| | | | علامات استفهام رمضانية ...............................................................
محمد فوزي عبد الحي .........................
في كثير من الأحيان يبدو حديثنا عن روح الدين وسمو تعاليمه وغاياته ضربا من الخيال الحالم في آفاق المثالية، وننسى في خضم الصراع الدنيوي الهابط أن هذه المعاني تجاوزت إطار النظرية الإيمانية إلى أرض الواقع على كافة المستويات الشخصية والجمعية والأممية حتى كانت لها حضارة وثقافة، ومجتمعا وأمة، ودولة وجيشا، ونظاما وسياسة، وأنها إبان لحظات تاريخية وحياتية كثيرة - على مستوى الفرد ذاته وعلى مستوى القرية الصغيرة والأمة الكبيرة - حدثت لها صحوات ويقظات بعثتها من ظل النص إلى أرض الواقع، ومن هدوء اللوح إلى صخب الحياة، فاستحالت الهزيمة نصرا، والتقهقر تقدما، والعصيان طاعة، والاحتكار تكافلا، والأثرة إيثارا، وسعير الحياة جنة هنية.
إن هذه الصحوات التقويمية التي يسميها البعض بالتوبة، وآخرون بالتقوى، لهي لحظات الإصلاح الحقيقي الذي يتطلع إليه المصريون والعرب والمسلمون جميعا الآن في ظل أزمتهم على الأصعدة الحضارية والثقافية والسياسية والتعليمية والتربوية والسلوكية في اللحظة الراهنة. لماذا نصوم؟
إنني أزلف من ظلال هذه اللحظة المنشودة إلى عالم الصوم، وهو يجسد بحر هذه اللحظة التي لا تعيش إلا فيه، فالصيام الحقيقي ليس امتناعا عن لذة البطن والفرج الحلال بل مخاصمة عالم الحرام.
تتحرك روح الصيام يحدوها قائد الإيمان بهدوء في محاولة للخروج بكنه الضمير المسلم من أزمته الطينية، وهفواتاه الظلامية، وأحلامه الأنانية، لتضعه على أول طريق الإصلاح والبناء الذاتي والجماعي، وأنت ترى القرآن يعبر عن هذه المنظومة بأجمل عبارة وأشدى عبير، فيقول: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون." • الإيمان هنا نقطة الانطلاق الأولى لعالم الإصلاح في دولة الإسلام، وذلك أن صناعة الجنة على الأرض هي غاية أهل الإسلام من الدنيا، وهذا ما توميء إليه الآية: "يا أيها الذين آمنوا.." فنداء الإصلاح الحقيقي، حياة وآخرة، فردا وأمة، ينطلق من منصة الإيمان ويرتكز على أساسها. • ثم يتوسط الصيام بين مرفأ الإيمان – نقطة الانطلاق – ومرفأ التقوى [الإصلاح] نقطة الوجهة والمستقر، لينطلق الإصلاح من جسر الإيمان على معبر الصيام إلى جسر التقوى: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" وتأتي الوجهة المرادة في موضع الغاية "لعلكم تتقون." • أما أن هذا النداء للإصلاح الجماعي فهذا الأمر جلي في صيغة الجمع التي ينتهجها القرآن في توجيه أمره "الذين آمنوا .. كتب عليكم الصيام .. لعلكم تتقون."
إن إصلاح المجتمع وبناء الحضارة والتقدم لا يتأتى من خلال فرد بعينه ولكن من خلال أفراد الأمة مجتمعين، لذلك تأتي صيغة الجمع للفت انتباه السامع إلى غاية الإصلاح الحقيقية في الإسلام، وهي الإصلاح العام للأمة كلها، وهذا لا ينطلق إلا من خلال تضافر جهود غالب أفرادها لبناء إصلاح أممي شامل، ولا يمنع هذا إباق البعض ونكوصه عن قافلة الإصلاح كما هو ديدن كل أمة من وجود الحمقى والمنافقين والجبناء والجهلاء والمغفلين، وقد كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاشوا معه في المدينة المنورة، ولكنهم لم يعوقوا قافلة الإصلاح لأنهم كانوا النذر اليسير، وكانت القيادة تقدم الأمناء وتحترم الأكفاء، وتضع كل موهبة في مكانها الصحيح. كيف نصوم؟
كثير منا يصومون رمضانات عديدة ربما ستين رمضان، ولكنهم لا يصلون إلى غاية الصيام لأنهم لم يصوموا في الحقيقة الصوم الإصلاحي الشامل الذي أرادته الشريعة وأرشد إليه القرآن، وأكد عليه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
كتابنا الغيورون ومفكرونا المصلحون سكبوا مداد أعينهم وهم ينظّرون للصحوة الإسلامية، وفنيت أعمارهم وهم يكافحون ضد الاستبداد والخيانة، وبُحت أصواتهم وهم يدعون الضُّلال للكف عن ضلالاتهم، والجهال للامتناع عن جهالاتهم، والخائنين لرد أماناتهم، والسارقين للتكفير عن سرقاتهم ... ومع ذلك فكثير من أهل هذه الكبائر يصومون كل عام، وينظمون موائد الإفطار من المال الحرام لإطعام الصائمين، ويهدون الشعب البائس هدية رمضان معبأة من دماء الأمة، وأعمار الشباب، معبأة من الأحلام المسروقة والأمانات المنتهكة، من الأرض المستباحة والحرية السجينة، فهل صام هؤلاء كما أراد الله؟
إنهم ينظرون إلينا نظرة العاقل للمعتوه .. بلا عقل وبلا حلم وبلا منطق وبلا حضارة وبلا حقوق.. ملايين من الدراويش السذج يسيحون في مولد الحياة؟! لقد نبه رسول الإسلام إلى هذا الصيام العقيم الذي لا ثمرة له، فقال: - رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ. رواه أحمد. - مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ [والجهل] فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي، وابن ماجة وما بين القوسين زيادة عند أحمد والبخاري في رواية ورواها ابن ماجة بنص "قول الزور والجهل والعمل به". - من لم يدع الخنا والكذب فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه. رواه الطبراني وعبد الرزاق.
