جمال حمدان الراهب
...............................................................
| |
جمال حمدان | |
بقلم : خالد منتصر
.................
"أبريل أقسى الشهور " هكذا بدأ الشاعر ت. س. إليوت قصيدته الشهيرة " الأرض الخراب" و هكذا أيضاً رسم لنا هذا الشهر العاصف الكئيب أكثر الصور قسوة و عبثية، فقد رحل عنا فيه أهم عشاق مصر المحروسة و الذي كتب فيها أطول قصيدة حب في التاريخ قصيدة من 3552 صفحة تغني فيها بجمال و تاريخ و عبقرية تلك المعشوقة التي ذاب في غرامها و ترهبن في محراب حبها و إكتوي أيضا بنار هجرها و صدها و جفوتها، فجمال حمدان هو العاشق الوحيد في هذا الكون الذي أحب و ظل علي العهد و لم يتسلل إلي قلبه أبداً مشاعر كراهية أو ندم أو حتى عتاب لهذه المحبوبة و التي للأسف لم تبادله نفس الحب، بل إنها في معظم الأحيان قابلت حبه بالغدر و عشقه بالتمنع ،و إقترابه بالبعد، و ذوبانه بالبرود، و تبتله وولهه باللامبالاة و الطناش ...و في هذا الشهر من عام 1993 قرأنا خبر وفاة جمال حمدان في ركن منزو بإحدى الجرائد ،يقول الخبر.. " إنفجار أنبوبة بوتاجاز في دكتور جغرافيا "، كان الخبر مليئاً بالأخطاء المطبعية و العلمية أيضا و بدون صورة فوتوغرافية واحدة و السبب في منتهى البساطة فقد كان المحرر لا يعرف من هو جمال حمدان، و كان الأرشيف الصحفي لا يحتفظ إلا بصور المهمين VIP ..ذوي الحيثية من رجال البلد، و بالطبع لم يكن الدكتور جمال حمدان من ضمن هؤلاء المهمين ،و بالطبع لم يلتفت التليفزيون لخبر وفاته بينما أذاع خبراً عاجلاً عن مشكلة الملعب المحايد الذي سيلعب عليه الإسماعيلي و الأهلي مباراة نهائي الدوري، و في نفس يوم وفاته كانت نادية الجندي تستعد لفيلمها الجديد، ووزارة الصحة تعلن عن نجاح حملتها علي تجار الفسيخ ،و الحكومة تعلن عن نجاح خطتها في الخصخصة، و إسرائيل تبدي إرتياحاً لمسيرة السلام، و مسئولو الجمارك يرفعون الحظر عن الكافيار و السيجار الكوبي، ووزير التربية و التعليم يدلي بتصريحات عن استعدادات الوزارة لامتحانات نهاية العام، و ماسبيرو علي قدم وساق إستعداداً لليالي التليفزيون ،و المفكرون يبحثون تأثير الفيديو كليب علي الشباب ، و المثقفون من فئة تجار الشنطة يحزمون حقائبهم علي مهرجان خليجي ثمين ،و الضرائب تتصالح مع الراقصة فلانة التي وافقت علي دفع مليون جنيه ،و المودعون في الريان، و فلاحو العراق مازالوا في رحلة البحث عن فلوسهم الضائعة، وبواب العمارة رقم 25 شارع أمين الرافعى بالدقى يقتحم شقة جمال حمدان فيجده ملقي علي أرضية المطبخ و قد تفحم نصفه الأسفل تماما.
