أحلام رجل عادى
...............................................................
| |
عبدالناصر | |
بقلم : ممدوح حمزة
......................
صباح ٢٨ سبتمبر ٢٠١٠ تركت سريرى، بملاءته القطنية البيضاء من إنتاج غزل المحلة، وخلعت بيجامتى «جورج»، وغسلت وجهى بصابونة «شم النسيم»، وتبعت هذا بدوش لـطيف مستخدما صابونة «نابلسى». كنت أرجو أن تكون حلاقة ذقنى بموسى «ناسيت» لكن مصنعه أغلق.. ارتديت ملابسى الداخلية ماركة «جيل» وشرابا من إنتاج «الشوربجى» وقميص «سويلم» لينو «مصر البيضا»، وأخيراً البدلة «الاستيا» ثم كولونيا الشبراويشى «الثلاث خمسات» ووضعت قدمى فى حذاء من «باتا».
كل ما لامس جسدى فى هذا الصباح صنعته أيادى أولاد بلدى- سواء فى القطاع العام أو الخاص. ربما ليست الأشيك، وليست الأرق، وليست الأنعم، لكنها الأقرب إلى قلبى والأكثر قبولاً لعقلى وضميرى، فهى تجعلنى شريكاً فى منظومة تنمية مصر بالقدرة الذاتية، وهى التنمية التى تعمل أيضاً على رفع هذه القدرة الذاتية، وتجعلنى شريكاً فى الحفاظ على توازن الميزان التجارى، فكل مليم دفعته فى كل منتج يعود إلى أبناء هذا البلد.
لم أجد شقة بلدى فول أو شقة بلدى طعمية فى محل «نجف»- ولكنى كنت فى طريقى إلى ضريح عبدالناصر، وكان معى القرص والبرتقال.
أتأمل فى موروث الرجل فأجد أن التنمية بالقدرة الذاتية المصرية هى الموروث الأساسى الذى تركه جمال عبدالناصر، وهى نمط التنمية الحقيقية التى بدأها يوم ١٨ أكتوبر ١٩٥٢. أى أنه قبل انقضاء مائة يوم على قيام حركة الضباط الأحرار والتفاف الشعب حولها كان جمال عبدالناصر يقرأ دراسة جدوى ابتدائية عن مشروع السد العالى،ثم كلف مجموعة من مهندسى الجيش المصرى، ومهندسى وزارة الرى، وأساتذة الجامعات من مختلف التخصصات لاستكمال الدراسة؛ لم يكلف بيت الخبرة ماكينزى أو بوزآلن كما يحدث الآن، فقد اعتبر السد العالى أهم مشروع تنموى فى مصر- وهو ما تأكد فى بدايات القرن الواحد والعشرين عندما اختارت المؤسسات العالمية المتخصصة السد العالى بوصفه مشروع القرن العشرين الأكثر خدمة للبشرية.
وبالرغم من امتناع البنك الدولى عن تمويل المشروع، ووقوف الولايات المتحدة والغرب صفاً واحداً ضده، لم يخضع الزعيم، ولم يهادن، ولم يردد عبارات الاستسلام الاستنكارية على شاكلة «هل سأحارب أمريكا؟» أو «كل أوراق اللعبة فى يد أمريكا»، بل استمر فى المشروع من أجل الشعب، واستمد قوته من عظمة وسمو الهدف، رغم الحرب الشعواء التى صوبت أسلحتها إليه، فاستطاع أن يكمل مسيرته وكان الشعب هو مصدر استقوائه.
