مَنْ يعيد مال مصر الضائع؟
|
بعض من اللصوص |
فاروق جويدة
..................
فتحت السجون أبوابها للعشرات من كبار المسئولين السابقين من الوزراء ورجال الأعمال. وبدأت رحلة طويلة من المحاكمات لا أحد يعرف متى تنتهى خاصة أن المصريين اكتشفوا أنهم كانوا يعيشون فى مستنقع رهيب من النهب والفساد والسرقة. أفاق المصريون على واقع لا شبيه له فى العالم.. كنا نسمع عن فضائح المسئولين وخطاياهم ولا نعرف حدود ما نسمع.. وكنا نشاهد الأفراح والليالى الملاح حيث يجتمع المسئولون مع رجال الأعمال ونجوم المجتمع فى الليالى السوداء والحمراء والبنفسجى.
كنا نسمع عن الملايين وهى تتطاير فى سماء المنتجعات المخملية فى كل مكان.. وكنا نرى ذلك الزواج المحرم الباطل بين رأس المال ورجال الأعمال والسلطة ولم نكن نعلم أن هذا الزواج أنجب ابنًا شريرا فاسدا أطاح بكل ثروات هذا الوطن كنا نعرف بعض هذه الأشياء وكنا أحيانا نتكلم أو نصرخ أو نحتج ولم يكن أحد يسمعنا حتى خرج شبابنا الواعد ذات ليلة وأطاح بالمعبد وكل ما فيه من مظاهر الفساد والتحلل.. مهما سبح الخيال ومهما تدفقت الكلمات ومهما كان حجم الصراخ إلا أن ما رأيناه وما سمعناه من قصص الفساد تجاوز كل حدود الخيال.
حينما كان البعض يتحدث عن حجم الأموال المنهوبة كنا نتوقف قليلا عند بعض الأرقام ولكن ما قيل فى التحقيقات تجاوز كل الحدود من أين كل هذه البلايين وليست الملايين وماذا يفعل هؤلاء بكل هذه الأموال وكيف تحول المال من رغبة فى توفير حياة كريمة إلى مرض خطير يسمى الجشع والرغبة فى امتلاك كل شىء بالحق والباطل بالحلال والحرام.
كيف تحولت أحلام هؤلاء من رقم المليون إلى المائة مليون ثم عرفوا بعد ذلك رقما يسمى المليار.. وما هى مواصفات هذا المجتمع الذى سمح لهم بهذا النهب وبكل هذه السرقات قبل ثورة يوليو كان فى مصر كلها أربعة أشخاص يحملون لقب مليونير وهم عبود باشا وباسيلى وفرغلى وأمين يحيى باشا وما عدا ذلك كانوا ملاك الأراضى من أصحاب الملايين أمثال بدراوى والمغازى وسراج الدين.
وعندما قامت ثورة يوليو انتقلت ملكية وأصول هؤلاء الأشخاص إلى الدولة المصرية حيث وزعت الأراضى على الفلاحين طبقا لقانون الإصلاح الزراعى ثم تحولت المصانع والشركات إلى ما سمى القطاع العام.
انتقلت الملكية الخاصة لعدد من الأشخاص إلى الدولة ولكننا فجأة وجدنا هذه الدولة نفسها تقرر أن تبيع كل شىء بتراب الفلوس لعدد من الأشخاص الذين لا يملكون شيئا.. هناك من استولى على صناعة الحديد.. وآخرون على صناعة الأسمنت وهناك من اشترى قلاع صناعة الغزل والنسيج وهناك من قام بشراء المحالج وباعها أرضا وعمارات.. وهناك من اشترى مصانع السلع الغذائية والزيوت وهناك من اشترى المطاحن.. وبجانب هذا هناك من اشترى الفنادق والمؤسسات التجارية والصناعية والسلع الاستهلاكية.. هناك من اشترى عمر أفندى وجاتينيو وهانو وشيكوريل وصيدناوى وكلها شركات كانت تشغل مساحات رهيبة من الأراضى والعقارات والمنشآت.. باختصار شديد باعت الدولة كل أصولها ولا أحد يعرف حجم هذه المبيعات وقيمتها وأين ذهبت هذه الأموال.
