دور مصر، ومسئوليتها، وقدرها!
...............................................................
محمد حسنين هيكل
.....................
تتحمل مصر بالذات، دوراً خاصاً، بالنسبة للموضوع الذى أشغل نفسى به هذه الأيام، وألح فيه على غيرى، وهو "العمل العربى المشترك". وكان ما قلته فى هذا الموضوع حتى الآن يتلخص فى نقطتين:
النقطة الأولى - أنه قد أصبح من الضرورى - وقبل أى شىء آخر - إيجاد صيغة ملائمة وأسلوب صحيح يستطيع العمل العربى المشترك بواسطتهما أن يعبر عن نفسه وأن يمارس مهمته.
والنقطة الثانية - أنه قد أصبح من الضرورى أن يتم ذلك على ضوء عدد من المتغيرات الهامة التى تعيش بيننا الآن على الأرض العربية، بعضها مما جاءت به الأزمة الأخيرة بعد معارك يونيو الماضى، وبعضها الآخر - وهو الأكبر والأخطر - أبعد من ذلك مدى وأشد عمقاً!
ومصر وفقاً لهذا الدور الخاص الذى أتصوره مطالبة قبل غيرها من الأطراف العربية بالتقدم لإيجاد الصيغة الملائمة والأسلوب الصحيح للعمل العربى المشترك، كما أنها مطالبة ربما وحدها بإجراء حسابات دقيقة لهذه المتغيرات ولأثارها على ما كان وعلى ما سوف يكون. أى إن هذا الدور الخاص لمصر هو فى الواقع مسئولية خاصة على مصر، ومن هنا فإنى أتحدث عنه بغير تحرج من مظان الإقليمية الضيقة أو التعصب الوطنى!
وهذه المسئولية الخاصة على مصر تتصل بمجموعة من الأسباب أعد بعضها فيما يلى:
1- أن العدوان الإسرائيلى، المدعم تدعيماً شاملاً بقوى الاستعمار العالمى، قد بت نهائياً وحسم فى مناقشة طويلة دارت فى العالم العربى عن إسرائيل وعن قضية فلسطين التى أصبحت لاعتبارات تاريخية عديدة هى المحور الرئيسى للعمل العربى المعاصر بأبعاده السياسية والاجتماعية والقومية.
كان بين الأسئلة المطروحة فى هذه المناقشة مثلاً:
- هل القضية فلسطينية بالدرجة الأولى، عربية بالدرجة الثانية، أم هى عربية بالدرجة الأولى فلسطينية بالدرجة الثانية؟
- وبالتالى هل يحتمل شعب فلسطين أساساً مسئولية المواجهة ضد الاغتصاب الإسرائيلى لوطنه، ثم تساعده الأمة العربية فى هذه المسئولية، أم أن المسئولية أساساً على الأمة العربية وفى الطليعة منها - بحكم انتمائه الوطنى - شعب فلسطين؟
- أو - وهذا تعبير آخر عن السؤال الكبير فى المناقشة - هل الخطر الإسرائيلى يساوى بالضبط ذلك الجزء المغتصب من فلسطين، أو أن هذا الخطر أوسع نطاقاً من ذلك؟
......
......
إن الظروف التى مهدت للعدوان الإسرائيلى الأخير وسبقته مباشرة، وكذلك الظروف التى تم فيها هذا العدوان وجرى تنفيذه. ثم الظروف التى لحقته وما زالت مستمرة حتى اليوم - بتت نهائياً فى هذه المناقشة وحسمتها.
إن هذه الظروف كلها أبرزت حقائق مخيفة.
- بينها أن الدول العربية - خارج حدود فلسطين - لا تستطيع أن تمارس نضالها المشروع ضد الاستعمار العالمى لكى تخلص نفسها من قيوده ومن ضغوطه دون أن تكون عرضة للغارات المسلحة ضدها تتخذ من إسرائيل قاعدة ومنطلقاً لها وذلك حدث سنة 1956 عندما بلغت مقاومة مصر ضد النفوذ البريطانى ذروتها ثم تكرر سنة 1967 عندما بلغت مقاومة مصر ضد النفوذ الأمريكى ذروتها.