إن المتابع لحركة وتطور الثورات فى العالم يرصد غالباً تفرغ الثوار خلال السنوات الأولى لترسيخ قواعد الحكم والسيطرة، وتأجيل مشروعات التنمية حتى يتم الاستقرار السياسى خوفاً من سقوط الثورة. أما فى الحالة المصرية فقد تبلور إصرار الزعيم على بناء السد العالى، كقاطرة للتنمية الزراعية، والصناعية، والبشرية، سابقاً للتخطيط لترسيخ السلطة. هذا رغم كل ما تبعه من عواقب مصيرية، ونتائج إستراتيجية، كان من أبرزها التوجه نحو الشرق، وتأميم قناة السويس، وعدوان ١٩٥٦. كان يعلم جيداً أن فشل المشروع هو فشل نظامه بالكامل، ومع ذلك آثر المضى فيه وفى التنمية، وهو يعلم أنه يهدد بقاءه، أى أنه قدّم، وبوضوح، مصلحة الشعب على مصلحة حكم حركة الضباط الأحرار.
كان مشروع السد العالى قاطرة التنمية فى مصر: هذه أبسط إجابة يمكن أن نرد بها على تساؤل «ماذا قدم السد العالى لمصر؟» كان مدرسة تخرج فيها أكفأ المهندسين الذين خدموا البلاد طوال الثلاثين عاماً اللاحقة، وكانوا أيضاً سفراء التنمية فى أفريقيا والبلاد العربية، ونشأت لأجله شركة المقاولين العرب، بالتزاوج الذى حققه عبدالناصر بين شركتى مصر للأسمنت المسلح وشركة المشروعات الهندسية (عثمان أحمد عثمان)،
كما ولدت له شركات هايدليكو وكهروميكا وإليجيكت. لم يكن السد العالى خزانا فقط، أو مجرد مشروع لتحويل مجرى النهر وإنشاء أكبر بحيرة صناعية فى العالم وتوليد الطاقة وزيادة الرقعة الزراعية، وإنما كان معملاً لتفريخ الكفاءات الهندسية التى تمكنت من حرفة صناعة الإنشاءات والسدود خارج مصر وداخلها، فصار لدينا جيل هندسى رفيع المستوى.
وليس هناك وجه للمقارنة بين السد العالى (١٩٧٠) من ناحية، وبين سدّى إسنا (١٩٩٠) ونجع حمادى (٢٠٠٨) من ناحية أخرى، فسدّا إسنا ونجع حمادى لا يصلان، معاً، لأكثر من ١٠% من حجم أعمال السد العالى أو صعوبتها، ومع ذلك عهد إلى شركة إيطالية بإنشاء الأول، وشركة فرنسية/ألمانية بإنشاء الثانى، وكان المصريون مجرد فواعلية فى المشروع، ولم يثمر أى من السدين خبرة هندسية ولم تولد منهما شركات عاملة فى هذا المجال كما حدث مع السد العالى، وسُجل هذان السدان كخبرة سابقة لمكاتب استشارية وشركات مقاولات أجنبية ولم تسجل خبرة تراكمية لمصر، والخبرة التراكمية هى أساس تصدير صناعة الإنشاءات.
وعلى طريق التنمية أيضاً، بدأ الزعيم جمال عبدالناصر مشروع الطاقة النووية فى إنشاص عام ١٩٥٨، بعد قيام الثورة بست سنوات، وبعد نحو عام كان مشروع الصواريخ المصرى قد بدأ على يد العلماء، والخبراء، والمهندسين، والعمال، (بالاستعانة بالخبرة الألمانية).
وكانت التنمية على أرض مصر مصدر إزعاج للآخرين، ففى زيارة لأحد المسؤولين الأمريكيين عند بداية الثورة، سُئل جمال عبدالناصر عن نواياه تجاه فلسطين المحتلة وإسرائيل، وكان رد عبدالناصر «نحن نركز على التنمية وليس هناك مجال الآن للتفكير فى إسرائيل...»، وتم نقل هذه الإجابة حرفياً إلى بن جوريون فأصيب بصدمة وأخذ يردد «هذا أسوأ ما سمعت»، فكان يعلم تماماً أن التنمية هى التقدم وهى القوة. ولكن التنمية الحقيقية القائمة على القدرة الذاتية، وليس على المعونات والخبراء الأجانب، هى التنمية التى ترفع قدرة أبناء هذا البلد، فيكون الناتج من أى مشروع ليس فقط تنمية أو تشكيل الحجر، وإنما فى الأساس تنمية البشر حيث الثروة الحقيقية.
