الخيانة قانونا!
...............................................................
بقلم : محمد فوزي عبد الحي
.................................
يخبرنا أهل اللسان بأن قانون كل شيء: طريقُه ومقياسه، وهذا يتضمن أنه نظامه وقوامه، والقانون هو النظام الحاكم لعلاقات الناس أفرادا ومنظمات وهيئات ودولا، محددا للحقوق ومبينا للواجبات، ويقوم القانون في أصل وضعه على تحقيق العدالة، وضمان المساواة والتكافؤ، وحماية قيم المجتمع كله، إلا إن المجتمع المصري يمر بمحنة عصرية غريبة حتى الشذوذ، ومقيتة حتى الكفر، وتدميرية حتى الفناء، المحنة التي يعرفها كل مصري تألم منها وبكى نفسه ووطنه عليها، محنة قانون الخيانة..
عندما تتبدل قيم المجتمع وتصبح الحياة الاجتماعية المصرية المعاصرة في مجملها مسلسلا دراميا أو فيلما استعراضيا يعرض لقيم الحق والعدالة والحرية والمساواة على مسرح المجتمع ليس إلا، مثل أي كاتب خليع يتكلم عن العفاف أو منافق قزم ينظر للكفاءة، أو مستشار واسطة يعظك في الأمانة والمسئولية وخطورة الواسطة، أو مستبد جائر يشرح قيم الحرية والديمقراطية بينما بمارس كافة انواع الأباطيل، والظلم، والاستعباد، والاستبداد في واقع حياته، عندئذ يمكن أن نتفهم انتشار قانون الخيانة المعمول به في كافة مؤسسات وزوايا وهيئات الدولة المصرية المعاصرة.
يضم قانون الخيانة زمرة من التقنينات الفوضوية الملائمة لمجتمع عريق في تخلفه، وتخلف عريق في استبداده، واستبداد عريق في جهالته، تضم هذه الزمرة الملعونة قانون سرقة مال الأمة، وقانون المتاجرة في مستقبل الشعب، ودمائه، وكبده، وكلاه، وأعضائه، وقانون إهمال العمل، وقانون إغفال الواجب، وقانون الغش، وقانون الوساطة، وقانون المحسوبية، وقانون الرشوة، وغيرها من التقنينات المعمول بها في مجتمعنا وكثير من المجتمعات المتخلفة المعاصرة.
تمثل هذه القوانين سقطات أخلاقية تربى عليها الصغير وشاب عليها الكبير حتى أصبحت عرفا مجتمعيا، وخرجت من دائرة العيب والذم والحرج وما يتحرج الإنسان من العمل أو المشاركة أو الظهور فيه لتأخذ حكم القانون العرفي، وليمارسها غالب الناس بصورة بدهية بلا مبالاة، ودون تحرج، وفي وضح النهار.. وفي ظل هذه الفوضى الأخلاقية تصبح قيم الحق والعدل والكفاءة والتقنية والأمانة رذائل سوداء تجلب النكد والهم والعدوانية من أرباب القانون النافذ ضد أهلها الشرفاء الأمناء الأوفياء.
فالطبيب الذي يحضر في موعده إلى المستشفيات الحكومية يعتبر منتهكا لقانون الخيانة، وبالتالي مكروها من زملائه الذين يعدونه عدوهم الأول، ويتحينون الفرص للإيقاع به..
لا ريب أن معظم القراء الأعزاء ذهبوا - ولو زائرين - للمستشفيات العامة، خاصة الإقليمية، ورأوا بعيونهم المهازل المبكية حيث الأطباء الذين لا يحضرون فبل العاشرة صباحا ولا يظلون لأكثر من نصف الساعة، وطبعا هم معذورون، وراءهم العيادات والمستشفيات الخاصة التي تدفع لهم..
يكفي أنهم يتعطفون علينا بنصف ساعة مرة أو مرتين أسبوعيا مقابل التعليم الذي دفعنا ثمنه لهم من قوتنا وضرائبنا وأموالنا.. ومقابل الضحايا الفقراء الذين تعلموا عليهم، فكم من أرامل وثكالى وأيتام ومشردين نتيجة تضحياتنا كفئران معامل للسادة الأطباء الذين يخونوننا اليوم جهارا دون رادع!!
جميل أن يضحي الفقراء بأرواحهم من أجل الأغنياء، ولكن القبيح أن لا يضحي الأغنياء من أجل الفقراء بجزء من أوقاتهم وأموالهم..
يوقع العديد من السادة الأطباء الكشف في حالة من عدم المبالاة لا يحسدون عليها، ويطبقون قانون الخيانة حتى في الوصفة الطبية التي يكتبونها طبقا للأدوية الموجودة في المستشفى، لا ننسى - - أولا وآخيرًا - أن الشافي هو الله...
الأمر يتكرر مع المهندس صاحب الضمير الذي يريد أن يطبق المواصفات القياسية في قبول أو تنفيذ الأبنية أو الطرق أو الآلات أو غيرها..غريب في بيئته، فقير في معيشته، المرتب للضروريات فقط أما السيارة والفيلا الخ... فلهم قانون آخر يبدأ بحرف الخاء، ويتم التعامل في خفاء معلن يبدأ بحرف الخاء أيضا، ولا يخفى الأمر على أحد.
