما الآخر.. فالتاريخ يقول إنه لا سبيل للنجاة.. إلا بالقضاء عليه!
(5) الحرية ليست مطلبا للمصريين
قبل أن يتهمني أحدهم بالترفع.. أقول إنني ابنة حي فقير و المرحوم أبي كان بائع لبن أميا وكانت أمي وعماتي وخالاتي أميات ولم يكن أحد من أجدادي باشا أو حتى أفنديا! وكل أقاربي هم من العوام الذين يعملون في مهن بسيطة وليس لدى أي منهم ثروة أو مناصب! ورغم أنني حاليا ممن صنفهم عبد الرحمن الجبرتي بوصفهم (مساتير الناس) إلا أنني أنتمي لقاع هذا المجتمع سواء بالنشأة أو بالتعاطف، إذن لا مجال لاتهامي بالترفع والتعالي حين أقول إن: الشعب المصري شعب لا يتوق إلى الحرية! ولا يحلم بالديمقراطية ولا يتطلع إلى التقدم! ولو خيرت المطحونين من أسرتي أو أسرتك أو من الشارع.. بين الحياة (حرا) لكن دون ضمان لقمة العيش أو الحياة ذليلا مع (ضمان) توفر حاجاته الأساسية.. فسوف تختار الأغلبية ضمان رغيف العيش! وهذا ما يسميه المثقفون في أدبياتهم (كذبا أو خجلا من الحقيقة!) بأنه (صبر) الشعب المصري! نحن شعب سحقته غطرسة حكامه أو أسياده، سحقته الحاجة والحرمان والفقر.. فإذا كان الكبت يولد الانفجار وتم كبت الشعب المصري لكنه (صبر!) فلم ينفجر.. فقد فاتت الفرصة، لأن بعد الكبت سحق والسحق لا يولد أي شيء! النخبة المصرية إذن (النخبة بالمعنى الطليعي وليس بالمعنى الطبقي!) هي وحدها من عليه التغيير في هذا البلد، ثم بعد عدة أجيال من محاربة الأمية والفقر والتخلف والجهل.. سوف يبدأ مطلب الحرية في اتخاذ موقع معقول في أولويات المصريين! هذه النخبة (طليعيا وليس طبقيا!) لا يجب أن تؤسس (مشروع التغيير) على أساس (المشاركة الشعبية)! لن يحدث! مشروع التغيير- لأسباب تاريخية وثقافية- مسئولية تلك النخبة وحدها.. وخصمها في هذا الصراع من أجل التغيير هو القابضون على ثروات البلد الذين يفقرون المصريين ويجلبون على مصر مهانة بين الأمم لم تر مثلها من قبل! المشاركة الشعبية حلم جميل لكنه ليس حلما مصري الطابع! المصريون ولأسباب تاريخية يحتاجون صفا في المقدمة يسيرون خلفه.. هذا الصف يحتاج قائدا.. فهل تعي النخبة في المرحلة الحالية أهمية أن تبحث - وقبل أي خطوة أخرى- عن (قائد) مشروع التغيير؟!
(6) إعادة نظر
وراء كشف خلية حزب الله في مصر تكمن أشياء تتخطى مجرد كشف خلية مسلحة، فالشق الجنائي عادي جدا ويحدث في كل مكان وزمان، حتى الشق السياسي واضح.. فلدينا نظام حاكم في مصر يتجه بقوة ومنذ زمن لتكريس حلف مصري إسرائيلي أمريكي في المنطقة، وعلى الجانب الآخر لدينا (أطراف لمقاومة عربية) ممتدة عبر العقود الماضية بانتصارات قليلة وفشل متكرر.. تتقاطع الآن مع مصالح وتطلعات إيرانية إقليمية.. وتتقاطع مرحليا مع تطلعات النظام السوري إلى (تحسين) شروط التفاوض مع أمريكا وإسرائيل أو لنقل.. تقليل (الإملاءات) الأمريكية الإسرائيلية المحتومة على سوريا، تلك حقائق لا تنكرها الأطراف الخمسة.. مصر وإسرائيل وسوريا وإيران وأطراف المقاومة المتعددة، لكن ما يعنينا هنا هو موقف النخبة المثقفة المصرية،أزمة خلية حزب الله كشفت ارتباكا واضحا للهوية المصرية واتجاه مصالحها.. كشفت خواء أيدي تلك النخبة من (مشروع وطني) واضح مكتمل.. وكشفت كذلك إلى أي مدى حدث التباعد بينها وبين الشارع المصري..