هناك تقديرات تقول بأن هذه المشروعات جميعها قد بيعت بما يتراوح بين 80 و90 مليار جنيه.. وأن ثلث هذا المبلغ ذهب إلى المعاش المبكر للعاملين فى هذه المشروعات والثلث الباقى ذهب إلى تغطية العجز فى ميزانية الدولة.
إن الشىء المؤكد أن السعر الحقيقى لهذه المشروعات أكبر بكثير من هذه الأرقام لأن آخر تقديرات البنك الدولى عن برامج الخصخصة فى مصر كانت تقدر بمبلغ 500 مليار جنيه فكيف باعت الدولة الجزء الأكبر والأهم من هذه المشروعات بمبلغ 80 مليار جنيه فقط.. هناك عمليات تلاعب خطيرة فى تقييم هذه المشروعات ويجب أن تراجع بدقة وأن تخضع لجان التقييم للمساءلة خاصة أن عمليات البيع كانت تتم فى أحيان كثيرة بطريقة سرية فيها الكثير من التلاعب والفساد.
وبجانب التلاعب فى عمليات التقييم فإن عددا كبيرا من رجال الأعمال قام بشراء هذه المشروعات بقروض ميسرة من البنوك دفعها على أقساط وفى أحيان كثيرة سقطت مبالغ كبيرة من هذه الديون تحت شعار الديون المتعثرة وهناك شواهد كثيرة على ذلك.. لقد تم بيع فندق شيراتون الغردقة بمبلغ 15 مليون دولار وهو يقع على مساحة 85 فدانا على البحر لمستثمر سعودى اقترضها من أحد البنوك المصرية.. وتم بيع فندق مريديان القاهرة لنفس المستثمر على أجمل بقعة على النيل بمبلغ 70 مليون دولار شملت إقامة فندق آخر بجواره على أرض الحديقة والجراج وتم ذلك كله بقروض من البنوك المصرية.. والغريب أن المشترى رفض أن يبيع هذه الصفقة بأكثر من مليار جنيه بعد ذلك.
إن ما حدث فى صناعة الحديد فى مصر وبيع هذه القلاع الصناعية لشخص واحد يسمى أحمد عز جريمة أكبر من كل الجرائم فقد اشترى أسهم العاملين فى مصنع الدخيلة بمبلغ 600 مليون جنيه وأعاد تقديرها فى البنوك بمبلغ 12 مليار جنيه.. فكيف تم ذلك.. ولنا أن نتصور زمان كان يباع طن الحديد بمبلغ 700 جنيه وزمان آخر وصل بها إلى ما يقرب من عشرة آلاف جنيه للطن.
وما حدث فى صناعة الحديد حدث أيضا فى صناعة الأسمنت حيث تم بيع جميع مصانع الدولة بمبالغ ضئيلة وبعد ستة شهور باع رجال الأعمال نفس المصانع بآلاف الملايين لشركات أجنبية.
ولنا أن نتصور بيع شركات السلع الغذائية والاستهلاكية.. وبيع شركات الغزل والنسيج أعرق وأقدم الصناعات فى مصر.. وكيف تحولت المحالج إلى أراضى بناء ومشروعات عقارية.
لنا أن نتصور كيف تم تخريب الزراعة المصرية من أجل فتح أبواب استيراد القمح والقطن والثوم والخضراوات وكيف أصبح الثوم الصينى من أهم واردات مصر أقدم دولة زراعية فى العالم.
لم يتوقف مسلسل بيع أصول الدولة المصرية على الصناعة والتجارة ولكنه امتد إلى بيع الأراضى فى كل أرجاء المحروسة.. لنا أن نتابع ما حدث فى أرض سيناء خاصة الشريط الأزرق فى شرم الشيخ والغردقة وبقية سيناء.. لقد تم بيع ملايين الأفدنة بأسعار زهيدة حيث أقيمت المنتجعات والقرى السياحية التى امتلكها عدد من الأشخاص حصلوا عليها بتراب الفلوس ثم باعوها بالملايين.. لنا أن نتصور مليون فدان من الأراضى الزراعية تحولت إلى مبانٍ وعقارات وجمع منها تجار الأراضى ملايين الجنيهات.. لنا أن نتصور ما حدث فى الطرق الصحراوية وبناء المنتجعات والمدن الجديدة فى التجمع الخامس وأكتوبر والرحاب والعاشر من رمضان..
