الهروب العربي الكبير
..............................................................
| |
فهمى هويدى | |
بقلم: فهمى هويدى
.........................
بعد ست سنوات على إطلاقها تحولت مبادرة السلام العربية إلى ورقة توت تخفي عورة العجز والإفلاس العربيين، وذريعة للالتفاف على التطبيع مع إسرائيل.
(1)
كمن العرب طويلا وسكتوا، ثم أطلقوا قبل أسبوعين غارة إعلانية احتلت مساحات كبيرة في العديد من الصحف العربية (جريدة "الخليج" الإماراتية رفضت نشرها)، كما استهدفت ثلاثاً من أهم الصحف العبرية (يديعوت أحرونوت ومعاريف وهاآرتس). وكان الهدف الأساسي لتلك الغارة هو الترويج للمبادرة السعودية، التي تبنتها قمة بيروت العربية عام 2002، وأثار الانتباه في هذه الغارة المحيرة، أولا أنها مارست لأول مرة نوعا مع التطبيع الإعلاني مع العدو الإسرائيلي، وثانيا أن الإعلان تضمن شعاري جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وثالثا أنه نشر في الصحف العربية لمخاطبة القراء الذين يعرفونها جيدا، كما نشر بالعبرية في الصحف الإسرائيلية لمخاطبة أناس يرفضونها، وقد حرصت الجهة التي نظمت العملية على إحاطة الإعلان المنشور بأعلام 57 دولة عربية وإسلامية في إشارة موحية لا تخفى دلالتها.
أغلب الظن أن الجامعة العربية هي التي تبنت هذه العملية مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يثير السؤال: لماذا الآن؟ - في الرد تلوح في الأفق أربعة احتمالات، أحدها أن يكون الهدف هو تغطية الفشل الذي منيت به مفاوضات السلطة الفلسطينية مع الإسرائيليين، كما قد يكون الهدف امتصاص أصداء مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك مؤخرا، وشهد لأول مرة جلوس العاهل السعودي الملك عبد الله، الذي أطلق المبادرة حيث كان وليا للعهد، مع الرئيس الإسرائيلي "شمعون بيريز" على مائدة واحدة، وربما كان الهدف هو محاولة التأثير على الناخب الإسرائيلي، لكي يصوت للحزب المؤيد للمبادرة في الانتخابات المقرر إجراؤها هناك في فبراير القادم. ربما أيضا كان الهدف هو تقديم أوراق اعتماد العالم العربي إلى الإدارة الأمريكية الجديدة، قبل استلامها السلطة في أواخر يناير القادم.
سواء كان بعض هذه الأسباب أو كلها وراء شن الغارة الإعلانية، فالشاهد أن المبادرة استدعيت من مكمنها ووضعت على الطاولة أمام الجميع معلنة على الملأ أن العرب سجلوا فيها عرضا لحل الصراع الممتد مع إسرائيل.
(2)
لم تأت المبادرة من فراغ ولكنها حين أطلقت من قبل ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز كان لها هدف وسياق. وحين تبناها مؤتمر القمة العربية في عام 2002 أصبح لها سياق آخر وهدف آخر، انضاف إلى الأول، وإذا أردنا أن نكون أكثر وضوحا فربما جاز لنا أن نقول بأن المبادرة بدأت محاولة للخروج من مأزق واجهته المملكة العربية السعودية، وأصبحت في النهاية محاولة للخروج من مأزق يواجه النظام العربي، وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الشرح.
إذ ليس خافيا على أحد أن المملكة العربية السعودية واجهت حرجا بالغ الشدة، بسبب أحداث سبتمبر 2001، الذي تحدثت الأنباء في ضلوع 19 من 21 من الشباب السعوديين في ارتكاب الجريمة التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. ولأن وقع الصدمة كان صاعقا في الولايات المتحدة كما هو معلوم، فإنها أدت إلى تدهور سمعة المملكة بشكل فادح هناك. كما أنها كانت سببا في توجيه هجمة إعلامية شرسة ضدها في الإعلام الأمريكي بشكل خاص والإعلام الغربي بوجه عام، وكانت الموجة العدائية أعلى بكثير من أن تستوعب بواسطة شركات العلاقات العامة المتخصصة التي يستعان بها في مثل هذه الحالات.
