الخوف من الاقصاء بعد الإنتخابات الرئاسية
| |
الإقصاء | |
هاني إبراهيم
................
يحمل الإقصاء معاني الإبعاد والقهر والتضييق، كما يحمل في طياته مفاهيم الكراهية والعنصرية. الإقصاء نمط سلوكي منه الثقافي ومنه الديني ومنه السياسي والإجتماعي حتي أن القرن الواحد والعشرين أتي بنوع جديد وهو الإقصاء الرقمي Digital Exclusion. وسوف أركز في مقالي هنا علي الإقصاء في حياتنا العامة السياسية خاصة متعللا بمخاوف ظهرت إرهصاتها لي في الفترة الوجيزة الفائته أثناء حوارات السادة المرشحين للرئاسة وردود أفعال بعض القوي السياسية التي وجدت لنفسها مكانا بارزا في الحياة العامة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. والإقصاء الذي أقصده هو النوع الذي يحمل في طياته إنفراد شخص أو مجموعة أو فصيل داخل المجتمع بأمور الحكم أو صناعة وإتخاذ القرار وإرغام الآخرين علي الإنصياع لما يراه أو يقرره ويستخدم في ذلك أساليب القهر والإذلال. ولتوضيح أسباب مخاوفي سوف أسوق بعض الأمثلة الدولية والمحلية والتي تظهر ما يمكن أن تأتي به سياسة الإقصاء لو تم إتباعها – لا قدر الله – في مصر ما بعد الانتخابات الرئاسية.
في 28 يونيو عام 1919 وقعت ألمانيا معاهدة فيرساي والتي بموجبها أقرت بهزيمتها في الحرب العالمية الأولي وتنازلت بموجبها عن منطقة الإلزاس واللورين لفرنسا والعديد من مستعمراتها الخارجيه للدول المنتصرة وتغريمها لمديونية مقدارها 132 مليار مارك ألماني (وهو رقم خرافي ومبالغ فيه في تلك الفترة) وتحديد عدد جيشها وفرض حصار علي حركتها الدولية وإقصائها من النفوذ والمشاركة الفعالة علي المستوي الدولي. بعد مرور 20 عاما علي هذه المعاهدة أشعلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية في العام 1939 معلنة رفضها التام لسياسات الإقصاء التي مارستها دول الحلفاء عليها. تراوحت ضحايا الحرب العالمية الثانية ما بين 50 إلي 70 مليون نسمة وتدمير لم يشهده العالم من قبل. خرج الحلفاء من الحرب العالمية الثانية وتعلموا الدرس: إقصاء الآخرين من المسرح الدولي سيقود إلي حرب عا لمية ثالثة فكان مشروع مارشال لإعادة إعمار اوروبا وإنشاء منظمة الأمم المتحدة لحل النزاعات الدولية ودمج القوي الدولية في منظمة دولية تحقق نوعا من الإنخراط في السياسة الدولية بعيدا عن مناهج الصدام والحرب (قد نختلف كثيرا في هذه الرؤية ولكن إسمحوا لي بإستكمال أمثلتي)
في عام 1983 وسعت الحكومة السودانية المتمركزة بالخرطوم من سياساتها الإقصائية لسكان الجنوب حيث إحتل العرب معظم المناصب الرفيعة في أقاليم الجنوب وأخضعت بالقوة مناطق الرعي والتعدين والبترول لجيشها وسلطانها دون مراعاة أن هذه السياسة لا تعطي فرصة إنخراط أهل الجنوب في إدارة مواردهم أو قراراتهم. إندلعت الحرب بين حكومة الخرطوم وحركات المقاومة المسلحة الجنوبية تحت لواء الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرانق. استمرت الحرب حتي توقيع اتفاقية نيفاشا التي قادت في نهاية الآمر لإنفصال جنوب السودان وتكوين دولة جديدة بذات الإسم في عام 2011. الحرب نتج عنها مقتل 1.9 مليون نسمة. الكثير من المحللين السياسيين يرجعون هذه الحرب إلي سياسات الإقصاء والتهميش التي إتبعتها حكومة الخرطوم ضد أهالي الجنوب وللأسف فهي ذات السياسة التي مازالت تتبعها ضد أهالي دارفور.