كل هذه البلايين دخلت جيوب عدد من الأشخاص أمام زواج باطل بين السلطة ورأس المال.
والآن يطرح هذا السؤال نفسه: كيف تسترد مصر ــ الشعب والدولة ــ هذه الأموال.. وما هى إمكانية عودة هذه الأموال.. وهل يمكن الوصول إليها أم أن الأمر أصبح الآن شيئا مستحيلا؟
هناك أكثر من طريق لإمكانية استرداد بعض ولا أقول كل هذه الأموال:
أولا: أن أصحاب هذه الأموال فى يد جهات التحقيق الآن وأتصور أنه لا مانع أبدا من التفاوض السلمى معهم مع التلويح باستخدام القوة لاسترداد جزء من هذه الأموال مع الالتزام بحفظ التحقيقات والمسئولية الجنائية.. لو أن أحد هؤلاء الأشخاص من الوزراء أو رجال الأعمال قرر إعادة جزء من الأموال التى حصل عليها والتزم بذلك فهذا أحد الطرق التى يمكن اللجوء إليها.. ولنا أن نفترض أن شخصا حصل على قطعة أرض وباعها وكسب منها 500 مليون جنيه وقرر أن يعيد للدولة 300 أو 400 مليون جنيه منها ويحصل على الباقى فلا مانع من السير فى هذا الاتجاه.
لنا أن نفترض أن شخصا اشترى مصنعا ثم باعه وقرر أن يقتسم أرباحه مع الدولة.. فلا مانع من ذلك.. لو أن شخصا اشترى مصنعا للأسمنت بمبلغ مليار جنيه ثم باعه بعشرة مليارات جنيه وقرر أن يقتسم أرباحه مع الدولة وقدم ما يثبت ذلك مقابل حفظ التحقيقات فلا مانع من ذلك.
أن الأمر يتطلب فتح أبواب التفاوض للراغبين فى إعادة أموال هذا الشعب أما إذا رفضوا فإن للقضاء كلمته وعليهم أن ينتظروا عقاب السماء ودعوات المظلومين من أبناء هذا الشعب وهى لعنة أبدية سوف تطاردهم فى قبورهم.
ثانيا: أما الأرصدة الخارجية التى طالبت مصر بالتحفظ عليها فيجب أن تستمر فى إجراءاتها القانونية ولا مانع أبدا من التفاوض بشأن إعادة جزء منها للشعب.. نحن أمام مسلسل طويل من الجرائم والنهب والسرقة فقد ضاعت أموال هذا الشعب طوال ثلاثين عاما لا أعتقد أن مصر عاشتها من قبل فى أى عصر من العصور والمطلوب الآن أن نلجأ إلى الطرق التى تعيد لنا هذه الأموال ابتداء بالتفاوض مع المسئولين والوزراء ورجال الأعمال وانتهاء بالمحاكم والإجراءات القانونية.
يبقى بعد ذلك موقف الأصول والمصانع والعقارات والأراضى التى حصل عليها هؤلاء المغامرون وهنا لن أطالب بالتأميم أو الحراسة ولكننى أطالب فقط بمراجعة وثائق نقل الملكية.. ومعظم هذه المستندات إما مزورة أو غير قانونية والمطلوب هو احترام القانون فى دولة غاب عنها القانون ثلاثين عاما كاملة.. ما أكثر ثغرات عقود بيع هذه الأصول وهنا يمكن أن تعود الحقوق لأصحابها بالرجوع على هؤلاء بفسخ عقود البيع وإعادة هذه الأصول للدولة..
بجانب ما يتخذه النائب العام من إجراءات لإعادة أموال الشعب مطلوب أن نفتح أبوابا للحوار حول إعادة هذه الأموال مع المتهمين أنفسهم والقانون يسمح بذلك.
نحن أمام كارثة ويجب أن نبحث عن حلول لنعيد لهذا الشعب شيئـا من أمواله المنهوبة وأصوله الضائعة ويجب أن نحكم الحصار على هؤلاء المغامرين ولا نتركهم يفلتون من أيدى العدالة.