ثمة كلام كثير عن الاتصالات التي أجرتها المملكة لتجاوز الأزمة وإعادة ترميم صورتها التي شوهت بالكامل، لكن الشق الذي يعنينا في هذه الاتصالات هو ما يتعلق بالدور الذي لعبه الصحفي الأمريكي البارز "توماس فريدمان" في استدعاء فكرة المبادرة، التي انطلقت من الانطباع الرائج في أوساط النخبة العربية، ويتلخص في أنك إذا أردت أن تستميل الإدارة الأمريكية وتكسب الإعلام هناك، فما عليك إلا أن تطرق باب إسرائيل أولا التي تملك وسائل ترقيق قلوب السياسيين الأمريكيين، وضبط إيقاع الخطاب الإعلامي في واشنطون.
لا نستطيع أن نحدد بالضبط حجم الدور الذي لعبه "فريدمان" – محرر صحيفة نيويورك تايمز – لكن القدر الثابت أن الرجل الذي يرتبط بصلة وثيقة مع إسرائيل بحكم يهوديته، كان موجودا في قلب المبادرة التي أريد بها تحسين صورة المملكة بما يقدمها على أنها داعية سلام من خلال تبنيها أطروحة لحل معضلة الصراع العري الإسرائيلي ( لاحظ أن مؤتمر حوار الأديان الأخير الذي عقد في نيويورك بحضور الملك عبد الله وشمعون بيريز يمثل خطوة أخرى على ذات الطريق) .
(3)
المناخ العربي كان مهيأ لاستقبال المبادرة والاحتفاء بها، لسبب جوهري هو أن النظام العربي كان حينذاك قد دخل مرحلة "التهافت على السلام". إذا استخدمنا التعبير الذي أطلقه الأستاذ هيكل في وصفها. كانت اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس أنور السادات مع مناحيم بيجين في عام 1979م هي الحلقة الأبرز في بدايات تلك المرحلة، ذلك أنها أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، مقابل انسحاب قوات الاحتلال من شبه جزيرة سيناء، مع تجريدها من السلاح وحظر دخول القوات المسلحة المصرية إليها، وحين أعلن الرئيس السادات أن حرب أكتوبر لعام 1973م هي "آخر الحروب" مع إسرائيل، فإنه بذلك اعتبر المفاوضات خيارا وحيدا في التعامل مع إسرائيل، وهو ما سوغ لقادة الدولة العبرية أن يرددوا في تصريحاتهم أن مصر خرجت من الصراع ولن تعود إلى المواجهة مع إسرائيل، وكان " آفي دختر" وزير الأمن الداخلي أحدث مسؤول في الدولة العبرية أعاد التأكيد على هذه النقطة في محاضرة مهمة له ألقاها بمعهد أبحاث الأمن القومي في شهر سبتمبر الماضي.
لا يفوتنا هنا أن نذكر أن الرئيس السادات حين وقع اتفاقية كامب ديفيد وتعرض بسببها لانتقادات عربية واسعة النطاق، فإن السعودية واجهت ضغوطا أمريكية للانخراط في مسيرة "السلام المفترض"، الأمر الذي دفعها إلى تقديم مبادرة الملك فهد في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في فاس بالمغرب عام 1981م وتضمن آنذاك بعض الأفكار التي وردت لاحقا، في مبادرة الأمير عبد الله، لكن اعتراض سوريا و دول أخرى عليها أدى إلى إيقافها وعدم إقرارها من قبل القادة العرب.
اتفاقيات كامب ديفيد فتحت الطريق رسميا وعلنا لمسيرة التطبيع مع إسرائيل قفزا فوق استحقاقات القضية الفلسطينية، وأقول رسميا وعلنا لأن الاتصالات السرية وغير الرسمية كانت قائمة بين إسرائيل وبعض الدول في المغرب والمشرق العربيين.