نأتي هنا لمثال آخر مؤلم وهو الإقصاء الذي تم لأعضاء حزب البعث العراقي بعد الغزو الأمريكي للعراق في أبريل 2003. فبعد سقوط نظام صدام حسين وصعود نظام سياسي جديد بقيادة الكتل الشيعية تم حرمان جميع أعضاء حزب البعث من ممارسة أي دور في الحياة العامة بحجة أنهم أيدوا نظاما قهريا ظالما. وعلي الرغم من تفهمي لهذا المنهج الإقصائي فإني ضده. فحزب البعث العراقي كان يحتوي علي معظم الخبرات الإدارية في الدولة العراقية وأدي تسريحهم إلي سقوط العراق في فوضي إدارية ثم لاحقا فوضي دموية عارمة.
ومثال جديد علي الإقصاء يأتي هنا في حاضرنا المصري. فبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير تصاعدت حدة الصوت المطالب بإقصاء جميع أعضاء الحزب الوطني المنحل من الحياة العامة لمجرد كونهم أعضاء في الحزب الذي أفسد حياتنا. الإقصاء هنا يطال حوالي 3 مليون عضو لا يعرف منهم حقيقة الحزب سوي القلة القليلة التي أحاطت ببيت الرئيس لتستفيد منه لكن عدد وافر من أعضائه إنضم إليه إما رغبة في خدمة وطنه عبر البوابة الحزبية أو رغبة منه في الإصلاح. فعملية الإقصاء الشامل لمجرد العضوية كانت مرفوضة من الكثيرين وهذا سلوك حميد لكن تصاعد نغمتها من وقت لأخر ينذر بالعديد من المخاوف.
تاريخ الحياة السياسية المصرية ملئ بنماذج الإقصاء. فعلي مدي عقود طويلة تم إقصاء جماعة الإخوان المسلمين وتم إقصاء الجماعات الإسلامية وإقصاء التيار السلفي من ممارسة العمل العام. كان النظام السياسي المصري يقوم علي إقصاء خصومه ليتفرد بصناعة القرار وينفرد بمقدرات البلاد. ويؤكد عدد كبير من النشطاء والخبراء ومنهم جورج إسحاق المنسق السابق لحركة كفاية أن ثورة 25 يناير قامت في جزء كبير منها نتيجة سياسات الإقصاء التي إتبعها النظام المباركي، ففي إنتخابات مجلس الشعب لعام 2010 قامت مجموعة جمال مبارك وأحمد عز بإرتكاب الخطأ الأكبر بإقصاء جميع القوي المنافسة في إنتخابات قيل عنها أنها الأكثر تزويرا في الحياة الإنتخابية المصرية. جميع القوي التي تم إقصائها تضافرت لإسقاط النظام ردا منها علي ممارساته التهميشية الإقصائية.
في دراسة قام بها الدكتور سعد الدين إبراهيم حول الجماعات المتطرفة لاحظ أن أغلب قادتها من خريجي كليات القمة خاصة الهندسة والطب والصيدلة والإدارة وفي محاولة من الدكتور سعد لفهم دوافع إنتماء خريجي هذه الكليات لمثل هذه الجماعات المتطرفة حاور عديد من قادتهم فوجد إن الإجابة تتلخص في الإقصاء والشعور بالتهميش. فهؤلاء تفوقوا علميا وإجتهدوا كثيرا لنيل العلم وطلبا للمكانة المجتمعية، إلا أن فساد الحياة السياسية والاجتماعية أدي إلي تهميش قدراتهم وعدم الإعتراف بمواهبهم أو تفوقهم. لجأ عدد منهم للتنظيمات المسلحة سعيا لتغيير المجتمع عن طريق العنف. ونتائج هذه الدراسة أكدتها دراسة حديثة قام بها دييجوا جامبيتا عالم الاجتماع بجامعة أكسفورد وإستيفن هيرتوج من جامعة دارهام اللذين أكدا علي أن أغلب الجماعات المسلحة مثل جماعة القاعدة في بلاد المغرب والجماعة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر أعضائها وقياداتها من الشباب خريجي كبري الجامعات ومن الحاصلين علي الدراجات العملية المميزة. ويخلصا الباحثين إلي أن التهميش والإقصاء ركنا أساسيا في دوافع التوجه لمناهج العنف عند معظم هؤلاء القادة.