إنها أنبوبة بوتاجاز قضت في ثوان علي مشروع ذلك الراهب العملاق ، الذي اعتزل الناس و لكنه لم يعتزل الحياة، فقد كان يؤمن بمقولة سارتر" الجحيم هم الآخرون" ،فإختار العزلة في بيته المتواضع حيث الدولاب المتهالك، و السرير السفري، و الترابيزة المختفية تحت ركام الكتب، و بوتاجاز المصانع الحربية ،و الراديو و الترانزيستور وسيلته الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي فقد كان رافضاً للتليفون والتليفزيون... كانت هذه هي مفرداته المعيشية، أما مفرداته الفكرية فقد كانت باتساع العالم كله، و نستعير هنا لغة الجغرافيا التي علمنا جمال حمدان عشقها المزمن فهو إنسان بلا حدود جغرافية واضحة فيه من صفات الوادي مداه اللانهائي، و فيه من الغابة أحراشها المتشابكة المعقدة ،وفيه من النيل فيضانه ،و فيه من الجبل شممه و إباؤه، يحنو كما يحنو النيل علي أبنائه بالخير و يثور أيضا كما يثور النيل حافراً مجراه نحو الغاية و المصب ،وجهه الجرانيتي لا تستطيع أن تخطئ مصريته بلونه الأسمر المتشرب بطمي النيل و أنفه البارز و عينيه المكحلتين و شعره المجعد و وجنتيه المتحديتين و كأنهما نحتا بأزميل فنان فرعوني قديم، لم تستطع نظارته السميكة أن تخدعنا و تخفي هذه الملامح المصرية بل علي العكس فهي قد وضعتها في البرواز فبدت و كأنها ملامح فلاح مصر الفصيح الذي صناعته الخلود و قدره أن يظل مظلوماً إلي الأبد.
قصة ظلم د. جمال حمدان بدأت منذ أن تفتحت زهور عبقريته و حصل علي الدكتوراه من بريطانيا في سن صغيرة جداً في الخامسة و العشرين، و كان موضوعها عن سكان وسط الدلتا أما جائزة الدولة التشجيعية فقد حصل عليها سنة 1959 و هو في الواحدة و الثلاثين فقط ،و في الخامسة و الثلاثين ترك الفارس جواده الجامح الذي كان يعتز به ونزل ليترجل في دروب الحياة القاسية، إستقال من الجامعة إحتجاجاً علي الظلم فها هو زميله الذي حصل علي الليسانس بدرجة مقبول ليعمل بعدها رساماً للخرائط في القسم و مساعداً للأساتذة في إعداد كتبهم يتساوى معه ويحصل علي الأستاذية، و يترقى أحد المحظوظين و تكون أوراق اعتماده الوحيدة أنه من أصحاب الحظوة و المرضي عنهم ،مجرد واحد من حارقي البخور حول الكرسي ،و لكن هذا الواحد نافس جمال حمدان الذي أبي ضميره أن ينضم إلي القطيع الذي يبيع العلم لقاء السلطة ،و إستقال عام 1963 آخذاً قراره بالانعزال أو بمعني أصح الاعتصام احتجاجاً علي زمن رديء يصعد فيه الأقزام سلم المجد و الشهرة و يمارس فيه الأفاقون ألاعيب الحواة ليحققوا أحلامهم و ينزوي العباقرة و العمالقة لأنهم لا يجيدون الطبل و الزمر في زمن الموالد الثقافية و حلقات الذكر الفكرية.
إعتصم جمال حمدان في بيته المتواضع و المدهش أن إحساس الثأر و الانتقام لم يستغرقاه بل علي العكس حاول أن يبحث عن هوية مصر، فظل عاكفاً علي تأليف موسوعته العبقرية " شخصية مصر" و يجدد فيها منذ 1967 حتى صدر المجلد الأول منها في بداية الثمانينات فأثبت أنه جامعة مستقلة بذاتها من الممكن أن يتخرج منها الآلاف من التلاميذ عبر قراءة هذا السفر ،و التزود من هذه الملحمة ،و ظل جمال حمدان معتصماً في هذا البيت رافضاً الانخراط في تفاهات الحياة لا يفتح الباب لأحد إلا البواب و خاصة الأصدقاء الحميمين منكباً علي قصيدته العاشقة يكتبها بشرايينه قبل عقله و كأنه يسبق الزمن الذي كان متأكداً أنه لا يسعف العباقرة، ولا يحنو عليهم، و بعد هذا الرحيل العبثي المفاجئ خرجت جنازته و بها ثلاثون شخصا فقط ،و كأنه نكرة وليس علماً من المفروض أن يشار له بالبنان و إخترق التابوت الذي يحمل جثمانه الطاهر شوارع القاهرة التي ذاب فيها عشقاً، و للأسف كانت هذه الشوارع تعرفه جيداً، و تحفظ ملامحه أما البشر فقد كانوا يتهامسون وهم يشيرون للجثمان " جنازة مين دي؟!" و كذلك كسب جمال حمدان رهانه علي ذاكرة جغرافية الأرض التي حفظت تضاريسه، بينما خسر رهانه علي ذاكرة البشر نسوا إسمه.