- وبينها أن الدول العربية - خارج حدود فلسطين - لا تستطيع مساعدة شعب فلسطين فى كفاحه ضد اغتصاب وطنه، بل إنها مطالبة أن تقوم بدور الشرطى الحارس لخطوط الهدنة مع إسرائيل، أو تتعرض للضربات الرادعة تجيئها بلا حساب وتمضى بلا عقاب كما حدث للأردن وسوريا.
- وبينها أن الدول العربية - خارج حدود فلسطين - ليست لها حرية التحرك على أراضيها الوطنية وليست لها حرية ممارسة حقوقها فى السيادة على إقليمها وكان ذلك بالضبط ما فعلته مصر حين حركت قواتها إلى سيناء وحين أغلقت خليج العقبة.
- وبينها أن الدول العربية - خارج حدود فلسطين - ليس لها الحق أن تتقارب أو أن تنسق فيما بينها ولقد عبر عن هذه الحقيقة مقال هام كتبه السفير الأمريكى "شارلز يوست" وهو ما زال يعمل فى هيئة التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية وكان هو الذى قدم مبعوثاً فوق العادة ليتولى أمور السفارة الأمريكية فى القاهرة فى الأسبوعين السابقين للعدوان.
وقد نشرت مجلة "الشئون الخارجية" هذا المقال له فى عددها الأخير الذى صدر فى يناير هذا العام وبين ما جاء فيه قول شارلز يوست:
"لقد كان بين أسباب نشوب حرب سنة 1956 - قيام علاقة خاصة بين مصر وسوريا، ثم انضمام الأردن إلى اتفاقية للدفاع المشترك تجمع هذه الدول الثلاث معاً...
وهذه الأسباب نفسها كانت أيضاً من عوامل تفجير الحرب سنة 1967 ".
إن هذه الحقائق المخيفة بدورها - أعطت تأكيداً جديداً وقاطعاً للتشخيص العربى الذائع لإسرائيل وهى أنها قاعدة للاستعمار فى وسط وطن الأمة العربية، أقامها لتكون مصدر تهديد دائم لأمنها، ولتكون حاجزاً يمنع امتداد أرضها، ولتكون وسيلة امتصاص مستمر لإمكانياتها وطاقاتها.
ليست إذن مشكلة فلسطينية فلقد كان يمكن أن تقوم إسرائيل خارج فلسطين، وذلك فعلاً ما يكشفه تاريخ الحركة الصهيونية. فلقد جاء وقت من الأوقات رشحت فيه صحراء سيناء لتكون مكاناً تقوم فيه إسرائيل.
وليست الآن مشكلة مقصورة على حدود فلسطين القديمة فإن حلم الدولة الإسرائيلية الممتدة من الفرات إلى النيل ليس سراً خافياً كما أن المرء ليس فى حاجة إلى إرهاف أذنيه لكى يسمع شعارات "إسرائيل الكبرى" فذلك الشعار لا يتردد الآن همساً فى إسرائيل وإنما هو يناقش علناً وهو ينادى بضم الأراضى المحتلة كلها لكى تصبح جزءاً من إسرائيل.. كخطوة أولى!
أى أن الخطر الإسرائيلى أوسع من خطوط الهدنة السابقة فى فلسطين وأوسع من حدود فلسطين كلها، أوسع من الاغتصاب الجزئى الذى كان واقعاً قبل المعارك الأخيرة وأوسع من الاغتصاب الكلى الذى وقع نتيجة للحرب الأخيرة.
أى أن مسئولية المواجهة مع الخطر الإسرائيلى هى مسئولية الأمة العربية بأسرها - فهى بأسرها معرضة له وإذا كان للشعب الفلسطينى بحكم انتمائه الوطنى دور الطليعة فى هذه المواجهة فذلك يجعل لهذا الشعب وضعاً متميزاً فى النضال ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يكون منفرداً أو منعزلاً.