كان عبدالناصر يعلم تماماً مدى أهمية التنمية الحقيقية، ولذلك جاء عصره بتنمية لم ترها مصر منذ أربعة آلاف سنة. وتوقفت بعد عام ١٩٦٧، ويجرى تدميرها بشكل ممنهج منذ عام ١٩٧٤.
فى عام ١٩٥٤ أنشئ معهد بحوث البناء برئاسة الدكتور عزيز يس، وفى ١٩٥٦بدأت أبحاث مشروع دراسة القرية المصرية الذى كانت تخطط له وترعاه وزارة الشؤون البلدية والقروية بقيادة الدكتور شفيق الصدر وعين لهذا الغرض الثلاثة الأوائل من خريجى أقسام عمارة ومدنى من كليات الهندسة الثلاث بالجامعات المصرية، وأعرف منهم صلاح حجاب، شيخ المعماريين وحامل مفاتيح وذاكرة الهندسة فى مصر والمنطقة.
وذهب شباب الخريجين لعمل مسح شامل للقرى موضوع البحث، وكان المهندسون حديثو التخرج يقيمون فى كل قرية، بالمركز الاجتماعى التابع للمجلس القومى للخدمات الذى رأسه الدكتور عزيز صدقى. وتم إعداد مشروع تنمية القرية المصرية، فبدأ فى عام ١٩٦١، بميزانية تصاعدية تصل إلى ٩٠ مليون جنيه فى السنة، وكانت الفترة التى يحتاجها المشروع ٣٠ سنة، أى ينتهى عام ١٩٩١. وتم عرض المشروع على هيئة الأمم المتحدة، وحاز التقدير والاعتماد - إلا أنه توقف عند حرب ١٩٦٧.
ويُذكر فى هذا السياق أن المركز القومى للبحوث، سنة ١٩٥٦، كان يضم قسماً للطاقة الشمسية فى استخداماتها المختلفة، وكان أحد مشروعاته إنتاج «راديو» يعمل بالطاقة الشمسية لكى تصل الإذاعة إلى كل قرية فى مصر، بل إلى الشعب العربى كله قبل وصول الكهرباء! هذا هو التنوير الذى تتطلبه التنمية بالقدرة الذاتية.
وتم أيضاً، إنشاء مصانع الراديو الترانزستور، وأيضاً أجهزة التليفزيون، فبدأ البث عام ١٩٦٠ فى كل بيت مصرى قادر على اقتناء التليفزيون، عن طريق أجهزة تليفزيون صناعة مصرية.
وبالتوازى بدأ عبدالناصر فى إنشاء شركة التعمير والمساكن الشعبية، برئاسة المهندس على نور الدين نصار، لتوفير سكن مناسب لمحدودى الدخل، كما أنشأ مطار القاهرة عام ١٩٥٨ بمسابقة معمارية علنية فاز بها المعماريان المصريان، صلاح زيتون، ومصطفى شوقى، وهو المبنى والمشروع الذى يحق لنا أن نفخر به، على العكس من مبانى المطار الجديد التى قامت بتشييدها شركات هولندية وتركية بعد نصف قرن من مشروعنا الأصلى.
وكان مشروع مديرية التحرير، ذلك المشروع الزراعى العملاق، الذى تم توصيل مياه النيل إليه، وكانت تهدر فى البحر منذ قديم الأزل، ومشروع الوادى الجديد الذى اعتمد على المياه الجوفية. وبدون أصوات زاعقة، أو إعلام متصنع، بدأت الهيئة العامة لتعمير الصحارى، التى أنشئت عام ١٩٥٧، العمل فى الوادى الجديد، وكان يخطط لها الدكتور أحمد أمين مختار، رئيس قسم التخطيط بجامعة الأزهر، بينما شكل لواء من سلاح المهندسين بالجيش المصرى السواعد التى قامت ببناء مجموعة كبيرة من القرى فى الوادى الجديد، وما زال بيننا المهندس القدير، حسين إدريس، الذى قضى شبابه شاهداً على هذه الملحمة. وتم فى نفس الوقت بناء مجموعات من القرى، فى عدد من المحافظات، أتذكر منها قرية أبيس جنوب الإسكندرية، وقرية كوتا على طريق الفيوم.. وغيرهما.
