دولة جنوب السودان بين العرب.. وأفريقيا
| |
البشير | |
فاروق جويدة
...............
لم يعد من المناسب أن نتحدث عن الماضى فى قضية تقسيم السودان من حيث الأسباب أو النتائج لأننا أمام واقع جغرافى وسياسى وإنسانى جديد.. هناك حقيقة جديدة مؤكدة أن السودان أصبح الآن دولتين: دولة فى الشمال وأخرى فى الجنوب وأن هذا الواقع الجديد سوف يفرض حسابات جديدة على جميع الأطراف دوليا وإقليميا وعربيا. هناك حقائق جديدة يجب أن نعترف بها وهى أن جنوب السودان لم يعد جزءا من السودان الكبير بعروبته وتاريخه وأنه الآن أقرب لأن يكون دولة أفريقية وليست عربية وأنه بحكم التكوين والانتماء سوف يتجه جنوبا شطر دول حوض النيل وأن علينا أن ننقذ السودان الشمالى قبل أن يقع ضحية تقسيمات ودول أخرى فى كردفان أو دارفور أو شمالا فى منطقة النوبة.
كان شيئا عجيبا وغريبا أن تلقى الإدارة الأمريكية بكل ثقلها السياسى فى معركة جنوب السودان وقد كانت بالفعل معركة ضارية استخدمت فيها أمريكا كل أسلحتها السياسية والاقتصادية وحتى الدينية وكان عدد المسئولين الأمريكيين الكبار فى هذه المعركة شيئا يثير الدهشة والتساؤل ما بين رؤساء سابقين ورؤساء مرشحين ونجوم السينما المشاهير.
كان أمرا غريبا أن يتصدر مشهد الاستفتاء الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر وهو فى هذا العمر ليبقى فى جنوب السودان حتى إعلان نتائج الاستفتاء ويراقب بنفسه الصناديق واللجان وطوابير المواطنين الذين حرصوا على الإدلاء بأصواتهم فى سابقة حضارية وتاريخية لم تشهدها القارة السمراء من قبل.
على جانب آخر كان مرشح الرئاسة السابق ورئيس لجنة العلاقات الخارجية فى الكونجرس السيناتور جون كيرى فى صدراة الموقف طوال أيام الاستفتاء يبدأ رحلته بإهداء قبعة أهل تكساس لرئيس جنوب السودان القادم سلفاكير ويعلن أن الإدارة الأمريكية سوف تقدم كل وسائل الدعم للدولة الجديدة.
كان شيئا غريبا أن ينتقل الاهتمام الأمريكى على كل المستويات من الشمال حيث القضية الفلسطينية والصراع العربى ــ الإسرائيلى ولا تتردد أمريكا فى إعلان انسحابها من المفاوضات لكى تهبط بكل ثقلها فى جنوب السودان لتحسم معركة الاستفتاء لصالح الانفصال وإعلان قيام الدولة الجديدة.
إن الانتقال المفاجئ من قضية الصراع العربى ــ الإسرائيلى والمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين إلى تحرير جنوب السودان يحتاج إلى دراسة عميقة لتحديد أسباب هذا التحول الخطير وهذا الاهتمام الشديد بجنوب السودان.. إن هذا يطرح أمامنا أكثر من سؤال وأكثر من احتمال..
هل السبب فى هذا التحول أن أمريكا قررت أن تترك لإسرائيل الساحة العربية لتصفية حساباتها وتقرير مستقبلها كما تريد.. أم أن أمريكا رفعت يدها بعد أن تأكدت أنها نجحت فى الدخول بالعالم العربى إلى صراعات وخلافات وتقسيمات لن تقوم له بعدها قائمة؟. أم أنها ترى أن الدولة العبرية كبرت وتضخمت وتستطيع الآن أن تقوم بدور المعلم وليس الصبى ولهذا تركت لها الفرصة لترتيب أوضاعها فى قيادة المنطقة؟.
هل السبب فى الاندفاع الأمريكى نحو الجنوب فى السودان هو مواجهة المد الصينى فى شرق أفريقيا خاصة أن هناك علاقات قوية الآن بين الصين وجنوب السودان بالنسبة للبترول والدولة الجديدة الناشئة التى تحتاج إلى مؤسسات ومنشآت جديدة وان هناك سوقا تستحق المتابعة والاهتمام؟.
هل السبب أن تحكم أمريكا قبضتها على مياه النيل بصورة غير مباشرة وان ذلك كله يخدم مصالح إسرائيل حتى لا يعود الدور المصرى إلى مواقعة القديمة ويبقى فى منطقة الحصار ما بين إسرائيل وغزة شمالا والسودان المقسم جنوبا مع السيطرة الكاملة على البحر الأحمر ابتداء من باب المندب حتى قناة السويس؟.