في تلك الأثناء كانت منظمة التحرير الفلسطينية مازالت تتمتع ببعض العافية، وكانت أجواء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي مازالت مواتية. (لا تنس أن الاتحاد السوفيتي كان مساندا للحق الفلسطيني) رغم أن الرئيس ياسر عرفات والدائرة الضيقة المحيطة به كانوا قد أصبحوا يميلون إلى فكرة الحل السياسي، وهو ما تحدث به السيد "هاني الحسن" عضو المجلس الوطني أمام الجمعية الراديكالية في لندن عام 1989م، مشيرا إلى أن التفكير في "الحل السياسي" أصبح يراود أبا عمار في أعقاب هزيمة يونيو لعام 1967م . غير أن استمرار المقاومة وظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الساحة مع بداية الثمانينات أعطى دفعة لتيار المقاومة، بلغت إحدى ذراها في انتفاضة عام 1987م، التي فاجأت الجميع، وأثبتت حضورا متزايدا لدور المقاومة الإسلامية بجناحيها، وهو ما أثار انتباه الإسرائيليين بوجه أخص، الذين وجدوا أنفسهم أمام قوة فلسطينية جديدة صاعدة، وبالتالي كان عليها أن تختار ما بين فتح وحماس. ففضلت أن تمد جسورها مع فتح، وهذا التواصل هو الذي أفرز اتفاقات أوسلو التي عقدت عام 1993، وبعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في سنة 1992 وترتب على اتفاقات أوسلو عودة أبو عمار إلى غزة، وانتخابه رئيسا للسلطة الفلسطينية، ومن ثم انخراطه في مسيرة التفاوض والحل السلمي مع إسرائيل. وهو ما سجله عرفات في رسالة بعث بها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي في 9/9/1993 وقال فيها إن منظمة التحرير الفلسطينية "تلزم نفسها بعملية السلام في الشرق الأوسط، وحلا سليما للنزاع بين الجانبين، وتعلن أن كل القضايا العالقة المتعلقة بالوضع النهائي ستحل عن طريق المفاوضات".
بعد أوسلو وقع الأردن اتفاقية "وادي عربة" مع الإسرائيليين في سنة 1994. وحين وجدت إسرائيل أن أبو عمار لم يمتثل لشروطها في المفاوضات فإنها حاصرته في المقاطعة وقتلته بالسم في عام 2004، وفي هذه الأثناء واصلت إسرائيل اختراق العالم العربي، فتم تطبيع العلاقات بينها وبين موريتانيا، وتوالى فتح مكاتب تمثيلية لها – قيل إنها تجارية – في المغرب وتونس وقطر وسلطنة عمان، الأمر الذي جاء دالا على أن التهافت على السلام يتقدم بخطى حثيثة، وأن إسرائيل توسع اختراقاتها للعالم العربي حينا بعد حين.
(4)
منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في عام 1979، وخروج مصر عمليا من الصراع سرى الوهن في الجسم العربي كله، إذ تم الاعتراف بدولة إسرائيل التي لم تعترف بأي شيء للفلسطينيين، واعتبر السلام خيارا استراتيجيا في حين لم تعلن ذلك إسرائيل، واتفق على حل كل شيء بالتفاوض الذي رحبت به إسرائيل المستعدة للتفاوض إلى الأبد (أبا إيبان أبو الدبلوماسية الإسرائيلية عرف الدبلوماسية بأنها أن تقول كلاما معقولا يقبله الجميع، دون أن يترتب عليه أي عمل، وشامير رئيس الوزراء الأسبق قال في مؤتمر مدريد إنهم مستعدون للتفاوض لعشرة أو عشرين سنة).