وإذن فإن القضية الفلسطينية قضية عربية عامة بالدرجة الأولى.
إذا كانت قضية فلسطين قد تأكد وضعها كقضية عربية عامة بالدرجة الأولى، فمعنى ذلك أن مصر تتحمل من تبعاتها أكبر نصيب، وذلك شأن مصر فى أى قضية عربية عامة وهو أمر الطبيعة نفسها أو طبيعة الأمر..
- مصر هى الوزن السكانى الأثقل فى العالم العربى فشعبها أكثر قليلاً من ثلاثين مليوناً ضمن أمة عربية أقل قليلاً من ثمانين مليوناً.
- ومصر هى طاقة الإنتاج الأكبر فى العالم العربى ومع أن عدد السكان يجعل نصيب الفرد منهم فى الدخل القومى أقل من نصيب الفرد فى بعض الشعوب العربية الأخرى مع أن الدخل القومى المصرى أكبر فى مجموعه - إلا أنه يبقى لمصر فى هذه الناحية أن طاقة إنتاجها مصدرها العمل وحده وليس مصدرها الصدفة العارضة.
وإذا كانت مصر - وهى تدخل عصر إنتاج البترول على نطاق واسع - توشك أن تضيف ثروة الصدفة العارضة إلى ثروة العمل الدائم فإنه من المأمول فيه أن تتمكن الشعوب العربية التى تعيش الآن على ثروة الصدفة العارضة من أن تضيف إليها وعلى أساسها ثروة العمل الدائم، لكن ذلك ما زال أملاً مدعواً للمجىء ولم يصل بعد!
- ومصر هى البلد العربى الأقرب إلى تحقيق الوحدة الوطنية الكاملة ولعلها وسط العالم العربى، بلد وحيد لا يعانى مشاكل الصراعات العنصرية، والطائفية، والقبلية.
ولقد كان من هنا ومن ارتباط حياة شعب بمجرى النيل أن نشأ مفهوم الدولة لديه منذ أقدم العصور وكان ذلك مدخله إلى الإسهام الفعال فى حركة التاريخ.
والشعوب التى قدرت على الإسهام فى التاريخ هى نفسها الشعوب التى تقدر على الإسهام فى المستقبل، ذلك لأن التاريخ تصنعه العوامل الثابتة فى نشوء الأمم وارتقائها وهذه العوامل نفسها هى التى تصنع المستقبل بصرف النظر عن فجوات التراجع العابرة.
- ثم كانت مصر فى العصر الحديث هى الأسبق إلى الثورة بمفهومها الحقيقى، مفهوم الأصالة والتجدد فى نفس الوقت وكان من أثر ذلك أن تكونت فيها العناصر البشرية المقتدرة التى هى حصيلة الادخار الحقيقى فى أى شعب من الشعوب، ولقد كان مناخها العام - برغم كل المعوقات - هو الذى سمح للفكر العربى الحديث أن يعيش عصر يقظته فى أواخر القرن الماضى وأوائل القرن الحالى.
- ويضاف إلى ذلك - إنصافاً - أن الأمة العربية أعطت لمصر مكانها الطبيعى ولم تسمح لأحد بأن ينكره عليها أو ينازعها فيه.
3- هذه الاعتبارات كلها تمكن مصر من القيام بمهمة حيوية للنضال العربى المعاصر وأعنى بها مهمة تحديد المنهج العلمى للمواجهة على الخط الإسرائيلى والمواجهة لا يمكن أن تكون شيئاً آخر غير منهج علمى.
والمواجهة هى المعرفة... وقيادة المواجهة هى المعرفة أيضاً ونحن - كما أثبتت الظروف - لا نعرف عدونا معرفة كافية وقصارى ما نصل إليه فى بعض الأحيان أننا نتصور أننا نعرفه!!