هل السبب أن امريكا ترى مستقبل العالم فى أفريقيا القارة البكر التى لم يتم حتى الآن اكتشاف ثرواتها ومواردها خاصة من البترول والمعادن والموارد الطبيعية؟.
هل السبب هو الخوف من المد الإسلامى المتصاعد من السودان إلى المناطق الوثنية أو المسيحية فى قلب القارة السمراء وأن الدور الامريكى الدينى والمسيحى مطلوب فى هذه المناطق؟.
هل السبب هو خلق نموذج حضارى موازٍ للدولة العبرية فى أفريقيا لحصار الدول العربية المتخلفة لعلها تقتدى بهذه النماذج القريبة والتى تحمل مفاهيم الغرب وثوابته؟.
أسباب أخرى كثيرة جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تضع جنوب السودان فى مقدمة أولوياتها مع بداية الاستفتاء وحتى إعلان نتائجه.. كانت أمريكا حريصة جدا ليس على إجراء الاستفتاء فقط ولكن حرصها الأكبر كان على النتيجة وهى الانفصال.
والآن إذا كان الانفصال قد أصبح حقيقة ما هى صورة المستقبل فى ظل دولتين فى السودان..
بداية أنا لا أثق كثيرا فى الوعود التى قدمتها الإدارة الأمريكية للرئيس البشير لدعم الاقتصاد السودانى فى الشمال أو إخراجه من قائمة الدول المشجعة للإرهاب أو إلغاء العقوبات المفروضة على السودان أو إنقاذ الرئيس البشير من حكم المحكمة الدولية.. كل هذه الوعود وعود انتخابية سبقت الاستفتاء وهى تشبه ما يحدث فى الدول العربية قبل تزوير الانتخابات.. ولعلنا نذكر الوعود التى قدمتها أمريكا للرئيس السادات من أجل توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل ومنها مشروع مارشال لإعادة بناء الاقتصاد المصرى ولم تقدم أمريكا شيئا مما وعدت به باستثناء المعونة السنوية التى تقدمها منذ توقيع السلام مع إسرائيل وتماطل فيها من وقت لآخر.
ولهذا لا أعتقد أن الإدارة الأمريكية يمكن أن تدعم بقوة نظام الرئيس البشير هو يتحدث كثيرا عن الشريعة الإسلامية فلديها الكثير من الهواجس تجاه فكر ومواقف الرئيس السودانى منذ زمن بعيد كما أن إجراءات إلغاء العقوبات تحتاج إلى وقت طويل والأهم من ذلك أن أمريكا لا تملك الحق هى أو غيرها فى إلغاء حكم المحكمة الجنائية على الرئيس البشير..من هنا ورغم الاعتقاد بأن جنوب السودان سيواجه أزمات كثيرة فى ظل الاستقلال والدولة الجديدة إلا أن الأزمات الحقيقة ستكون من نصيب السودان الشمالى وليس السودان الجنوبى.. أن الجنوب رغم كل ما يعانيه من مظاهر التخلف سوف يكون فى وضع أفضل من السودان الشمالى.
هناك مجموعة أزمات فى الشمال.
إن ديون السودان الخارجية ستكون من نصيب حكومة الشمال وهى تزيد على 40 مليار دولار وهذا رقم كبير بالنسبة للسودان من حيث الموارد والإمكانيات.. إن حكومة الجنوب ترى أن الدين الخارجى اتجه شمالا ولم يصل منه شىء للجنوب سواء فى التنمية الاقتصادية والبشرية أو الإنفاق الحكومى وأن هذا الدين كان نتيجة أخطاء حكومات الشمال وعلى الشماليين أن يتحملوه.. وربما كان هذا هو السبب فى التصريحات المتبادلة أثناء عملية الاستفتاء بين الرئيس كارتر والمسئولين فى الحكومة السودانية حول مسئولية دولة الشمال عن سداد هذا الدين.. وإن كان المسئولون فى الخرطوم يعولون كثيرا على إسقاط هذه الديون والدعم المنتظر من الغرب.
إن الشمال سيواجه أزمة أخرى حتى لو تأجلت وهى قضية مياه النيل فقد أصبح الآن فى خندق واحد مع مصر أمام دول المنبع وإذا انضمت دولة الجنوب الجديدة إلى دول المنبع فسوف تترتب نتائج خطيرة على ذلك.. يضاف لهذا أن توزيع حصة السودان طبقا لاتفاقية 1959 على دولتى الشمال والجنوب يمكن أن يفتح مجالا لخلافات جديدة قد تصل إلى العلاقات بين مصر والسودان.