في طور الوهن أيضا أصبحت المقاومة عنفا منبوذا والجهاد إرهابا منكورا، والصراع صار نزاعا والاحتلال انتشارا، وتراجعت الشرعية التاريخية في فلسطين لصالح ما سمى بالشرعية الدولية، ثم تراجعت الشرعية الدولية، بحيث لم تعد تتمثل في قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية، ولكنها صارت ما تمليه واشنطون وتوافق عليه الرباعية، في الوقت ذاته لم تعد فلسطين قضية العرب المركزية، ورفع بدلا منها في أغلب العواصم شعار "نحن أولا، وليذهب العرب إلى الجحيم!".
هذا التقهقر المستمر على مختلف الجبهات كان بمثابة هدايا مجانية قدمها العرب إلى إسرائيل التي ظلت متمنعة طوال الوقت. المدهش أنه إزاء تمنعها المدعوم من الولايات المتحدة ظلت الدول العربية تقدم في كل تراجع تنازلا جديدا.
من رحم هذا الوهن المخيم خرجت المبادرة العربية بعرض يلوح بإغلاق الملف بالكامل والتسليم لإسرائيل بأهم ما تريده، فيما بدا أنه هروب من المشكلة إلى الأمام من خلال طرح حل نهائي لها . وبإعلانها اعتبرت الدول العربية أنها أبرأت ذمتها، وقدمت للقضية آخر ما عندها، بحيث لم يعد ما يشغلها هو تحرير فلسطين، وإنما انحصر نضالها في محاولة تسويق المبادرة في مختلف المحافل، واستجلاب الرضي الإسرائيلي ومحاولة "شرحها" للإسرائيليين (!) تارة من خلال مبعوثين للجامعة العربية (سفر وزير خارجية مصر والأردن إلى تل أبيب)، وتارة أخرى لتبرير الاتصالات الثنائية (اجتماع وزير خارجية البحرين السابق مع تسيبي ليفني). ثم من خلال حملة الإعلانات الأخيرة في الصحف العربية والعبرية.
لقد مثلت المبادرة منعطفا خطيرا له تأثيره السلبي على مسيرة القضية الفلسطينية، كيف ولماذا ؟ -أجيب على السؤالين في الأسبوع القادم بإذن الله.
الهروب العربي الكبير (2)
رغم أن إسرائيل لم تقبل المبادرة العربية رسميا، إلا أن الأمر المؤكد أنها كانت مازالت أكثر الأطراف سعادة بها، لأنها تحولت إلى قسيمة زواج "عرفي" فتحت البيت وسوغت الدخول.
(1)
من باب التذكرة فقط، أنبه إلى أن المبادرة التي أطلقت في عام 2002 أصبحت مقدمة الآن باسم الدول العربية والعالم الإسلامي، أي أنها تلوح لإسرائيل بأنها ستفتح لها أبواب التطبيع على مصراعيها في 57 دولة. وتلك جائزة كبرى لا ريب. أنبه أيضاً إلى أن المبادرة أعلنت بعد تولي أرييل شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية في عام 2001. وهي تدعو إسرائيل إلى إعلان أن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي (وهو ما فعلته مصر منذ 30 سنة). وتطالبها بالانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، التي تشمل الضفة وغزة والجولان وجنوب لبنان. كما تطالبها بحل عادل لمشكلة اللاجئين يتفق عليها، وبقبول قيام دولة مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 في الضفة والقطاع وتكون عاصمتها القدس الشرقية، وإذا ما استجابت إسرائيل لهذه الطلبات فإن الدول العربية في هذه الحالة ستقوم بأمرين، أولهما اعتبار "النزاع" العربي الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل. وثانيهما إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل.
(2)
عند القراءة الثانية لنص المبادرة يلاحظ المرء أنها قدمت إلى إسرائيل مجموعة من الهدايا المجانية التي تتمثل فيما يلي:
* الاعتراف المفتوح الذي قررته الدول العربية. وقد اعتبر ذلك الاعتراف مضموناً وجاهزاً، لكنه مؤجل، وينتظر القبول من جانب إسرائيل التي ستحدد هي موعد سريانه.
