متى يعلنون وفاة الرئيس
...............................................................
بقلم : هويدا طه
...................
ثلاثة أشهر لا تتابع الفضائيات إلا لماماً.. هذه راحة عظيمة! لكن العودة لهذه الزاوية في القدس العربي- وما أجملها عودة فهي عودة إليكم- تحتم على كاتبها أن يعود ليراقب (وبشيء من الخبث) ما تلقيه الفضائيات في روع وجعبة وعقل ووعي مشاهديها! صدفة.. والله كانت صدفة.. أن تبدأ رحلة العودة إلى الإمساك بالريموت كنترول في الموضوع المفضل لدينا.. الرّيس! الرئيس مبارك كان محور هذا الأسبوع في أهم حلقات برنامج (القاهرة اليوم) على قناة أوربت وبرنامج (تسعون دقيقة) على قناة المحور.. ليس بالضبط الرئيس مبارك وإنما بالتحديد (ما بعد الرئيس مبارك)! كان هناك هاجس واضح يتمحور حول سؤال يلح به مقدموا هذه البرامج على ضيوفهم (من تراه سيحكم مصر في المرحلة المقبلة بعد مبارك؟!) هكذا وبتلك الصراحة.. فلم يعد الأمر يحتمل أن يكون متخفيا.. لكن ربما لم تكن صدفة أن يكون اللقاء في أوربت مع محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين واللقاء في المحور مع الدكتور فهمي هويدي المفكر الإسلامي المعتدل أو الوسطي (وإن كان هناك الكثير من التحفظ على هذا اللقب الغريب الذي ابتدعناه لنصف به بعض المثقفين.. "المفكر".. فالفكر حالة وليست منصبا.. ما علينا!) بالطبع قد يكون الهاجس الخفي وراء سؤال اثنين من كبار المعبرين عن التيار الإسلامي في مصر هو ذلك (الإحساس السائد بالخوف) من أن تحكم مصر قريبا من فوق منابر المساجد! رسميا على الأقل.. فهي محكومة الآن- أو قل شعبها محكوم الآن بالفعل- بالفتاوى.. الفتاوى التي تمسك بتلابيب الناس يمنة ويسرة وعقلا ووجدانا فلا تترك لهم لا عقلا ولا وجدانا.. وإن تركت فهي تترك عقلا مغيبا ووجدانا مشوها! بالطبع الدكتور فهمي هويدي ورغم أنه معروف بتعبيره عما يسمى التيار الديني المعتدل كان أكثر منطقية في تحليلاته للوضع الضبابي في مصر في اللحظة الراهنة من المرشد العام للإخوان.. فمازال (المفكر الإسلامي) أكثر مدنية وواقعية من (مرشد الإخوان) المتغطرس والذي يبدو أو يريد أن يبدو وكأنه الحاكم بالفعل.. حتى وهو يقول مقسما بأغلظ الإيمان (والله لا نريدها)!.. المحاوران في برنامج (تسعون دقيقة) معتز الدمرداش وزميلته ظهرا وكأنهما أكثر انشغالا وتخوفا من وقع إجابة الضيف على رجال الأمن! فالأمن لو تعلمون هو الحاكم بأمره في شئون الفضائيات الشارد منها والوارد! كانا يعقبان على الإجابات الأكثر صراحة بجمل تلطف من وقعها.. فحينما تحدث الدكتور فهمي هويدي عن ضرورة توفر الحريات العامة حتى يكون هناك إصلاح سياسي حقيقي بادر الدمرداش بقوله (لكننا نتحدث الآن بحرية تامة) فأجابه الدكتور بقوله إن حرية كلام بدون (مشاركة ومسائلة وتداول) هي مجرد حرية كلام لا تفيد ولا تقدم شيئا لهذا البلد، وبعد حين في البرنامج استشعر الضيف مخاوف محاورّيه على ما يبدو فقال لهما ضاحكا عندما طالباه بالصراحة:(أنا خايف عليكم إنتم!)