إن دولة شمال السودان تعتمد اعتمادا كاملا على مياه النيل وإذا تم تقسيم حصة السودان بالتساوى فسوف يكون ذلك ضد مصالح السودان وإمكانياته واحتياجاته أيضا.
من مشاكل الشمال أيضا أنه يخرج من الاستفتاء فى ظل حالة انكسار لا يمكن لأحد أن يتجاهلها.. إن انشطار الوطن قضية ليست سهلة على المستوى الإنسانى والحضارى وقبل ذلك المستوى الاقتصادى.. إذا كان أهل الجنوب يشعرون بالبهجة والانتصار فى ظل الاستقلال فإن أهل الشمال يشعرون بالمرارة والانكسار فى ظل التقسيم وقد تترتب على ذلك ردود أفعال شعبية تجاه الحكومة التى تتحمل نتيجة هذا التقسيم أمام الشعب السودانى.. إن حكومة الرئيس البشير تتحمل أمام التاريخ والشعب والوطن مسئولية تقسيم السودان وانفصال الجنوب.
من مشاكل الشمال أيضا مستقبل البترول السودانى الذى يوجد 85% منه فى دولة الجنوب ورغم أن هناك اتفاقيات ضمنية على عملية تقسيم عائدات البترول الا أن الفرق كبير بين حكومة كانت تسيطر على كل موارده وواقع جديد يفرض تقسيم هذا العائد.. لا أحد يعرف كيف ستتم عملية تقسيم حصص البترول وهل ستكون على أساس عدد السكان أم ستكون مناصفة بين الدولتين وعلى من تقع مسئولية تقسيم هذه الحصص.
فى ظل هذه الأزمات والمشاكل فإن شمال السودان تحاصره الآن قضايا أخرى لا تقل فى خطورتها عما حدث فى الجنوب.. إن أمام السودان معركة أخرى فى دارفور حيث ما زالت الحرب تدور وما زالت هناك دعوة للانفصال قد تترتب عليها إقامة دولة جديدة.. كما أن الحال فى كردفان لا يختلف كثيرا عما يجرى فى دارفور.. إن أمام السودان فى دولة الشمال مستقبل غامض لا أحد يدرى ما هى نهايته.
أما دولة الجنوب فإن فيها أيضا أزمات تشبه ما يعانيه الشمال.
فى جنوب السودان مشاكل قديمة مزمنة ما بين ارتفاع نسبة الأمية وانتشار الأمراض وغياب البنية الأساسية فى الطرق والمرافق والمنشآت ومشاكل التعليم والصحة والإدارة نحن أمام دولة يتم إنشاؤها فى كل شىء ابتداء بالمؤسسات الحكومية التى ستدير شئون الدولة وانتهاء بالكوادر البشرية التى تحتاجها عملية البناء فى كل مجالات الحياة.. إن إقامة دولة جديدة ليس أمرا سهلا وإن بدا فى فرحة الاستقلال شىء عادى ولكنه يحتاج إلى إمكانيات وموارد وقدرات بشرية.. يضاف لهذا أن الخلافات الدينية والعرقية والثقافية بين قبائل الجنوب تتجاوز ما كان من خلافات فى ذلك كله بين الشمال والجنوب.. إن الدولة الجديدة ترفع شعار العلمانية من حيث الحريات الدينية والثقافية وحرية التعبير ولكن هناك ثقافات متعددة ولهجات وعقائد تحكمها تقاليد وثوابت تتعارض فى الكثير من جوانبها.
على جانب آخر إذا كانت قضايا الحدود بين الشمال والجنوب ما زالت محلا للخلاف والدراسة والتفاوض فإن هناك ميراثا قديما من الصراعات والمشاكل حول أزمة الحدود بين دولة جنوب السودان وجيرانها.. هناك مشاكل على الحدود مع أوغندا وهناك أيضا رغبة فى إيجاد منافذ على البحر الأحمر وما يتطلبه ذلك من اتفاقيات مع دول الجيران.
ويبقى بعد ذلك كله أن التداخل السكانى بين الشمال والجنوب والعلاقات القديمة التى ربطت بين أبناء الوطن الواحد ستكون عبئا على الدولتين فى الشمال والجنوب.