هناك طرفان.. أحدهما حسم موقفه ضد المقاومة (على إطلاقها).. وسّلم تماما للحلف المصري الإسرائيلي، أما الطرف الآخر من النخبة المصرية المثقفة والذي نعوّل عليه في (حلمنا) بمشروع جديد لمصر يخرجها من الحضيض.. فقد ارتبك، ارتباك يحتاج إلى ما يمكن تسميته (إعادة نظر) في الموقف من (نمط المقاومة) الممتد منذ عقود، فحزب الله طرح نفسه (مقاوما) وبدا حسن نصرالله زعيما سياسيا أكثر منه شيخا معمما، بل وحتى بدا أنه زعيم أكبر من بلده الصغير، وأعجب به كل من النخبة والشارع المصرييّن، ولأنه (مقاوم) فقد تعاطف معه هذا الجناح من النخبة المصرية المثقفة إلى درجة.. غض البصر عن أن مجرد (تمسك) حزب الله بأنه (على حق) في تلك القضية هو استهانة أو تجاهل للكيان المصري كله (فمصر ليست نظام مبارك فقط.. مصر هي دولة وأرض ونظام وشعب).. وغض البصر كذلك عن أن لحظة يتم التفاوض بين إيران وأمريكا (وهي تبدو قريبة!) سوف تنهار المقاومة في (نمطها القائم) الذي يمثله حزب الله، إذن فيما يخص المصريين من (نظرية المقاومة) فإن النخبة المصرية تحتاج إلى صياغة مشروعها الخاص، مشروع (المقاومة المصرية) مشروع لا يبذل طاقته في (التعاطف مع مقاومة الآخرين) بل يبذلها في سبيل هدف (تأسيس دولة مصرية بمشروعية جديدة)، وذلك عبر بناء (المقاوم المصري)، مستقبل مصر لن تصنعه المقاومة اللبنانية أو المقاوم الفلسطيني! قد تساهم مقاومتهما حتى بنمطها الفاشل.. لكنها مساهمة هامشية لا يعوّل عليها، المقاومة المصرية في الداخل المصري عبر المقاوم المصري هي الحل، فقط ينقصنا مشروع بناء.. المقاوم المصري!
(7) تحرير العقول
كانت أهم ملامح عصر النهضة الأوروبية منذ نحو خمسة قرون هي (الصدام) بين الاتجاه الديني في تفسير الوجود والعالم وتسيير حياة عوام الناس بزعامة رجال الدين المسيحي.. والاتجاه الفكري العلماني بزعامة نخبة علمانية مكونة من علماء الطبيعة والمثقفين والمفكرين والفلاسفة، انتصر العلمانيون في صراع ٍ كان دامياً أحياناً.. فقامت أوروبا التي نعرف اليوم.. بل وأمم أخرى التقطت مغزى ذلك الانتصار دون تردد فحذوت حذوه، انتصارٌ لم يعن القضاء على الدين.. فمازالت المسيحية موجودة في المجتمعات الأوروبية حتى بأطروحاتها اللاعقلانية (إذ أن الغيبية والقدرية واللاعقلانية واللاعلم هي أهم سمات أي طرح ديني.. مسيحيا كان أو غيره.. وفي ذلك تكتب مجلدات!)، لكن الدين باللاعقلانية التي يقوم عليها لم يعد (وسيلة التفسير) لحياة الإنسان وعالمه.. بل سار في المجتمع الحداثي (وسيلة للترفيه الروحي).. لا بأس بذلك!
بالنسبة لمجتمع مثل مجتمعنا فإن أهم درس على الإطلاق في ذلك الصدام التاريخي هو (طبيعة ذلك الانتصار ونتائجه).. فقد كان يعني باختصار: (تحرير عقول الناس)، وتحرير العقول يعني (فك أسر) عقل الإنسان- الفردي والجمعي- من (موروث الخوف) الذي انتقل إلى أجيال البشرية من هواجس الأسلاف، خوف من الغيب والمجهول.. خوف من الجرأة في العلم والفن والفكر والاستكشاف.. خوف من مواجهة الطبيعة.. خوف من (عقاب وهمي) للإنسان إذا ما تخلى عن هواجس أسلافه الساذجة! وعندما يتحرر الإنسان من هكذا خوف معوق للتقدم فإنه.. يفكر بحرية ويبدع بحرية ويبتكر بحرية.. وينطلق إلى الأمام دائما (دون تحسب) لهكذا عقاب وهمي يأتيه (حسب هواجس الأسلاف) من حيث لا يدري.. أو يتربص به بلا مبرر!