* وصف ما بين العرب وإسرائيل بأنه "نزاع" وليس صراعاً كما هو التعبير الأدق والأصوب. والفرق بين المصطلحين أن النزاع مصطلح يصف اختلافاً بين حقين، في حين أن الصراع وصف للتدافع الحاصل بين الحق والباطل أي أن الضحية المجني عليها والغاصب المعتدي. وليس مفهوماً لماذا انحازت المبادرة مرتين في تعبيرها إلى الوصف الأول الذي يزور حقيقة الصراع.
* النص على انتهاء الصراع بين العرب والإسرائيليين في حالة موافقة الأخيرين على المبادرة. الأمر الذي يعرض تطوعا بالتنازل المجاني عن فلسطين التاريخية التي اغتصبت إسرائيل 88% من مساحتها، والإقرار بإسقاط كل جرائم الإبادة والنهب والترويع التي تعرض لها الشعب الفلسطيني طوال قرن من الزمان. وخطورة هذه النقطة تتضح أكثر إذا قارنا هذا العرض المفرط في التسامح غير المبرر بموقف إسرائيل من ألمانيا، ذلك أنها مازالت تعتصر الدولة الألمانية وتبتزها ماليا حتى هذه اللحظة في حين ما برحت تجلد الضمير والذاكرة الألمانية بسبب ما تعرض لها اليهود تحت حكم النازيين في أربعينيات القرن الماضي. وقد نشر موقع مجلة "ديرشبيجل" الألمانية في 23/11/2007 أن حكومة بون دفعت تعويضات لإسرائيل عن معاناة اليهود بلغت 88 بليون دولار حتى عام 2007 وفي شهر أكتوبر من هذا العام قررت وزارة المالية الألمانية تخصيص 250 مليون دولار أخرى خلال السنوات العشر القادمة لتغطية نفقات 6 آلاف يهودي لا يزالون أحياء بعد نجاتهم من "المحرقة". أما الجريمة المستمرة بحق الفلسطينيين، التي تعادل أضعاف ما حل باليهود في ألمانيا فإن المبادرة تعرض نسيان فصولها تماما بالمجان، مبدية استعداداً مذهلاً وغير قابل للتصديق لاعتبار كل الفظائع التي جرت لم تكن!
* إسقاط حق اللاجئين في العودة من خلال النص على "حل عادل يتفق عليه".وهو نص ملغوم ظاهره الرحمة وباطنه مسكون بالعذاب والشقاء. كما يذكر الدكتور سلمان أبو ستة المنسق العام لمؤتمر حق العودة في دراسته العديدة حول الموضوع ذلك أن الكلام عن حل عادل يعني أن الموضوع قابل للمساومة، في حين أن عودة اللاجئين حق غير قابل للتصرف كفله القانون الدولي أكثر من مائة مرة، من ثمة فالمطلوب هو تنفيذ الحق وليس المساومة عليه، علماً بأن الإشارة إلى أنه "يتفق عليه" لا تعني إلا شيئاً واحداً هو أن تم ذلك مع الإسرائيليين الذين رفضوا منذ عام 1948 عودة اللاجئين إلى ديارهم.