- ما هى أصول وجذور التاريخ اليهودى..؟ ما علاقة اليهودية بالصهيونية؟... ما علاقة الدولة فى إسرائيل بالأقليات اليهودية فى العالم كله وما يسمونه "بالدياسبوراه" أو التيه؟
ليست هناك معاهد ومراكز بحث كافية تعمل وتنتج باللغة العربية!
- ما هى حقيقة الصلة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟ وإلى أى مدى ارتباطهما؟
ما زالت الإجابة على هذا السؤال الحيوى خاضعة للاجتهادات المتعارضة المتضاربة... والمغرضة فى كثير من الأحيان.
- الذين تهمهم لأسباب سياسية واجتماعية علاقاتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية يقولون:
أمريكا شىء.. وإسرائيل شىء آخر وأنتم تحاربون إسرائيل وحدها فإذا كنتم لا تستطيعون فسلموا بالعجز أمامها ولا تلقوا اللوم على طرف آخر!
- وهناك غير هؤلاء يقولون:
أبداً أمريكا وإسرائيل شىء واحد وليس هناك فارق بينهما ولا فى أدق التفاصيل.
وبعض هؤلاء يقولون ما يقولون بحسن نية يدفعها الغضب.
والبعض يقولون ما يقولون بسوء النية، يدفعون الأمة العربية إلى اليأس، ذلك أنه إذا كانت المواجهة المباشرة بالسلاح مواجهة مع أمريكا... فما هى الفرصة لتحقيق أى نصر عربى؟
والحقيقة فى ظنى تكمن فى نقطة ما وسط كل هذه الأقوال المتعارضة المتضاربة والمغرضة فى بعض الأحيان... ولكنه لا بد من بحث علمى عنها.
- ما هى قوة إسرائيل الفعلية.. أقصد قوتها الاقتصادية فالقوة الاقتصادية هى المعيار الثابت للقياس.
إن هناك من وصل بهم الوهم إلى حد تصور أن إسرائيل هى نموذج التقدم ذاته، وليس هناك شك فى تقديرى أن هناك تقدماً فى إسرائيل ولكن ما هى حدوده وما هو مدى احتماله؟
ولقد حصلت إسرائيل مثلاً على 7 آلاف مليون دولار فى صورة منح وإعانات وقروض لا ترد ومعنى ذلك أن جزءً كبيراً من نصيب الفرد من الدخل القومى يجىء منة وإحساناً من وراء البحر.. فهل هذا وضع يدوم، وتقوم عليه قوة حقيقية؟
ثم إن أرقام الصادرات الإسرائيلية تكشف أوضاعاً غريبة 30% مثلاً من صادرات إسرائيل من الموالح... فهل فى ذلك معجزة؟
30% مثلاً من صادرات إسرائيل من الماس خام يرسل من جنوب أفريقيا لكى يصقل فى إسرائيل ويعاد تصديره وذلك ليس إنتاجاً بالمعنى الحقيقى ثم إن هذا الموضوع يطرح مسألة هامة بالنسبة لارتباطات إسرائيل مع الكيانات العنصرية البيضاء - النماذج الحية للاستعمار الجديد - فى جنوب أفريقيا!
وفى مقابل ذلك فإن العدو الإسرائيلى يكاد يعرف عنا كل شىء.
ولقد فرغت هذا الأسبوع مثلاً من قراءة كتاب ظهر أخيراً فى باريس تحت عنوان "جاسوس دمشق" وهو عن قصة "إيلى كوهين" الجاسوس الإسرائيلى الذى قبض عليه قبل سنتين فى دمشق وحوكم وأدين وأعدم.
وتكفى تفاصيل القصة ووقائعها لإعطاء صورة كافية عن درجة معرفة العدو بنا وهى معرفة تساعده عليها ظروف كثيرة.
لقد ولد إيلى كوهين جاسوس دمشق فى الإسكندرية وعاش فيها حتى سنة 1957 واتصلت به المخابرات الإسرائيلية وحاولت تجنيده للعمل فى خدمتها.