ومثل ذلك الداعية صاحب الرسالة الذي يلتزم بدروسه ومسجده ورسالته، فإنه يكون محل غمز ولمز من زملائه أصحاب الوظيفة ممن يأكلون السحت، ويأبون إلا أن يشاركهم الجميع أكل الحرام عملا بقانون الخيانة...
ومثل ذلك المدرس الأمين الذي يلتزم بأمانة التعليم وتربية التلاميذ..يعتبر منتهكا لقانون الخيانة الذي يعمل على تأصيل ما عرف سابقا بـ "ظاهرة الدروس الخصوصية" والذي تحول في مرحلة إلى ما سمي بـ "مافيا الدروس الخصوصية" وأخيرا لا يمكن إلا أن يسمى "التعليم الخصوصي" للتفرقة بينه وبين "التعليم الخاص".
الأمر يتكرر مع الكبار الأكابر الذين يخونون مسئولية الأمة، ويسرقون أموال العامة، ويوزعون أرض الوطن وثرواته مع على المعارف والحبايب والمحاسيب..
الأمر يتكرر حتى مع صغار الموظفين والعاملين في المصالح الحكومية وغيرهم مثل أمناء الشرطة على الطرق العامة الذين يطبقون قانون الخيانة ويتناولون الرشوة علانية، ويعطلون القانون المفترض تطبيقه...
لقد تحول أهل الأمانة إلى غرباء في وطن الخيانة العفن، وتحول لحن الأمانة إلى لحن شاذ في سيمفونية الخيانة الكبرى التي تلفظ الأمانة والكفاءة والإتقان وتلتزم بقانون الفساد والسحت وتدمير عقل الأمة وأبنائها وأموالها ومستقبلها.
حدثني أحد الأساتذة الشرفاء متبرما مما يتعرض له من مضايقات وامتهان بسبب أن زملاءه يريدون فتح لجان الامتحانات وإعطاء فرصة للغش المفتوح.. الأستاذ الأمين غارق بين همين حارقين؛ همّ الأمانة والمسئولية الدينية والخلقية التي لا يعرف كيف يهدر حقها إلى جانب غضب زملائه منه وعدم رغبتهم في وجوده، وهمّ آخر هو إحساسه بالظلم فهو يعترف أنه يظلم اللجنة التي يراقب عليها بأمانته هذه؛ لأن هذه الأمانة تعني إهدار تكافؤ الفرص في الغش!!!! وذلك لأن اللجان الأخرى تمارس الغش من الكتب وتدخل لهم الإجابات النموجية بينما لجنته المظلومة محرومة من هذه الحقوق التي يفرضها قانون الخيانة؟؟
كثير من الأساتذة يرون أن قضية التعليم "كله محصل بعضه"، "ولا فيه تعيينات ولا وظائف،" والأولاد غلابة، والأهالي لا يحتملون فشل أبنائهم بعد عام دراسي مضني، والدروس الخصوصية حق للجميع، ومن لا يريد أخذ حقه هو حر، ولكن نجاح الطلاب واجب على الجميع، وتبقى الكلمة الأخيرة – في تحديد المستقبل - لقانون آخر من قوانين الخيانة هو قانون الوساطة والمحسوبية...
أرأيت كيف تعمل منظومة الفوضى؟ وكيف ينتشر قانون الخيانة؟؟!!
لقد تناست هذه الطوائف قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون..." وتغافل هؤلاء السادة عن قول الرسول الكريم: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" (أحمد وابن حبان والطبراني).
ألا ترون معي أن الخيانة أصبحت قانونا نافذا في عرف مجتمعنا الغارق في مشكلاته، المتأوه من المفردات الفارغة الفضفاضة عن التنمية، والتطوير، والتعليم، وتحسين (تحزين) مستوى الدخل، والعمل لصالح الفقراء ومعدومي الدخل... ولكن وللحق أسجل - بلا ريب - هناك خطة لإراحة الفقراء ومحدودي الدخل من هموم الحياة وكروبها وغمومها ومشكلاتها التي لا تنتهي!!!
العجيب أن قانون الخيانة يطبقه الجميع ولا يستحي منه أحد، حتى أرباب الكلمة لا يأنفون منه عندما يكتبون ممالئين لأعداء الإسلام في الداخل أو الخارج، أو مجملين للصورة القبيحة لأعداء هذا الوطن العريق، ومخادعين لهذه الأمة، وخائنين لأمانة الكلمة وشرف القلم، وهم يعلمون أنهم يساهمون في توطيد قانون الخيانة، وزراعة ثقافة النفاق في أجيال منهزمة تمثل بقايا صور مهدومة لأمة مجيدة لا تستطيع اعتبار الماضي، ولا قراءة الحاضر، ولا استطلاع المستقبل، وهذه أسوأ صور الخيانة... وصدق الرسول الكريم: "لا إيمان لمن لا أمانة له".
Faqeeh2life@yahoo.com
د. دكتوراه الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية. جامعة الأأزهر
06/11/2014