رمضان .. وصناعة بداية جديدة
...............................................................
محمد فوزي عبد الحي
..........................
"رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر"، يا لها من دفقة خيرة حانية، وبشارة معصومية غالية، لقد أدرك النبي - بوحي الله - لزومية الخطأ للعباد، فجعل لهم مواسم للإصلاح مع كل بداية جديدة كان من أوسعها وأرحبها وأجملها شهر رمضان الذي شرفه الله بنزول القرآن، وذكره في آي الفرقان.. تتجلى سماوية الدين الإسلامي في صناعة البدايات الجديدة كل صباح ومساء بل خمس مرات في كل يوم مع كل صلاة، لتأخذ بيد المتقاعسين، وتدفع روح المنهزمين.. فلا زالت هناك فرصة مواتية لبداية جديدة تمحو بها آثار الجهالة، وصفحة جديدة تزيل بها رواسب الماضي العفن، وإشراقة جديدة تنير ظلمات النفس والحياة مما لحق بها من آثار الخيانة لسبيل الله، وسنة الرسول، وأمة الإسلام.. تأتي صلاة الجمعة كل أسبوع لتصنع بداية أخرى جديدة، ثم تأتي الزكوات بأنواعها موزعة على فصول الحصاد في الزراعات ومرور العام في زكاة التجارة والاستثمار والحيوان، وكأنها تذكرة فصلية لروح المؤمن وفكره ليصنع بدايته من جديد، ويقوّم طريقه مرة أخرى، ويعالج أخطاءه مرارا وتكرارا..
واليوم يطالعنا رمضان، فصل التحولات الكبرى في تاريخ الأمة، فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن، والزمن الذي شهدته بدر مع إعلان أول انتصار عسكري للإسلام الدولة، والشهر الذي شهد فتح مكة ليعلن سيادة الإسلام لجزيرة العرب سياسيا ودينيا، وهو بعدُ شهر الروح بنهاره الظاميء، وليله الذاكر، وطعمته الشاعرة، وسحوره الرقراق، وأنفاسه العطرة، ومساجده العامرة، وصدقاته المتناثرة، ودموعه الحارة بين يدي الله، يأتي بكل فيوضاته ليصنع بداية حولية جديدة مع حياة كل مؤمن وخطة عمل كل مصلح.
يحتل شهر رمضان مكانة عظيمة في منظومة الإسلام باعتباره الركن الرابع من منظومة الإصلاح الإسلامية، ويمثل 1/12 من عمر الإنسان، فترة زمنية تربوية تمنح فرصة فسيحة لكل راغب في بداية جديدة وإصلاح جديد، وإذا كانت غاية الإصلاح في الإسلام تستخدم تعبير المغفرة ومن ثم الجنة، فإن نيل المغفرة والفوز بالجنة إنما هو تعبير ديني عن إصطلاح واقعي أوثق بحياتنا وألصق بعالمنا ألا وهو صناعة الحياة؛ فإذا كانت الجنة أرقى أنواع الحيوات التي يتطلع إليها بنو البشر من المؤمنين فإن عليهم أولا أن يبرهنوا على حبهم للحياة بصناعتها هنا في هذا العالم في أروع صورها وأبهى أنواعها المستطاعة حيث يسود العدل، وتعلو راية الإصلاح، وتنتصر روح الجماعة على أنانية الفرد، وخدمة الأمة على عنجهية الأنا.
يعمل رمضان في صمت بتعاليمه - وهو وحي حي في صمته من الوحي الناطق على ألباب قلوب الموحدين – يسري بروحه إلى كل روح، وبخشوعه إلى أعتاب كل سادر، وبذكره وقرآنه إلى فؤاد كل آبق، وبجوعه الطواعي إلى باب كل فقير، وبظمئه إلى كل نفس ظامئة، ليعود بأمة الوحدانية إلى الوحدة، وبغفلة الفناء إلى يقظة الخلود، وبخرافة التسلط إلى رفق التآخي.
يدرب رمضان ألوية العصيان على الطاعة، ودروب الإباق على الخشوع، وأنفس الشاردين على الألفة، ليعود بالمفسد إلى دائرة الإصلاح، وبالمعوج إلى آخية الاستقامة، لذلك استحق رمضان أن يكون شهر القرآن، لأن طريق القرآن هو طريق البداية الجديدة الحقيقية لكل إنسان، ومن يستطيع أن يرصد واقع العرب قبل الإسلام وبعده، وواقع المسلمين الجدد قبل الإسلام وبعده يرى جليا صناعة الحياة الجديدة كما أرادها القرآن على مراد الحق تعالى من الخلق، وإذا كان نزول القرآن قد اختار رمضان زمنا فقد اختار رمضان لصناعة البدايات الجديدة، وهو درس لكل مسلم تعتصره ألوية الفساد المنشورة، وتخنقه رائحتها النتنة- درس لصناعة الإصلاح كما خطته عدالة التوحيد، وتحمّل أمانة الأمة الواحدة التي تمسك في رمضان عن المباحات وتسرف في تجرع المنكرات.
ألم يأن للغافلين أن يستيقظوا، وللسارقين أن يتراجعوا، وللسالبين أن يتوبوا، وللسلبيين أن يثقوا بنصر الله، وللعصاة أن يندموا، وللخائنين أن يفيقوا، وللمستبدين أن يتحرروا من ربقة العبودية؟ ألم يأن للقرآن أن ينير هذه القلوب المظلمة، وللصيام أن يلمس هذه الأحشاء المحتكرة، وللذكر أن يرقق هذه الأفئدة الصلدة، ألم يأن لنا أن نصنع بداية جديدة؟
Faqeeh2life@yahoo.com
06/11/2014