على ضوء هذا الدرس الأوروبي التاريخي من تجربة قامت لأجل (تحرير العقول) ونجحت.. دعونا نلقي نظرة على المجتمع المصري وثقافته.. العقل المصري الجمعي والفردي.. القديم والجديد بكل مكوناته، ولتكن دعوة لنقاش السؤال: كيف وإلى أين يتجه (العقل) المصري؟ لسنا متخصصين لكننا مهتمون.. وربما في مقال أو مقالات قادمة نطرح معا سؤالا ضروريا: هل يمكن التأسيس لمشروع ما.. يمكنه.. (تحرير العقل المصري)؟! فك أسره من أفخاخ الأسلاف؟! كي نحقق (حلم الانتصار) فنقوم وننهض كما نهض غيرنا؟! ومن هم القادرون على تأسيس مثل هكذا مشروع للمصريين؟ وكيف يبدأ ومتى تتجلى نتائجه؟! بل السؤال الأبسط.. هل هناك أمل في.. تحرير العقل المصري؟!
(8) داخل السور أم خارج السور
لم نعد نختلف علي توصيف (الحالة) التي يعيشها المصريون الآن، يساريون ويمينيون.. أثرياء وفقراء.. مستورون ومعدمون.. مثقفون وبسطاء.. الجميع يتفق علي أن المصريين فقدوا الشعور بالأمان، من لا يملك خائف لكن من يملك هو أيضا خائف، والجميع يخشي من (شيء) سيحدث لا يعرف كنهه بالضبط.. فقط يشعر أنه نوع من السقوط والضياع، دون أن يتمكن من برمته واعتراف بالفشل في تحقيق العدالة، فيصبح كل فرد متهما من الأفراد الآخرين والجميع يتوجس من بعضه البعض، وتنتشر كيفية جديدة للجرائم تثير الذهول والرعب من قادم الأيام.. تذكرني تلك الحالة بقصة من البرازيل، عالجها صحفي بريطاني في فيلم وثائقي، توجه الصحفي إلي (تجمع سكني) يسكنه أفراد من شريحة عليا من الطبقة المتوسطة، فيلات محاطة بحدائق وحولها سور عالٍ علي بوابته أمن مشدد، خارج السور كانت هناك بؤر للمتشردين والمعدمين وأطفال الشوارع، سأل سيدة تسكن إحدي تلك الفيلات: بماذا تشعرين وأنت ترين من شرفة بيتك هؤلاء المشردين خارج السور؟ قالت إنها لا تشعر بالأمان وتصيبها كل ليلة كوابيس بأنهم سوف يهاجمونها ذات لحظة لا تعرف متي ستأتي، وإنها كل صباح تخاف أن يهاجم هؤلاء (المجرمون الصغار) أطفالها وهم متوجهون إلي مدرستهم، الخوف نفسه يتملك جاراتها كذلك.. فاتفقن علي تعلية السور! قالت إنها تشفق عليهم لكنها لا تملك لهم حلا ويملؤها الخوف منهم، وجه الصحفي السؤال نفسه إلي صبي من المشردين (خارج السور) فقال بغضب: كلما افترشت ورق الجرائد ليلا علي الرصيف أقول لماذا ينعمون (هم) بفراش دافئ ووجبة ساخنة بينما أتضور هنا جوعا وبردا؟ لماذا (هم) هناك وأنا هنا، سأله الصحفي هل فكرت مرة أن تهاجمهم؟ قال إن لم أفعل اليوم فسأفعلها غدا.
الآن في مصر باتت طبقات المجتمع (جزرا منعزلة) بينها أسوار، هناك (شيء) لا نعرفه.. علي وشك الحدوث.. وبتعبير الصبي البرازيلي.. إن لم يكن اليوم فغدا.. وإلا.. فمتي؟
...........................................
howayda5@gmail.com
06/11/2014