أصدقكم القول كانت الجغرافيا بالنسبة لي كما هي بالنسبة لكل الطلبة في مصر مادة جافة عقيمة بل و سخيفة، كنت لا أعرف لماذا أدرسها ،و ما هي جدوي معرفة هذه الخرائط الملونة الخرساء و ما الضرر في إلغائها من المقرر الدراسي حتى نتفرغ لما هو أهم؟ ،كان هذا هو السائد عن علم الجغرافيا حتى خرج علينا جمال حمدان بملحمته عن شخصية مصر فأثبت لنا أن الجغرافيا هي كائن من لحم و دم يتنفس و يثور و يغضب، نعرف منها تضاريس الروح و ليس تضاريس الأرض، و نشم رائحة البشر لا رائحة حبر الخرائط، و نلمس فيها ملامح الحياة لاموات الحفريات ،و نسمع منها موسيقي الكون المنطلق لا صمت السكون الأخرس، فقد خلع جمال حمدان في هذا الكتاب ثوب الأكاديمي المتخصص، و ارتدي عباءة الفيلسوف و جلباب الفلاح و أفرول العامل ،وقلل من جفاف الإحصائيات لصالح اللغة الأدبية لدرجة يحس معها القارئ في بعض الأحيان أنه يقرأ شعراً، أو يشاهد لوحة، و هذا ليس بمستغرب علي هذا العبقري الذي كان يجيد الغناء الشرقي و الأوبرالي، و يمارس الرسم و الخط ويصر علي تصميم أغلفة كتبه بنفسه، و المدهش أن جمال حمدان ذلك الرجل الذي كان يحمل ملامح صارمة، و شخصية تفتقد اللباقة الاجتماعية، و سلوكاً كحد السيف، هذا الرجل كان في غاية الرومانسية ،و يحكي أصدقاؤه المقربون عن تلك الفتاة الشقراء التي أحبها أثناء البعثة و إنتهي هذا الحب بالفشل لأسباب غامضة، و لكنه ظل مخلصاً لها طيلة حياته محتفظاً بصورتها التي لم تلتهما نار أنبوبة البوتاجاز، و كأنها أرادت أن تصالحه فتركت له صورتها بعيدة عن ألسنة اللهب.
لا أستطيع مناداة جمال حمدان بلقب الجغرافي فهذا يقلل من حجمه و قامته الأسطورية و يحبسه في إطار أكاديمي متخصص ضيق، و لكني أناديه بالفيلسوف الذي استطاع صياغة الجغرافيا و تكثيفها و تقطيرها في قارورة عطر خاصة جداً يفوح عطرها إلي الأبد ألقاها في حجر و حضن الوطن ليتعطر بها عند اللزوم، و يتذكر هويته أثناء المواجهات المصيرية و برغم أنه كتب في مواضيع كثيرة قبل هذا الكتاب مثل كتبه عن الثورة و عن البترول وعن اليهود و حرب أكتوبر والاستعمار إلا أن كتابة " شخصية مصر " هو درة هذا العقد الفريد ،وملخص مشروعه الفكري كله وبصمته المتميزة التي لن تتكرر ،وظروف كتابه هذه المجلدات الأربعة هي التي جعلته بحثاً في الهوية وليس بحثاً في الجغرافيا، فقد صدر ملخصه الأول عن دار الهلال إبان هزيمة ،1967 والتي شرخت الجميع وكسرت أرواحهم إلى شظايا تحتاج إلى عملية تجبير أسطورية شبه مستحيلة، وتصدي جمال حمدان للمهمة الصعبة ، و كما كانت العزلة دافعاً لاستكمال هذا الإنجاز بعد الهزيمة كانت أيضا حاجزاً و سبباً لتشويش الرؤية قبلها، و قد كان الراهب جمال حمدان في صومعته لا يدرك كم تغيرت الأمور في الخارج، و كم نخر السوس في المؤسسة العسكرية، و لذلك كتب بتفاؤل مفرط قبل هزيمة 67 بشهور قليلة في جريدة الأهرام ثلاث مقالات و تحدث عن كيفية مواجهة إسرائيل و تصفيتها مستهيناً فيها بقوة إسرائيل العسكرية، و مضخماً من قدرة قواتنا المسلحة التي تستطيع فصل الجزء الشمالي عن الجزء الجنوبي من إسرائيل، و كان في هذه المقالات يكتب بروح الفنان عما يتمناه و يأمل فيه و يحلق بخياله بعيداً عن أرض الواقع الذي للأسف كان بعيداً عنه حين ذاك ،و لم يعرف أن قواتنا المسلحة في هذه الأحيان غارقة في مشاكل جانبية أبعدتها عن مهمتها الأساسية و لذلك كانت صدمة جمال حمدان في منتهى العنف حين إستيقظ علي هزيمة 67 فوجد جيشنا يتقهقر في صحراء سيناء بعضه يموت من العطش ،و بعضه يتوه في دروبها الثعبانية ،و البعض الآخر يسقط في أيدي الجنود الإسرائيليين أو في أيدي الإحباط و الانكسار ،و زادت عزلة الراهب، و راح جمال حمدان يلملم أوراقه و يعيد ترتيبها، و يتساءل هل تمتلك مصر بالفعل مقومات النصر؟ هل في مقدور الإنسان المصري أن يكسر دائرة الإحباط الجهنمية ليبعث من جديد مقاتلاً شرساً قادراً علي كسب معركة المصير؟؟؟، و جاءت الإجابة بنعم وأتي نصر أكتوبر ليؤكد صدق حدسه و جدوي بحثه ليتشجع و يكتب كتابه التالي علي نصر أكتوبر و أهميته الإستراتيجية .