، مُحاور (القاهرة اليوم) عمرو أديب كان كعادته أكثر ظرفا وخفة من معتز الدمرداش ثقيل الظل.. وإن بدا أيضا أنه حريص على أن يظهر- وبدون أدنى التباس- شديد المدنية مقابل ضيفه مرشد الإخوان.. فلجأ المسكين إلى خفة الظل لتنقذه من زلة الشبهتين.. شبهة التعاطف مع مرشد الإخوان فيغضب الأمن الحاكم بأمره في شئون الفضائيات.. وفي نفس الوقت كانت خفة الظل ملاذا ينقذه من غضب أتباع المرشد العام وشبهة أن يكون مهاجما لتحليلاته غير الواقعية، لكن وللإنصاف بعض إجابات المرشد العام كانت ظريفة على انتهازيتها! إذ قال وهو يدلل على صدق عدم رغبته في حكم مصر (في اللحظة التالية لمبارك مباشرة.. فالكلام على المكشوف) إنه يشفق على من يتولى حكم مصر في تلك اللحظة المرتقبة! فهو برأيه سيحكم بلدا مدمرا مفككا سياسيا واقتصاديا.. الرجل يريد أن يتسلم مصر بلدا جاهزا قويا ليحكمها ويزهد في حكم بلد مفكك! ما أزهده! حاول عمرو أديب جاهدا أن يأخذ منه إجابات واضحة حول وضع المسيحيين وموقفهم من السياحة وموقفهم من أشياء أخرى (في دولتهم القادمة)! لكن مرشد الإخوان راح يتحدث بثقة عن قوته في الشارع.. إذ يبدو أن لديه إحصائيات مؤكدة عن عدد المغيبين دينيا في مصر تمنحه هذه الثقة بأن القطيع منضبط!
الهاجس الذي استمر طوال الحوار في الحلقتين كان (المرحلة المقبلة بعد مبارك).. وعبارة (بعد مبارك) هي عبارة اصطلح القوم في مصر على اعتبارها الجملة التي تعني (وفاة الرئيس) فالاحتمال الأكبر والذي يبدو الأوحد لزحزحة مبارك وآله عن حكم مصر هو وفاته.. ليس في الأفق أي وسيلة أخرى.. لا جيش هناك.. لا شعب هناك.. لا ثورة لا انقلاب لا إصلاح لا تداول.. لا شيء إلا الوفاة، وحتى هذا الاحتمال حاول إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور اليومية إخافة الناس وإيقاف أحلامهم به، إذ كتب مقالا قال فيه (أبشروا بطول بقاء!) ذكر فيه أن جد مبارك وأباه عاشا إلى قرب المائة من السنين! ومنذ أشهر قليلة انتشرت في القاهرة إشاعة بأن (الرئيس توفي) وظلت الإشاعة تتداول بقوة حتى الثامنة مساء.. وصلت الإشاعة بالتأكيد إلى قصر الرئاسة.. وكان رد القصر أن حضر الرئيس مباراة لفريق الأهلي في الثامنة مساء مصطحبا معه حفيده! وكأنه يقول للشعب المأخوذ بأمل الإشاعة (مش بس أنا لسه هنا.. لأ.. حفيدي.. مبارك الثالث.. كمان هنا.. متحلموش)! يومها أرسل لي صديق رسالة على المحمول بعد ظهور الرّيس في المباراة قال فيها(الراجل ظهر في الماتش حي يرزق.. الظاهر عزرائيل باع القضية)! لكن وبينما ضجرت الفضائيات بطول البقاء حتى تخلت عن التحفظ وراحت تسأل مباشرة يمنة ويسرا (من القادم؟) وبينما سأم المصريون من السأم ذاته وحزنوا لتخلي عزرائيل عنهم وبيعه القضية.. أتذكر بيت شعر لأجمل وأروع شاعر عرفته العربية (هذا تحيز ووجهة نظر شخصية).. أبو العلاء المعري.. حبيبي الذي قال في شعره ذات يوم منذ ألف عام: " يسوسون الأمورَ بغيرِ عقل ٍ فينفذ أمرهم ويُقال ساسة.... فأف ٍ من الحياةِ وأف ٍ مني وأف ٍ من زمن ٍ.. رئاسته خساسة "!