كانت هناك حقيقة مؤكدة وهى أن ٧٠% من سكان مصر هم أهل ريف، وبالتالى كان لا بد من الاهتمام بهم وبناء قرى جديدة لهم قبل الاهتمام بتشييد مدن جديدة، فالـ٧٠% أولى بالرعاية والاهتمام من الـ ٣٠%. وظنى أنه لو استمر مشروع تنمية وبناء القرى هذا لكانت مدن مصر اليوم بدون العشوائيات التى يسكنها النازحون والناتجة عن إهمال الريف.
لم يكن الاهتمام ببناء القرى الجديدة هو مجمل اهتمام ثورة يوليو فى إطار خطة التنمية العمرانية والسكنية، وإنما كان هناك بالتوازى عدة مشروعات لبناء مساكن للعمال بالمناطق الصناعية، ومنها إسكان العمال فى إمبابة، وإسكان العمال فى حلوان، وإسكان شركة كيما، وغيرها من مساكن العمال بالمحلة الكبرى، وكفر الدوار، وكافة المناطق العمالية فى مصر، وإسكان الطبقات الوسطى مثل إسكان زينهم، والبالون، وجسر السويس (الألف مسكن)، وكان هناك أيضاً مشروعات تنمية عمرانية سكنية فى مدينة نصر والمقطم والمعادى والمنتزه والمعمورة.
سعى عبدالناصر فى طريق التنمية الشاملة، أى التنمية العمرانية والزراعية والصناعية، فأنشأ مصانع الحديد والصلب، ومجمع الألومنيوم بنجع حمادى، ومصانع الأسمدة، والأسمنت، والغزل والنسيج، والكيماويات. وتم رصد كل ذلك وعرضه على الشعب المصرى من خلال مجلة «بناء الوطن» الشهرية، وعبر عنه صلاح جاهين فى حينه قال «مكن مكن مكن.. كلنا عاوزين مكن»، وكل ذلك بالقدرات الذاتية: اعتمد على التمويل الذاتى لمعظم المشروعات، كما اعتمد على خبرات أهل البلد ليحقق التنمية البشرية ضمن ما حققه.
ووسط هذا الزخم كان عبدالناصر ناصراً للحركات الوطنية التحررية بالوطن العربى، وأفريقيا، بل وأمريكا اللاتينية، ونصيراًَ لكل الشعوب النامية، وكان مناراً للتنمية والتقدم فى آسيا. أكثر من أربعين حركة وطنية تحررية كان لها ملاذا آمنا، وصدرا حنونا، ودعما، فى القاهرة، وتحديداً فيلا رقم «٥» شارع أحمد حشمت بالزمالك.
نيلسون منديلا، مثلاً، نام على مرتبة على الأرض فى هذه الفيلا، وقدمت مصر كل أشكال الدعم للثوار وقادة حركات الاستقلال، فكانت هناك ٤٥ إذاعة موجهة لأفريقيا باللغات المحلية، ولم ينس عبدالناصر الأهمية الاستراتيجية لحوض النيل، حيث واصل دعم دول الحوض بمختلف الأشكال،
وأنشأ شركة النصر للاستيراد والتصدير فأصبح لها ٢٥ فرعاً فى خدمة التنمية، وذهب مهندسو مصر للتعمير فى هذه البلاد. واستحضر فى هذا السياق، مقولة المهندس المعمارى البارع، رمزى عمر، أحد جنود مصر البواسل فى معركة تنمية القارة السمراء وتعميرها، الذى يؤكد أن أعلى مبنى فى كل عاصمة أفريقية عمرّها كان بالضرورة بناءً مصرياً خالصاً.