إن إسقاط حق العودة يعني قبول المبادرة بأن يبقى 70% من أبناء الشعب الفلسطينية البالغ عددهم 11مليوناً في المخيمات والمنافي، لأن 30% فقط من الفلسطينيين هم الذين يعيشون على أرض فلسطين الآن، ولا يخلو الأمر من مفارقة، لأن المبادرة التي أسقطت حق العودة، نصت على رفض توطين اللاجئين في البلاد العربية، الأمر الذي يثير التساؤل التالي: إذا كان على 70% من الفلسطينيين أن يحرموا من العودة إلى بلادهم، وإذا كان توطينهم في البلاد العربية مرفوضاً، فهل يعني ذلك أن يحكم عليهم بالتشرد الأبدي في مختلف أصقاع العالم البعيدة؟
(3)
لم تقبل إسرائيل الهدية التي طمأنتها إلى أن النظام العربي أشهر إفلاسه بحيث لم يعد قادراً على أن يسترد الحق الذي سلب منه بالقوة. بالتالي فإنها أصبحت تستجدي السلام وتتهافت عليه، بعدما غدت عاجزة عن أن تفرضه على نحو يحفظ كرامتها وحقوقها، وفي هذه الحالة فإن المبادرة تحولت إلى مسكن ومهدئ لخواطر الإسرائيليين، وإلى مخدر للعرب. وكانت النتيجة أن الذين هدأت خواطرهم اطمأنوا إلى تأمين ظهورهم فاندفعوا في تنفيذ مخططاتهم. أما الذين تعاطوا المخدر فقد التحفوا بالمبادرة وغطوا في نوم عميق ومن ثم فإنهم أصبحوا جزءا من المشكلة وليس طرفا في حلها!
إننا إذا رصدنا الممارسات الإسرائيلية منذ أن أطلقت المبادرة العربية في عام 2002 وحتى نهاية العام الحالي (2008)، فسوف نكتشف أن الرسالة المعطرة التي بعث بها إليهم القادة العرب في قمة بيروت، استقبلت في تل أبيب بدرجات مختلفة من الازدراء والتجاهل.
يسلط التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2007، الذي أعده مركز الزيتونة في بيروت، أضواء قوية على "إنجازات إسرائيل" في ظل المبادرة العربية، التي منها ما يلي:
* في ذات العام الذي أطلقت فيه المبادرة (2002) شرعت حكومة إسرائيل برئاسة آريل شارون في بناء الجدار العازل. وخلال الفترة الواقعة بين سنتي 2002 و 2007 تم بناء 450 كيلو مترا من ذلك الجدار. وهو ما أدى إلى عزل 274607 كيلو مترات مربعة من أراضى الفلسطينيين، وتهجير 27841 فرداً. وقد تسبب الجدار في إغلاق 3551 منشأة اقتصادية للفلسطينيين. كما كان سببا في مصادرة 49291 دونماً لصالح عملية البناء.
* طبقاً لمعلومات مركز معهد الأبحاث التطبيقية – القدس(اريج) فإن إسرائيل قامت في الفترة من 2001 إلى 2007 بإقامة 122677 وحدة سكنية في المستوطنات، وأن عام 2007 شهد حركة استيطانية مكثفة، إذ تمت خلاله إقامة 32064 وحدة سكنية حتى شهر سبتمبر ذلك العام.
* تم هدم 725 منزلاً للفلسطينيين في القدس، كان يعيش فيها 3554 فلسطينياً، بينهم 2131 طفلاً.
خلال تلك الفترة أيضا أعادت إسرائيل احتلال الضفة بالكامل، وأخلت مسؤوليتها كدولة محتلة عن قطاع غزة، وقامت بتنشيط عملية تهويد القدس، وحاصرت الرئيس ياسر عرفات وقتلته بالسم. في الوقت ذاته فإنها رفعت شعار الدولة اليهودية، في التمهيد لطرد عرب 48 واقتلاعهم من أرضهم وديارهم. وشغلت الفلسطينيين بسلسلة من الألاعيب السياسية التي أوهمتهم بأنهم سيقيمون دولتهم في نهاية عام 2008. وظلت تلوح لهم بتلك "الجزرة" عبر المفاوضات العبثية في حين كانت تحدث انقلاباً في خرائط الواقع بما يجعل تحقيق ذلك الحلم مستحيلاً. وأخيرا نجحت إسرائيل في اختراق الصف العربي والانخراط في نسيجه السياسي، على نحو صرف الانتباه عن الجريمة التي تجسدها وعن الخطر الذي تمثله على الأمن القومي العربي، بحيث أشاعت بين بعض الدوائر العربية أنها (وهى مازالت تفترس فلسطين وشعبها) لا تشكل خطراً على العالم العربي، وأن إيران هي مصدر ذلك الخطر. ومن مفارقات الأقدار وسخريتها، أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة بطبيعة الحال، قسمت العرب إلى معسكرين، أحدهما للمعتدلين الذين يصطفون معها ويحذرون من الخطر الإيراني، والثاني للمتطرفين الذين يعارضون سياستها ولا يزالون يعتبرونها الخطر الأول. وبهذا الاختراق فإن إسرائيل ذهبت إلى أبعد، وتحولت إلى لاعب مؤثر في السياسة العربية.