وقبضت عليه السلطات المصرية مرة للتحقيق معه سنة 1954 فى حوادث الجاسوسية والتخريب التى عرفت فيما بعد باسم قضية "لافون" والتى هزت الحياة السياسية فى إسرائيل هزاً.
ولم تكن الأدلة ضد إيلى كوهين كافية فأفرج عنه وبقى عدة سنوات بعدها فى مصر بغير أمل حتى غادرها سنة 1957 إلى فرنسا ومنها اتجه إلى إسرائيل، وهناك بدأ إعداده لخدمة المخابرات الإسرائيلية فى دور أكبر وذلك استفادة من حياته ثلاثين سنة فى بلد عربى.
وقضى سنة يعمل فى ترجمة الصحف العربية لحساب فرع المعلومات بالمخابرات الإسرائيلية، ومن هذا الجزء من التفاصيل نعرف أن إسرائيل تحصل على نسخ من كل جريدة ومجلة ونشرة دورية تصدر فى العالم العربى وأن هذه المطبوعات كلها تصلها يومياً عن طريق قبرص حيث تجرى قراءتها وترجمتها على الفور.
ويتقرر إعداد إيلى كوهين للعمل فى سوريا بالذات وهكذا ينتقل من ترجمة الصحف إلى قضاء سنة فى تعلم اللهجة السورية.
ويظهر إيلى كوهين بعد ذلك فى سويسرا.. ثم إذا به فى البرازيل وقد حصل على جواز سفر برازيلى كمهاجر من العالم العربى.. أصله سورى واسمه كمال أمين ثابت.
ويقضى إيلى كوهين فى البرازيل عدة سنوات تحت اسم كمال أمين ثابت ويختلط بنشاط الجالية العربية وبهذه الصفة كما تقول وقائع الكتاب يتعرف إلى الفريق أمين الحافظ وكان وقتها ملحقاً عسكرياً بالسفارة السورية فى البرازيل وأصبح بعدها، وبعد اشتراكه فى لعبة الانقلابات السورية، رئيساً للدولة فى دمشق.
وذات يوم يقرر إيلى كوهين أو يقرر له رؤساؤه أن يذهب إلى دمشق فلقد واتت فرصة الاستفادة بكل ما جرى إعداده له.
ويعود إلى دمشق شاباً متحمساً قادماً من المهجر، ساقه الحنين إلى وطنه الأصلى، فجاء بثروته يصرف منها عن سعة، وتفتحت له أبواب كثيرة فى دمشق!
وفيما تقوله صفحات الكتاب فإنه أقنع بعض أقطاب القيادة السابقة لحزب البعث الحاكم فى سوريا بضرورة فتح مكاتب وفروع للحزب فى المهجر، وهكذا اتصل بصميم نشاط الحزب ومن ثم بصميم نشاط الحكم فى سوريا.
وبدأت رسائله تنتظم إلى المخابرات الإسرائيلية... رسائل تحوى معلومات مستندة إلى أوثق المصادر وأعلاها فى دمشق.
والمدهش أن قصة إيلى كوهين لم تنكشف إلا بمحض الصدفة، فلقد نشرت الصحف السورية ذات مرة صورة للفريق على على عامر قائد القيادة العربية الموحدة بينما هو يزور الجبهة وحوله بعض كبار القادة العسكريين وأقطاب الحزب فى سوريا.
ووضعت الصورة فى القاهرة - كإجراء روتينى - تحت الفحص فإذا بوجه فى الصورة يلفت النظر، تذكره أحد من كانوا قد حققوا معه عندما قبض عليه فى الإسكندرية سنة 1954 وطلب على الفور ملفات القضية وبين أوراقها صورة لإيلى كوهين.
وطارت هذه المعلومات فوراً إلى دمشق.
وهوجم بيت كمال أمين ثابت - أو إيلى كوهين - فإذا هو على جهاز الإرسال متصل بالمخابرات فى إسرائيل فعلاً!