الدراما التليفزيونية والسينمائية نقاشت ذات الموضوع علي طريتها الخاصة، ففي فيلم واحد من الناس بطولة كريم عبد العزيز وسناريو بلال فضل نجد أن رضا السنديوني تم سجنه بهدف إقصائه عن السوق لصالح الحيتان الأحوت منه (صلاح المنوفي وكمال أبو العزم) الذين تضامنا معا للإستيلاء علي صفقة توكيلات سيارات. الإقصاء هنا تم بعيدا عن قواعد السوق بل عن طريق توظيفهم لعناصر السلطة الفاسدة لديهم. النتيجة كما يجسدها الفيلم تضامن رضا السنديوني مع كريم عبد العزيز للإنتقام من الحيتان التي أقصته من السوق. الدراما السينمائية تعطينا مثلا عن ماذ يمكن أن ينتج عندما تغيب المنافسة الشريفه ويحل محلها الإقصاء الناتج عن الفساد السياسي والإقتصادي.
هذا المزيج من الأمثلة والدراسات التي عرضتها هنا من أجل أن أتي إلي هذه الفقرة التي أثير فيها مخاوفي وأطلب من المعنيين التمعن قبل إتخاذ خطوات إقصائية ضد الآخرين بعد إستتباب الأمر لأي من المرشحيين الحاليين. في تصريح لأحد أعضاء مجلس الشعب الحالي قال أنه في حال فوز أحمد شفيق سوف ننزل للشارع بالسلاح. هذا العضو تكلم بعفوية قد تعطينا مؤشرا لما يمكن أن يحدث من صدام دموي لإقرار نظام بعينه. هذا الكلام يدخل ضمن الرغبة العارمة التي لدينا الآن في الإقصاء. وهذا يذكرني بما حدث في الإستفتاء علي الإعلان الدستوري، حيث قامت الجماعات ذات المرجعية الدينية بحث المواطنيين علي التصويت ب "نعم" لصالح الإعلان الدستوري والمقابل هو دخول الجنة أما التصويت ب"لا" فسوف يقود صاحبه للنار. هنا نموذج صارخ للإقصاء ولكن الإقصاء هنا من النصيب الفردي من أحكام ما بعد الموت. وعلي الرغم من أن الذين أقصو خصومهم بمسألة الجنة والنار هم من إكتوو بنار الإعلان الدستوري فيما بعد، إلا أن التراشق اللفظي ما بين الأطراف السياسية الفاعلة علي الساحة الآن هو تراشق يصب في تعزيز ثقافة الإقصاء ولا يشحع ثقافة الإنخراط وخدمة الوطن. الإقصاء بعد الإنتخابات الرئاسية عندما يتمكن طرف من الأطراف قد يقود إلي مصادمات غير محمودة العواقب. فالعراق نموذج صارخ لما يمكن أن يأتي به الإقصاء، وتفتيت السودان نظام يقف دائما واضحا أمامنا.
في الختام أقول أنه لابد من تعزيز ثقافة الإختلاف وإتاحة الفرصة للجميع للإنخراط في الحياة العامة وخدمة الوطن من أي موقع وبأي إيديولوجية. المهم أن يقبل الجميع مبادئ الديمقراطية ويمارسها بطريقة عادلة ولا يلجأ الفائزون لسلاح الإقصاء إنتقاما من معارضيهم أو حتي من أعضاء النظام السابق إلا من خلال محاكمات قضائية عادلة. أختم بمقولة الفيلسوف العربي الشهير الكندي "يجب أن نأخذ الحقائق حتي لو كان قائلها من ملة غير ملتنا، وأن النظر في كتب القدماء واجب شرعي، وأن الفرد لا يستطيع أن يحصل العلم بنفسة بل يجب أن يستفيد من السابقين". الكندي كان يحارب الإقصاء القائم علي نفي علوم الآخرين لمجرد أنها إنتمت لإناس مغايرين لملة مجتمعه. هل يمكن أن يأتي الرئيس القادم بثقافة تضم ولا تفرق تعطي فرص الإنخراط في الحياة العامة دون تفريق؟ هذا ما ستشكف عنه الفترة الرئاسية القادمة!
المدونة الخاصة بالكاتب
http://hanydreams.blogspot.com/