و ظل جمال حمدان عاكفاً طوال هذه الفترة علي بحثه يواصل الليل بالنهار لدرجة أنه كان يصل في بعض الأحيان إلي 18 ساعة يومياً من العمل المتواصل، و المدهش أنه كتب قصيدة العشق الملحمية هذه و هو محروم من المعاش الذي حرم منه بسبب الروتين الغبي الذي تسمح لوائحه بالمعاش لمن قضي عشر سنوات فأكثر في الجامعة، و كان المذكور أعلاه بلغه أوراق شئون العاملين لم يقضي هذه المدة المذكورة أعلاه ،و الأكثر إدهاشاً أن جمال حمدان خاصم أحمد بهاء الدين حين طالب الدولة بمعاش استثنائي له، و كأنه كان مصراً علي استكمال ملحمته من لحمه الحي، و يقتات بالكفاف حتى لا يضطر ليكتب غير ما يقتنع به إرضاء لسلطة ما أو تملقًا لجهة مهما كانت هذه الجهة، و كما تمرد علي نظام المؤسسة تمرد أيضاً علي نظام التدجين الثقافي و رفض التعيين وقتها في أي جهة صحفية أو أي مجالس تابعة لوزارة الثقافة حتى لا يضطر إلي أن يصبح دجاجة ضعيفة الذاكرة تبيض بالأمر لتفقس بعدها كتاكيت النفاق و المجاملة لمن يمنحه المرتب الشهري فقرر أن يصبح موظفاً في مؤسسة جمال حمدان للإبداع !!
و كان اكتشافه الأول هو اكتشافه لمعادلة قوة مصر التي تتلخص في الموضع و الموقع،ال site وال situation وبينهما فرق كبير فالموضع الذي هو خصائص و بيئة و موارد داخلية لا يتناسب ولا يتكافأ مع خطورة الموقع و حين يزدهر الموضع تتم حماية الموقع و هذا مدخل لتفسير تاريخ مصر عبر القرون المتتالية ، و تحدث جمال حمدان عن تجانس مصر ووحدتها التي أدت بالتالي إلي مركزيتها و كانت هذه المركزية هي سر أمراض مصر المزمنة.
و لكن هل أدي هذا التوحد و هذا التجانس لانكفاء مصر علي ذاتها يجيب د. حمدان علي هذا بالنفي، و يقول أن مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة أيضاً، و لنقرأ ماذا قال في هذه النقطة" مصر بالحجم و الموقع هي الرأس و القلب و ضابط الإيقاع إنها في العالم العربي كالقاهرة في مصر نفسها، أما العرب أكثر منها ابنتهم، إنها مرآة العالم العربي لا ظله و مرآة مكبرة بالتحديد فيها يستطيع أن يري مستقبله" .