وذهب أيضاً المعمارى مصطفى شوقى، مسلحاً بخبرة مطار القاهرة، ليشيد أكبر وأعلى مبنى فى الجزائر العاصمة، والذى ما زال هو أهم وأكبر فندق، وتم إنشاؤه بعد الاستقلال مباشرة فكان نموذجا لتنمية عبدالناصر خارج البلاد. هل يعلم المصريون أن الجامعة الوحيدة فى كوناكرى، عاصمة غينيا، هى جامعة جمال عبدالناصر؟ وهل يعلم المصريون أن فرنسا أرسلت وفداُ عالى المستوى إلى جمال عبدالناصر خوفاً لتراجع نفوذهم فى أفريقيا وازدياد نفوذ مصر؟ ووراء كل هذا دعم عبدالناصر للتنمية فى أفريقيا.
لقد طرق الزعيم جمال عبدالناصر كل أبواب التنمية، فشرع فى برنامج الصواريخ وانتهى من إنشاء مصنع متكامل لهذا البرنامج، يضم نحو ١٠٠٠ مهندس وعالم وفنى، وأنشأ برنامج تصنيع الطائرات بين مصر والهند، وكان نصيب مصر فى هذا البرنامج هو تصنيع الموتور (وهو الجزء الأصعب)، ودعم أقسام هندسة الطيران والطاقة النووية فى كليات الهندسة فى الجامعات المصرية.
كل هذه الخواطر والذكريات مرت أمامى وأنا أزور قبر الزعيم، حيث كانت جموع المواطنين المحتشدة، معظمهم جاء الدنيا بعد رحيل عبدالناصر. شدت انتباهى سيدة فى منتصف الثلاثينيات من العمر، تحمل طفلاً لم يتجاوز عامه الثالث، دخلت إلى القاعة الكبرى مع كبار الزوار، كما لفت نظرى أيضاً رجل أربعينى جلس القرفصاء أمام القبر، أخذ ينادى «اصحى يا عبدالناصر». ولو صحى عبدالناصر اليوم لمات بالحسرة عشرات المرات إذا شاهد معنا بيع المصانع التى أنشأها، والتى كُهِن مكنها، وطُرد عمالها، ثم بيعت أرضها عقاراً وهُرّبت أموالها.
وإذا شاهد معنا عمليات منح أراضى الدولة للمحظوظين والأقرباء، ثم بيعها للأجانب، وتصدير الأموال للخارج. وإذا رأى انتشار أمراض الكبد والكلى والسرطان والأنيميا والاكتئاب، وأزمات القمح والطاقة والغلاء. بالإضافة إلى الظواهر الاجتماعية المرضية من انتحار وقتل الآباء والأبناء وزنى المحارم وأطفال الشوارع وسكان العشوائيات والقبور.
عدت لأسأل نفسى هل كان الزعيم جمال عبدالناصر سيفرح بمطار القاهرة الجديد الذى بناه الأتراك وصممه الهولنديون وأشرف على تنفيذه اللبنانيون؟ ونحن المصريين نكتفى بأن نكون ركاباً فى صالات السفر والوصول؟ هل كان سيفرح أن مترو أنفاق القاهرة، الذى بدأت دراسته على يد الدكتور على صبرى، أستاذ ميكانيكا التربة والأساسات عام ١٩٥٧، علاقتنا به هى أيضاً علاقة المستخدم؟ وأن تصميم وتنفيذ مراحله الثلاث كانا بأيادٍ أوروبية؟ بل ومعظم تمويله أيضاً من الخارج؟
بنى عبدالناصر، على أطراف القاهرة سنة ١٩٦١، أرضاً للمعارض، بديلاً عن أرض المعارض بالجزيرة، وكان هذا عن طريق مسابقة معمارية معلنة، فاز بها الدكتور عبدالباقى إبراهيم والدكتور يحيى الزينى والدكتور فؤاد الفرماوى.
