كيف إنفصل الســودان عن مصــر؟
جمال حماد
.............
أشار الكاتب الكبير صلاح الدين حافظ الي أن ثورة23 يوليو اتخذت قرارا تاريخيا بمنح السودان استقلاله مما أغضب الكثيرين ممن كانوا يؤمنون بأن مصر والسودان بلد واحد واتهموا جمال عبد الناصر بالتخلي عن توأم الروح تحت الضغط البريطاني المدفوع بتيارات انفصالية سودانية.
وتوضيحا لأهم العوامل التي أدت إلي اعلان استقلال السودان وعدم الاتحاد مع مصر آثرت ان أكشف لكم عن بعض الحقائق المتعلقة بهذه القضية لصالح القراء وحرصا علي الأمانة التاريخية. وكما تعرفون كان السودان منذ عقد اتفاقية الحكم الثنائي( المشئومة) بين مصر وبريطانيا في19 يناير1899 خاضعا لحكم بريطاني مصري من الناحية القانونية ولحكم بريطاني شمولي منفرد من الناحية الواقعية, وعندما قامت ثورة يوليو بقيادة اللواء محمد نجيب لقيت تأييدا شاملا من جماهير الشعب السوداني فقد كان الكثيرون منهم يعتبرون أن محمد نجيب نصفه مصري ونصفه سوداني وذلك بحكم مولده ونشأته ومسيرته الدراسية في مدارس وادي حلفا ثم في كلية غوردون بالخرطوم وعلاقاته القديمة الوثيقة بأهل السودان وكانت وجهة نظر محمد نجيب في قضية السودان تختلف تماما عن وجهة نظر الاحزاب المصرية في مفاوضاتها طيلة70 عاما مع بريطانيا, فبينما كان المفاوضون المصريون يتمسكون دائما بأن يكون لملك مصر حق السيادة علي السودان مما كان يغضب السودانين وهو الأمر الذي أدي الي فشل جميع المفاوضات بين الطرفين كان محمد نجيب يعتنق مبدأ حق السودانين في تقرير مصيرهم.
وأوضح محمد نجيب في مذكراته أن خطواته الأساسية الأولي كانت تستهدف جمع السودانيين بمختلف احزابهم علي موقف موحد تعاونهم فيه مصر وهذا ما دعاه الي توجيه دعوته في البداية الي زعماء حزب الأمة المعروف بتمسكه باستقلال السودان للحضور الي القاهرة وأمكنه بفضل علاقاته القديمة مع السيد عبد الرحمن المهدي راعي هذا الحزب والذي تعمد محمد نجيب استقباله والحفاوة به في اثناء وجوده في مصر بصورة رائعة ان يعقد اتفاقا مرضيا للطرفين يوم29 اكتوبر1952 وعندما حضر زعماء الأحزاب الاتحادية العديدة الي القاهرة كانت ضربة معلم صائبة من محمد نجيب ان ينجح في اقناعهم بضرورة توحيد جميع الاحزاب الاتحادية المشتتة في حزب واحد هو الحزب الوطني الاتحادي وتم توقيع الاتفاق في منزل محمد نجيب يوم3 نوفمبر واختير اسماعيل الازهري ليكون رئيسا لهذا الحزب.
ولم تلبث المفاوضات ان بدأت في القاهرة بين مصر وبريطانيا لتعديل دستور الحكم الذاتي في20 نوفمبر1952 وعندما تعثرت المفاوضات بين الوفدين بسبب العقبات التي ظهرت اقترح السفير البريطاني بالقاهرة رالف ستيفنسون علي محمد نجيب قيام الرائد صلاح سالم عضو الوفد المصري في المفاوضات بجولة في جنوب السودان ليري بنفسه احوال الجنوب وتم لصلاح سالم بالفعل القيام بهذه الرحلة مع عدد من المرافقين في28 ديسمبر1952 واستغرقت زيارته عشرة ايام كاملة وشارك صلاح قبيلة الدنكا في غابات تيمولي في رقصتهم للحرب عاريا مثلهم فيما عدا ستره لعورته وفقا لتقاليدهم وعلي الرغم من ان هذا العمل قوبل من الاهالي الجنوبيين بالسرور فإنه قوبل بالسخرية من بعض الدوائر السياسية خاصة في بريطانيا مما جعل الصحف البريطانية تطلق عليه اسم( الرائد الراقص) واخيرا نجحت المفاوضات وتم للوفدين المصري والبريطاني توقيع اتفاقية الحكم الذاتي للسودان بمقر رئاسة الوزراء بالقاهرة يوم12 فبراير1953.
وعندما اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية التي اجريت في السودان في25 نوفمبر1953 اتضح ان الحزب الوطني الاتحادي اكتسح باقي الاحزاب واصبحت له اغلبية ضخمة في مجلسي النواب والشيوخ وفي يوم6 يناير1954 تم لمجلس النواب انتخاب اسماعيل الأزهري رئيسا للوزراء وتشكلت الوزارة من اثني عشر وزيرا كانوا جميعا من الحزب الوطني الاتحادي واحتفلت جميع وسائل الاعلام في مصر بهذا الفوز الساحق واصبح الشعبان المصري والسوداني ينتظران في شوق قرب الاعلان عن اتحاد البلدين الشقيقين.