(4)
في نهاية نوفمبر الماضي وجه حوالي 500 من كبار جنرالات الجيش الإسرائيلي المتقاعدين والمسؤولين الأمنيين والدبلوماسيين نداء إلى الحكومة الإسرائيلية لكي تنتهز "الفرصة التاريخية" التي وفرتها مبادرة السلام العربية بإعلان الموافقة عليها والتوصل إلى صفقة نهائية مع العرب والمسلمين تنهي المشكلة خصوصاً مع الفلسطينيين والسوريين. وهذا المديح للمبادرة سمعناه مؤخراً على لسان الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز الذي رحب بها ودعا إلى إدخال "بعض التعديلات" عليها. وهو أمر مفهوم، يظهر في العلن مدى السعادة التي استشعرها الإسرائيليون حين وجدوا أن الزعماء العرب دب في نفوسهم اليأس واستسلموا للوهن، وقرروا بعد ستين عاماً من الصراع أن يسلموا لإسرائيل أهم ما تريد، الأمر الذي وفر لها درجة من الأمان الاستراتيجي لم تعرفها منذ تأسيس الدولة العبرية في عام 48.
من حق أي أحد أن يطرح السؤال التالي: إذا كانت المبادرة قد وهبت لإسرائيل كل تلك الجوائز التي سبقت الإشارة إليها، فلماذا لم تنتهز الفرصة وتعلن قبولها ؟ ردي على ذلك أن إسرائيل بعد أن ضمنت المبادرة، وأدركت أنها آخر ما عند العرب، في ظل انهيار النظام العربي وانبطاح دوله، فإنها آثرت الانتظار، لأن الوقت في صالحها على طول الخط. فهي تتمدد على الأرض يوماً بعد يوم، ومستمرة في تهويد القدس والتخلص من العرب المقيمين بين ظهرانيها بمختلف السبل (في الأسبوع الماضي نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة "معاريف" إعلاناً ملوناً وجذاباً عن أن الإدارة الأمريكية تدعو خمسين ألفا من المقيمين داخل إسرائيل للهجرة إلى الولايات المتحدة والحصول على تصريح العمل والإقامة الدائمة (البطاقة الخضراء). ولأن الإعلان الذي تضمن الشروط والتفاصيل مكتوب باللغة العربية، فلم يكن هناك شك في أنه يستهدف عرب 48 دون غيرهم. وفوق هذا كله وذلك، فإن إسرائيل مستمرة في تدمير حياة الفلسطينيين، خصوصاً عناصر المقاومة بينهم، سواء من خلال التنسيق الأمني مع السلطة القائمة في رام الله، أو بواسطة الحصار الوحشي المفروض في غزة.
ثمة خطاب سياسي عربي يعتبر أن الانقسام الفلسطيني ضيع القضية الفلسطينية وأسقط هيبتها. وهذا كلام إذا كان فيه بعض الصحة إلا أنه غير دقيق لأن الضرر الذي أحدثه الانقسام يأتي في المرتبة التالية بعد الجناية التي أحدثها انهيار القطاع العربي واستسلام دوله لهيمنة الإدارة الأمريكية، التي تسلمت من العرب ملف القضية في مؤتمر "أنا بولس"، بعدما وقعوا صك الاستقالة منها في مبادرة السلام، ومن ثم انتقلوا من موقع الراعي المساند إلى مقاعد المتفرجين الذين أصر بعضهم على الجلوس مغمض العينين. يشهد بذلك الحاصل في قطاع غزة.
عن الشرق القطرية