سوف تقف دولة الجنوب حائرة بين انتماءين هل ستأخذ مكانها فى جامعة الدول العربية كدولة عربية أم ستأخذ مكانا آخر مع دول شرق ووسط أفريقيا..إن هذا الاختيار سوف تترتب عليه نتائج كثيرة.. هذا الاختيار سوف يضع أساس العلاقات بين دولتى الشمال والجنوب بُعدا أو تقاربا.. وهذا الاختيار أيضا سوف تترتب عليه نتائج أخرى فى العلاقات بين دولة الجنوب وإسرائيل.. وبعد ذلك وقبله فإن الانقسام الحالى بين دول حوض النيل سوف يحدد موقف دولة الجنوب وهل تنضم إلى معسكر دول المصب مصر والسودان وتتجه شمالا أم تنضم إلى معسكر دول المنبع وتتجه جنوبا وإن كان هناك اجماع على أن إسرائيل تمارس دورا خطيرا مع الدولة الجديدة.
سوف توفر دولة الجنوب على مصر وعلى دولة الشمال الكثير من الجهد إذا قررت أن تنضم إلى جامعة الدول العربية وأن تأخذ مكانها مع دول المصب.. وقد تثير الكثير من الازمات والمشاكل إذا اختارت أن تمضى مع دول المنبع وتؤكد هويتها الأفريقية بعيدا عن العالم العربى.
نأتى إلى نقطة مهمة وهى موقف مصر والسودان من دولة الجنوب.. أنا هنا أقول مصر والسودان لأن موقفهما لابد وأن يكون موقفا واحدا.. هناك جوانب كثيرة تتطلب توحيد هذه المواقف أهمها وأخطرها قضية مياه النيل وتحتاج إلى تنسيق كامل بين الدول الثلاث كما أن وجود دولة الجنوب مع مصر والسودان يمثل رصيدا أكبر.. الجانب الثانى لا ينبغى أن يشعر أهل الجنوب أن السودان تخلّى عنهم لأنهم طالبوا بالاستقلال وتبقى مصر حريصة على الدولتين معا فى إطار علاقات متكاملة.
إن دور مصر مع السودان الآن يحتاج إلى دعم أكبر.. إن السودان الشمالى فى حاجة وهو يعانى هذا الظرف التاريخى الصعب لدعم مصرى واضح كما أن السودان الجنوبى يحتاج إلى تأكيد مصرى بأنه لا فرق عند مصر بين الشمال والجنوب وأنهما فى نظر الحكومة المصرية ما زالا دولة واحدة وشعبا واحدا رغم التقسيم.. شمال السودان يحتاج إلى مصر فى ظل انقسامه أكثر من زمان وحدته.. وجنوب السودان يحتاج إلى مصر حتى لا يشعر أنه أصبح غريبا.
إن ما حدث فى السودان يمثل فرصة تاريخية أمام مصر لتعيد جسورها مع الشمال والجنوب معا وحتى لا يصبح التقسيم حلما لمناطق أخرى فى السودان.
لقد قامت الحكومة المصرية بتمويل عدد من المشروعات فى جنوب السودان خلال السنوات الخمس الماضية والمطلوب الآن مزيد من المشروعات كما أن شمال السودان يحتاج إلى المزيد من الدعم والسعى لحل مشاكله وأزماته خاصة فى دارفور ومناطق أخرى قد تشهد توترات ومصاعب جديدة.
أمام مصر الآن اختبار صعب لتأكيد حمايتها لعمقها الاستراتيجى وأمنها القومى فى مياه النيل وليس أمامها غير خيار واحد هو علاقات أكثر تعاونا وتنسيقا مع السودان بشماله وجنوبه.
يكفى الذى ضاع ولا داعى للبكاء على اللبن المسكوب لأن المطلوب الآن هو بدء صفحة جديدة فى علاقات أكثر اهتماما بالشأن السودانى.. السودان الشمالى يحتاج لدعم مصر الآن فى محنة انفصاله.. والسودان الجنوبى يحتاج لدعم مصر الآن فى نشوة استقلاله.. إن الجميع ينظر الآن إلى مصر الدعم والقوة والموقف.. ومهما قدم الغرب من مظاهر الدعم سيبقى الدور المصرى دورا محوريا بحكم التاريخ والموقف والتواصل وثوابت كثيرة جمعت الشعوب ووحدت إرادتها.
من هنا فإن العبء الأكبر الآن أن تتحرك مؤسسات الدولة المصرية الرسمية والشعبية نحو الجنوب بحيث لا تفرق بين السودان شمالا أو جنوبا لأن لغة المصالح اليوم تسبق كل شىء وعلينا أن نثبت للشعب السودانى الشقيق أن مصر هى مصر بدورها وريادتها ودعمها لكل الأشقاء شمالا أو جنوبا المهم أن نتجاوز جميعا هذه المحنة.