ولا أستطيع و أنا أقرأ هذا التحليل المبهر و هذه النظرة الثاقبة أن أقول أن جمال حمدان كان يعيش في برج عاجي بل الأصح أن أقول أنه كان يعيش في مرصد يراقب منه مصر بنظرة طائر محمي من الانغماس في نظرة الزووم لتفاصيل الحياة التي من الممكن أن تحيد بنظرته عن الهدف الأساسي ، فلنقل قد حول هذا البيت المتواضع إلي معمل تحاليل لأنسجة و دماء ووظائف و شخصية هذا الوطن ،و لحسن هذا الحظ كانت هذه التحاليل من الدقة و الموسوعية بحيث تعددت تقاريرها الثلاثة ألف تقرير و هو عدد صفحات شخصية مصر، و كانت أهم توصيات هذه التقارير هي ألا نجعل سيناء تضيع منا ،فمن يسيطر علي سيناء يسيطر علي مصر، و إذ كان حمدان إهتم بالصحراء بكلامه عن سيناء فإنه لم ينسي القرية المصرية التي قال عنها" القرية المصرية وصمة في جبين مصر و هي التحدي الحقيقي في مصر و لن تتغير مصر و تتطور جذرياً إلا إذا تم هز الريف المصري بجسمه الثقيل و لن يتغير وجه مصر تحت الجلد ما لم تتغير القرية المصرية حتى النخاع و لن تصبح مصر دولة متقدمة لا نامية إلا يوم تهدم آخر قرية مبنية باللبن" .
و من جغرافيا الأرض إلي جغرافيا البشر و تحويل جمال حمدان عالم الجغرافيا إلي عجينة من رائحة الناس و سلوكياتهم ،ننتقل معه إلي الحديث عن الشخصية المصرية و سماتها و سلبيتها، وكالطبيب الجراح الماهر يضع يده علي مكان الورم الخبيث في جسد هذه الشخصية و يقول إن معظم سلبيات و عيوب الشخصية المصرية إنما يعود أساسا إلي القهر السياسي الذي تعرضت له ببشاعة وشناعة طوال التاريخ، هذه ولا سواها نقطة الابتداء و الانتهاء مثلما هي نقطة الاتفاق و الالتقاء، السلطة، الحكم ، النظام، الطغيان، الاستبداد، الديكتاتورية ، البطش ، التعذيب ، التنكيل ، الإرهاب ، الترويع، التخويف، تلك هي الآفة الأم و أم المأساة،و من هنا يجمع الكل علي أن النغمة الأساسية أو اللحن الخفي المستمر وراء الشخصية المصرية في علاقتها بالسلطة ومفتاح هذه العلاقة التعسة هو العداء المتبادل و الريبة المتبادلة ، هي الحب المفقود و البغض الموجود بلا حدود " ثم يهاجم ما يسمي بسماحة المجتمع التي تسمح للرجل المتوسط فقط بأن يصل و تضيق بالرجل الممتاز و يصبح شعارها هو " شرط النجاح في مصر أن تكون إتباعيا لا إبتداعياً".
ولجمال حمدان أسلوب أدبي يقترب من روح الشعر ،و مقولات هي أقرب للحكم و الأمثال منها إلي النثر و الكتابة الأكاديمية ،و يصك حمدان تعبيرات أؤكد أنها ستجري مجري أبيات الشعر المحفوظة للمتنبي و شوقي و غيرهم من فطاحل الشعراء، و هذه التعبيرات المصكوكة صنعت في معمل جمال حمدان " مصر في النهاية ليست شعباً له حكومة بقدر ما هي حكومة لها شعب"،... " كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة، و كانت علي العكس بشرياً غابة لا حديقة، و إن كانت زراعياً مزرعة لا مرعي، فقد كانت سياسياً مرعي لا مزرعة""،.... "الديمقراطية لا تمنح بل تنتزع"،.... " مصر سيدة الوسط الذهبي "،...." مصر كانت تمصر كل جديد تهضمه و تمثله و تفرزه كائناً مصرياً جديداً"..الخ
إنه متفرد حتى في صياغته اللغوية، كان هذا المتفرد جمال حمدان ضحية تفرده و تمسكه بعملة منقرضة لفظها هذا الزمان إسمها الكرامة ظل محتفظاً بها في صومعته كأهل الكهف و لكنه للأسف لم يخرج مثلهم ليعرف أن هذه العملة قد إندثرت في هذا الزمان و لذلك خرج من كهفه محروقاً بنار اللامبالاة قبل أن يحرق بنار أنبوبة البوتاجاز!!
المزيد:
ماذا تعرف عن د. جمال حمدان ؟
مصرنا �