أما اليوم، فيراد ضم هذا المشروع إلى قاعة المؤتمرات التى شيدها الصينيون، من خلال مسابقة معمارية سرية، لم يعلن عنها، ولم يدخل فيها مصرى بكيانه، والغريب أن الجهة التى أدارت هذه العملية هى نفس الجهة المسؤولة عن التنافسية ومحاربة الاحتكار والشفافية، وسوف يزرع هذا المشروع قنبلة زحام مرورية فى قلب القاهرة.
هل سيفرح جمال عبدالناصر حين يعرف أن مصر تسير فى طابور «للخلف در»؟
كان جمال عبدالناصر يستعين بأهل الخبرة، فلم يكن مصطفى خليل وزيراً للنقل وهو فى الثلاثينيات من عمره إلا لأنه كان كفئا لهذا المنصب، لم يكن عسكرياً ولم يكن من الضباط الأحرار، وكذلك الدكتور عزيز صدقى، والمهندس صدقى سليمان وحلمى السعيد وعزيز يس ومحمود أمين عبدالحافظ.. كلهم كانوا من الأكفاء الدارسين.
وكذلك لم يكن وقوف عبدالناصر لمدة ١٠ ساعات كل يوم عيد علم لتكريم المتفوقين والمبدعين واحداً تلو الآخر سوى احترام للعلم والعلماء، احتراماً من النظام بالكامل، النظام الذى عمل من أجل صالح الشعب، وليس نظام تجارة الأراضى وتسقيعها والاعتماد على الأجانب فى كل شىء حتى برامج تحديد النسل وتطوير التليفزيون - فهل يعقل أن التليفزيون الذى بدأه عبدالناصر بالكفاءات المصرية عام ١٩٦٠، يؤتى بشركات أجنبية لتطويره عام ٢٠٠٦؟ وليته تطور!!
عدت ثانية إلى حيث أقف.
مات عبدالناصر ولن يعود ثانية. ولكنى أتوقع أن تتحول أفكاره وأسلوبه فى التنمية إلى رسالة تؤمن بها الدول النامية، بعيداً عن البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، وأن تتحول كلمات صلاح جاهين، التى أنشدها عبدالحليم حافظ «من أموالنا بإيد عمالنا» إلى شعار لتحقيق التنمية المنشودة، التنمية الحقيقية المستدامة.
خلا بنا نظام عبدالناصر فى جوانب الحرية الشخصية وزوار الفجر والتعذيب فى السجون.. والعزاء الوحيد أن هذا النظام السلطوى أنشئ لخدمة برنامج قومى للتنمية الحقيقية، وقد ضُرب البرنامج التنموى فى عام ١٩٦٧ بخطة محكمة من الغرب وبتنفيذ إسرائيل، ثم ألغى هذا البرنامج تماماً منذ ١٩٧٤، بل تحول مسار البلد إلى العكس، ولكن وللأسف الشديد، استمر النظام السلطوى، استمر لخدمة برنامج آخر معاكس تماماً لبرنامج عبدالناصر التنموى.
لم ينجح الغرب مع عبدالناصر (كما نجح مع محمد على سنة ١٨٤٠) فى إيقاف التنمية والتوسع مقابل توريث الحكم لأبناء الحاكم، فكان لا بد من ضربه هو ونظامه فى ١٩٦٧، فانتهت التنمية الحقيقية واستمر النظام السلطوى بدون عائد.
فى طريق عودتى، لم أجد زجاجة لبن «مصر للألبان» ولا شيكولاتة «بيمبو»، فقد تم إغلاق محل «استرا» بميدان التحرير واحتل مكانه «أمريكانا».
لكنى، وأنا أقف عند قبر الزعيم، والخواطر تذهب وتجىء فى ذهنى ووجدانى، وجدتنى أقول: كفانا بكاء على الحليب المسكوب، ولنقم بدورنا فى بناء التنمية من جديد، التنمية بأسلوب عبدالناصر، وبأسلوب طلعت حرب. وقفت عند قبر عبدالناصر وتأملت: ماذا لو أنشأنا مشروعاً أهلياً للاستثمار والتنمية، يبدأ من الشعب ويعود إلى الشعب؟