......
......
وإلى جانب قصة إيلى كوهين وفصولها المثيرة فإن هناك مئات ألوف من يهود العالم العربى يعيشون الآن فى إسرائيل...
وعلى سبيل المثال فلقد كان أفراد قوة الضفادع البشرية الذين ألقت بهم إحدى الغواصات الإسرائيلية على حاجز الميناء فى الإسكندرية مساء يوم 5 يونيو الماضى كلهم من يهود الإسكندرية.
وكانت مهمتهم أن يتحولوا إلى فرقة تخريب فى مدينة يعرفون كل شوارعها بل وكل حواريها. ولولا أن أحد أفراد المقاومة الشعبية كشف أحدهم يحاول تسلق الصخور عند شاطئ قلعة قايتباى - وبالتالى أمكن القبض عليه وعليهم جميعاً - لتمكنوا من تنفيذ خطتهم أو أجزاء منها!
ثم يبقى قبل ذلك كله أن الجامعة العبرية تقوم بأعمق الدراسات عن العالم العربى، وما زال رأيى أن أدق بحث فى تاريخ ملكية الأرض الزراعية فى مصر هو البحث الخطير الذى قام به الأستاذ جابرييل باير أستاذ التاريخ الاجتماعى المصرى بالجامعة العبرية...
وهكذا يعرف العدو.
وهكذا لا نعرف نحن.. وقصارى ما نصل إليه كما قلت "أننا فى بعض الأحيان نتصور أننا نعرف!".
ومصر - قبل غيرها من الدول العربية - مطالبة بجهد أكبر من أجل معرفة علمية أدق بالعدو.. وهى المهيأة لتحصيل مثل هذه المعرفة وتحليلها ووضعها فى خدمة المواجهة مع العدو خصوصاً وإنها هى التى تتحمل قيادة هذه المواجهة!
4- إن الجزء المباشر من هذه المواجهة - أى المواجهة العسكرية - لا يمكن أن يتحمل مسئوليته غير مصر.
ذلك أنه حتى الهدف العاجل وهو هدف إزالة آثار العدوان لا يمكن أن يتحقق بغير صدام بالسلاح.
وإلى جانب صحة المبدأ القائل بأن "ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغير القوة" فإن الاعتبارات العملية فى الصراع تجعل هذا الصدام بالسلاح - فيما يبدو الآن - أمراً لا يمكن تجنبه لسببين:
- أن الحل السياسى يكاد يكون مستحيلاً.. لأن ما ترضاه إسرائيل نرفضه نحن، وما هو مقبول منا مرفوض من إسرائيل
إن الحل السياسى لأى مشكلة بين طرفين لا يمكن إلا أن يكون تعبيراً عن أوضاع القوة بينهما.
وفى معارك يونيو فإن الميزان مال كثيراً لصالح إسرائيل وبالتالى فإن تعديل هذا الميزان على الأقل شرط ضرورى لحل سياسى يمكن أن يكون مقبولاً.. بمعنى أن يرتضيه الجانب العربى، ولا يقوى الجانب الإسرائيلى على رفضه.
- ومن ناحية أخرى، فإن الحرب الشعبية، المتمثلة اليوم فى نشاط قوى المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين لا تستطيع - ولا يمكن لأحد أن يطلب منها تحقيق نتيجة حاسمة فى الصراع.
والذين يتصورون أن فى استطاعة المقاومة الثورية الفلسطينية أن تحقق ما حققته المقاومة الثورية الجزائرية مثلاً يظلمون أبطال المقاومة الفلسطينية فضلاً عن ظلمهم لمجرى النضال العربى العام.
وأستشهد فى هذا الصدد بمقارنة بين الوضع الجزائرى والوضع الفلسطينى سمعتها من الأستاذ وليد الخالدى وهو من أبرز الدارسين للقضية الفلسطينية وكان فى القاهرة أخيراً يحضر ندوة أقامها "الأهرام" عن مشكلة الإعلام للقضية الفلسطينية فى الأوضاع الراهنة.