ثالوث التخلف الحضاري والروحي هو هو عدو الصيام الأول، ثالوث الزور والجهل والخنا. الزور: الكذب والباطل، وهل تخلفت أمتنا إلا من جراء كذب الكذابين وباطل المبطلين، فالصيام إذا هو ملازمة الصدق، وركوب سفين الحق، ومناصرة العدل وإتيان الصالحات المصلحات وإلا فليس بصيام بل هو ضلالات الكذب وظلامات الجور ودياجير الجهل وكبائر أهل الفساد والنار جزاؤهم وبئس المصير. أما الجهل بظلمه وتخلفه والخنا بخرابه وفوضويته وانحطاطه فهي معاول هدم الأمة وإسقاط بنيانها.
لا أدري لماذا تعمى الأعين وتصم الآذان وتغفل القلوب عن هذا النور المبين؟ ألا نتفكر لماذا يعين الرسول "قول الزور والعمل به والجهل" دون غيرها شروطا لازمة لا بد من مجانبتها لقبول الصيام؟ ألأنه علم تسلط المنافقين أهل الزور بالباطل وعملهم به؟ هل لأن الأمة كلها تترنح من الجهل العقلي والعلمي والديني والفكري؟ أم لأن الأمة تعاني التعمق والتنطع والتشرذم والسفه (أبناء المعلم جهل) على مائدة المتدينين وتقاسي شرور التمييع والجور والاستبداد والسلب والتسلط والخيانة (وكلهم من أبناء زور باشا) على طاولة المنافقين؟
لقد انتبه سلف الأمة – عليهم رضوان الله – إلى هذه الحقيقة، وفرقوا جليا بين الصيام الحيوي الحضاري الروحي الباعث التقدمي الاجتماعي التكافلي الرقابي الذي يريده الإسلام وبين الصيام الفارغ الغبي الجسدي الجامد الذي يعيشه معظم الناس اليوم: - قال عمر بن الخطاب: لا يغرنكم صلاة امرىء ولا صيامه ولكن انظروا من إذا حدث صدق وإذا ائتمن أدى وإذا أشفى ورع. (رواه ابن المبارك في الزهد) - قال جابر بن عبد الله الأنصاري : إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب ، والمأثم ، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء. (رواه ابن أبي شيبة). - قال الإمام الغزالي في الإحياء: لا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرا ويهدم مصرا، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهًا. والحرام سهم مهلك للدين." (الإحياء للغزالي) - َقَالَ الإمام الْبَيْضَاوِيّ : لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْ شَرْعِيَّةِ الصَّوْمِ نَفْس الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، بَلْ مَا يَتْبَعُهُ مِنْ كَسْرِ الشَّهَوَات وَتَطْوِيعِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ. (ذكره الإمام ابن حجر في فتح الباري)
متى سنصوم؟ إنني أسأل أمتنا العظيمة في كل الأرض متى سنصوم؟ متى سنصوم عن الغفلة والجهل والزور بباطله وكذبه وعفنه وتخلفه وجوره؟ هل من حقي أن أسأل ملوكنا الكرام وزعماءنا الأفاضل ومسئولينا الأعزاء ومفكرينا وكتابنا وصحافيينا وأطباءنا ومعلمينا ودعاتنا وكافة قياداتنا وأمتنا متي سنصوم لله؟ متى تنطلق سفينة الإصلاح؟ متى سنبحر من سجن الزور إلى مرفأ التقوى، ومن معتقل الجهل إلى رياض العلم، ومن دولة الفساد إلى أمة الإصلاح، دينا ودنيا، حياة وآخرة، روحا وجسدا؟ متى سنصوم؟
وكل رمضان وأنتم بخير
Faqeeh2life@yahoo.com
06/11/2014
مصرنا ©
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|