ومما يؤسف له أن تلك الآمال العريضة التي كان الشعبان ينتظران في شغف قرب الإعلان عنها لم تكن الأحوال السياسية في مصر تساعد علي تحقيقها ففي اعقاب أزمة مارس1954 وفي إثر حدوث محاولة اغتيال جمال عبدالناصر رئيس وزراء مصر وقتئذ في ميدان المنشية بالاسكندرية يوم26 أكتوبر استغل مجلس قيادة الثورة هذه الجريمة الفردية للإطاحة بقائد الثورة محمد نجيب فصدر القرار في14 نوفمبر بإعفائه من منصب رئيس الجمهورية برغم أنه كان وقتئذ منصبا فخريا لا يمنح صاحبه أية سلطات في يده وبرر المجلس ذلك بأن بعض المتهمين في القضية رددوا بأن محمد نجيب كان علي صلة بالإخوان المسلمين وتغافل مجلس الثورة عن العواقب الخطيرة والآثار الضارة التي ستلحق بقضية الاتحاد الخالدة بين الشعبين الشقيقين في سبيل تحقيق غرض زائل وهو ضمان الاستمرار في ممارسة السلطة في مصر والبقاء في الحكم.
وأثارت الإطاحة بمحمد نجيب وتقييد حريته الشخصية بهذه الطريقة المهينة مشاعر السودانيين الذين كانوا يعتبرونه رمز الاتحاد بين البلدين فضلا عن خشيتهم مما سوف يحيق بهم إذا ما اتحدوا مع مصر بعد أن رأوا ما ارتكبه أعضاء مجلس الثورة ضد رئيسهم وقائد ثورتهم لذا بدأ ابتعادهم تدريجيا عن قضية الاتحاد مع مصر. ولم تكن تنحية محمد نجيب عن منصبه هي العامل الوحيد في ابتعاد شعب السودان عن فكرة الاتحاد مع مصر فقد كانت هناك عوامل عديدة أخري كان في مقدمتها تلك المحنة المروعة التي تعرض لها الاخوان المسلمون في مصر والتي لم يسبق لها مثيل في قسوتها بسبب واقعة محاولة الاغتيال الفاشلة في ميدان المنشية.
وأدت سياسة إسماعيل الأزهري المتسمة بالجفاء والتباعد عن مصر إلي حدوث جولات من الصدام الحاد والهجمات العنيفة المتبادلة في وسائل الاعلام بينه وبين صلاح سالم المسئول المصري عن شئون السودان وكان صلاح سالم برغم نجاحه المرموق في المرحلة السابقة قد اتبع في السودان سياسة شديدة الخطورة وهي استخدام وسيلة توزيع الاموال والرشاوي لاجتذاب الاعوان والمؤيدين مما جعل الساحة السياسية تخلو من طائفة المؤمنين الحقيقيين بالقضية الخالدة خشية أن تلحق بهم الشكوك في تقاضيهم الرشاوي والأموال من صلاح سالم وأعوانه إذا ما أبدوا مشاعرهم علانية أو تحمسوا لقضية الاتحاد علي رءوس الاشهاد لذا لم يبق بالساحة سوي طائفة من المنتفعين والانتهازيين والمرتزقة.
ومما يدعو إلي العجب أن صلاح سالم في لقائه المنفرد مع عبدالناصر في مكتبه يوم25 أغسطس1955 وبعد أن وصل مركز مصر في السودان إلي أسوأ حال أدلي باعترافات مثيرة للغاية أمامه فقد اعترف بأن المعلومات التي كان يرسلها إليه عن السودان لم تكن تمثل الحقيقة هناك وانه أصبح كارتا محروقا بالنسبة لمصر في السودان ثم تقدم إلي عبدالناصر باقتراح ظنا منه أنه يمكن التغرير به وهو ان يسافر عبدالناصر في اليوم التالي إلي الخرطوم ليعلن بنفسه أمام البرلمان استقلال السودان وبذا يصبح هو بطل الاستقلال.
وفطن عبدالناصر بذكائه إلي هدف صلاح سالم من ذلك الاقتراح وهو أن يفلت من المأزق الذي يواجهه بعد انهيار سياسته في قضية السودان التي كان الشعب المصري بفضل الدعايات المضللة التي كانت تذيعها وسائل الاعلام المصرية بأمر صلاح سالم وزير الارشاد( الإعلام) لا يزال غارقا في احلامه الوردية بقرب إعلان الاتحاد بين مصر والسودان كما أن هذا الاقتراح كان يكفل له التنصل من فشل سياسته الخاطئة في السودان ويلقي بها علي عاتق غيره ولكن عبدالناصر لم تنطل عليه هذه الحيلة وعبر لاعضاء مجلس الثورة عن سخريته من هذا الاقتراح وذكر لهم أن الأفضل له إذا ما نفذ الاقتراح ان يتوجه من الخرطوم للجوء إلي الكونغو رأسا وعدم العودة إلي مصر حتي لا يواجه ثورة الشعب ضده.
وفي أول يناير1956 عقد البرلمان السوداني جلسته التاريخية التي أعلن خلالها رئيس الوزراء اسماعيل الازهري استقلال السودان ثم أخطر اعضاء البرلمان انه قد تلقي اعترافا بهذا الاستقلال من جمال عبدالناصر رئيس وزراء مصر وسلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وهكذا تم استقلال السودان وطويت قضية الاتحاد بين السودان ومصر الي حين ولا نقول إلي الأبد.