وكانت وجهة نظر الأستاذ وليد الخالدى على النحو التالى:
"إن القياس بالحرب الجزائرية لا يستقيم وذلك للأسباب التالية:
- نسبة الجزائريين للفرنسيين كانت 8/1 بينما نسبة الإسرائيليين للعرب فى فلسطين2/1.
- نسبة الجنود الفرنسيين للجزائريين المدنيين كانت 1/16 بينما نسبة الجنود الإسرائيليين للعرب المدنيين 1/4.
- مساحة الجزائر 2 مليون كيلو متر مربع بينما مساحة فلسطين 16 ألف كيلو متر مربع.
- فى الجزائر مخابئ وملاجئ داخلية - غابات ومناطق جبلية يصعب دخولها - بينما لا يوجد متر مربع من الأرض الفلسطينية لا يمكن الوصول إليه براً فى ثلاثين دقيقة.
- نوعية الكثافة الفرنسية فى الريف تختلف عن نوعية الكثافة الإسرائيلية فى ريف فلسطين فلقد كانت الأولى مزارع يملكها أفراد بينما الثانية مستعمرات مسلحة.
- رغماً عن وحشية تصرفات فرنسا فى الحرب الجزائرية فإن الإستراتيجية الفرنسية لم يخطر ببالها يوماً إجلاء الشعب الجزائرى بينما الإجلاء هو إستراتيجية إسرائيل.
- وأخيراً كانت للمناضلين الجزائريين قواعد خارجية لم تستطع فرنسا أو لم ترغب فى ضربها وهذا عكس موقف إسرائيل تماماً من قواعد العمل الفدائى الفلسطينى خارج فلسطين معنى ذلك كله وهو صحيح أن دور المقاومة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة مع أهميته الكبرى لا يمكن أن يكون دوراً حاسماً.
أى أن هذه المقاومة ليست بديلاً عن المواجهة المسلحة.. إذا جاء دورها.
أى جيش فى مواجهة جيش.. وأسطول فى مواجهة أسطول.. وطيران فى مواجهة طيران.
وهنا مسئولية مصر باعتبارها الأقدر عربياً على دفع جيش حديث إلى ساحة المعركة.
ومهما يكن من أمر هزيمة يونيو فإن الجيش المصرى بالذات يبقى الأمل فى المواجهة إذا كان هناك أمل فى المواجهة.
والجيش البريطانى لم يضع دوره وحقه فى انتصار الحرب العالمية الثانية الكبير بهزيمة دنكرك، ولا ضاع دور وحق الجيش السوفيتى فى نفس الحرب بوصول هتلر إلى أبواب موسكو.
5- يبقى السبب الأخير فى مسئولية مصر الخاصة.
هذا السبب هو أن العدو يعرف دور مصر وبالتالى يعرف مسئوليتها ومن هنا فهى نفسها الهدف الأول له، وهى قبل أى طرف غيرها مقصد الضربة العدوانية الأولى الصادرة عنه.
حتى إذا تركته فهو لا يتركها... لأنه لا يملك أن يطمئن إلا إذا تأكد من عجزها، ولا يملك أن يدير عنها اهتمامه إلا إذا كانت تحت قدميه جريحة تنزف دماً وبقرب الموت!
تلك لمحات عن دور مصر الخاص بالذات...
وهو يوجب عليها مهمة وضع صيغة ملائمة وأسلوب صحيح للعمل العربى المشترك يستطيع بهما التعبير عن نفسه وممارسة مهمته وهو يوجب عليها فى نفس الوقت أن يكون ذلك على ضوء المتغيرات الهامة التى تعيش بيننا الآن فى العالم العربى.
هو دور مصر قبل غيرها من الأطراف العربية لأنها مسئولية مصر بالدرجة الأولى.
مسئوليتها وقدرها!.
يناير 1968