وثائق السفارات الأمريكية وكشف المستور
| |
جوليان آسانج | |
بقلم: فاروق جويدة
.....................
فى الأيام الأخيرة شهدت الساحة السياسية العالمية زلزالا عنيفا قاده شاب فى مقتبل العمر يدعى جوليان آسانج كان منذ شهور قليلة مضت مجهول الأصل والفصل والملامح وسرعان مااصبح حديث العالم كله.. لقد استطاع هذا المغامر الشاب أن يسطو على مئات الآلاف من الوثائق السياسية المهمة الخاصة بالعلاقات بين أمريكا الدولة العظمى ودول العالم شرقه وغربه، ولم يتردد فى أن يبث هذه الوثائق عبر وسائل الإنترنت لتصبح حديث العالم. أصبحت وثائق ويكيليكس السرية أكبر حدث سياسى وإنسانى فى عام 2010، وربما يؤرخ لها بعد ذلك كحدث سياسى خطير.. قدمت منظمة ويكيليكس للصحافة والإعلام العالمى أكبر وجبة سرية عن مراسلات وفاكسات وايميلات الدبلوماسية الأمريكية واتصالات خبرائها وموظفيها وعملائها ابتداء باصحاب القرار وانتهاء بصغار الدبلوماسيين فى السفارات.
من يتابع تاريخ الدبلوماسية الأمريكية سوف يضع يده على مجموعة من الحقائق:
أولا : ان الدبلوماسية الأمريكية لاتفرق بين النشاط السياسى والنشاط الاستخبارى طوال تاريخها.. إن أمريكا دولة الحريات وحقوق الإنسان فيما يتعلق بالمواطن الأمريكى فى الداخل ولكن أمريكا الخارج تختلف تماما لأنها تعتمد فى كل انشطتها وبرامجها السياسية على نشاط المخابرات فى الدرجة الأولى.. ومنذ قيام الحرب العالمية الثانية ووصول أمريكا إلى قيادة العالم مع القطب الثانى الاتحاد السوفييتى كانت الحرب الباردة تقوم فى الأساس على أنشطة أجهزة المخابرات وكانت المعركة بين المخابرات الأمريكية والمخابرات السوفييتية واحدة من أخطر المعارك، التى شهدها العالم فى الصراع السياسى والعسكرى.. هناك مئات الكتب التى صدرت فى موسكو وواشنطن حول انشطة المخابرات وكشف أدوار الجواسيس، وهناك أيضا عشرات الأفلام التى أنتجتها هوليوود عن نشاط المخابرات الأمريكية ومعاركها، ولقد كان من الطبيعى أن يندمج نشاط السفارات مع نشاط المخابرات الأمريكية نحو هدف واحد.. وعندما اتسعت الامبراطورية الأمريكية واتسعت مصالحها فى دول العالم كان اعتمادها الأكبر على الأنشطة الاستخباراتية.
ثانيا: إن العالم ومع تكرار هذا الاندماج بين ما هو سياسى وما هو استخباراتى لم يعد يفرق بين النشاطين.. إن هناك مهام واضحة بحيث يكمل الدائرة ما بين السياسة والاستخبارات، وأصبح من الطبيعى أن يكون هناك تلاحم بين عمل السفارات وعمل الاستخبارات على أساس أن الهدف واحد وهو خدمة الأمن القومى.. ومن هنا فإن نشاط المخابرات الأمريكية فى دول العالم كان صاحب دور أكبر من دور سفاراتها فى هذه الدول بل إن مسئول المخابرات فى كل سفارة كان هو صاحب كلمة قد تتجاوز فى أهميتها وخطورتها دور القناصل والسفراء.
ثالثا: إن أمريكا كانت دائما تعتمد فى مصالحها على أشخاص تثق فيهم، وليس من الضرورى أن نطلق عليهم لقب العملاء، ولكن السائد أنهم أصدقاء، وكانت الإدارات الأمريكية المختلفة تحرص على وجود هذا الطابور الخامس فى دول العالم تحت شعارات فكرية أحيانا أو أنشطة ثقافية، وهذا ما فعلته أيضا المخابرات الروسية فى أثناء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتى، وهو نفس ما كانت تتبعه المخابرات الإنجليزية والفرنسية فى دول آسيا وأفريقيا من خلال البعثات التبشيرية أو التعليمية التى خلقت كوادر فى هذه الدول.
من هنا لم يكن غريبا أن تكشف وثائق ويكيليكس عن جوانب كثيرة هى الأقرب إلى عالم المخابرات منها إلى عالم الساسة، خاصة أن الغرب لا يعترف بهذا الفصل الأخلاقى والإنسانى بين أداء هذه الأجهزة.
ومن يعرف المجتمع الأمريكى يدرك انه لايضع قدسية لشىء أمام المعرفة ابتداء بالأشخاص وانتهاء بالثوابت.. فى أزمة الرئيس نيكسون فى ووترجيت لم يستطع الرئيس بكل صلاحياته أن يقف أمام اثنين من الصحفيين الشبان فى ذلك الوقت وخاضت الصحافة الأمريكية واحدة من أخطر معاركها انتهت بعزل الرئيس الأمريكى أكبر رأس فى الدولة.. وقد تكررت ووترجيت بعد سنوات قليلة فى فضيحة أخرى مع الرئيس الأمريكى كلينتون وفتاة عملت موظفة فى البيت الأبيض لعدة شهور.. كانت فضيحة كلينتون مونيكا واحدة من أشهر فضائح البيت الأبيض فى تاريخ أمريكا المعاصر.. ولم يكن غريبا أن يكشف الإعلام الأمريكى عن فضائح سجن أبوغريب فى العراق وتحولت قضية السجن إلى مظاهرة دولية ضد أمريكا السياسة والسلوك والهمجية.. مثل هذه الأحداث تعتبر شيئا عاديا فى المجتمع الأمريكى.. والأخطر من ذلك أن أمريكا فضحت الكثيرين من أصدقائها وتخلت عنهم ولعل هذا ما حدث مع شاه إيران فى آخر أيامه.. وهو ما حدث مع رئيس الكونغو موبوتو، وقد حدث أيضا مع أصدقاء كثيرين فى كل دول العالم، وإن اختلفت مناصبهم.. كل هذه الأنشطة لم تكن تفرق بين السياسى والاستخبارى.
كانت أمريكا دائما تلعب على أوراق كثيرة مع أصدقائها فى دول العالم.
كانت تراقب حساباتهم فى البنوك وتعرف عنهم كل صغيرة وكبيرة بل إنها دخلت معارك كثيرة مع بنوك سويسرا بحثا عن حسابات سرية وحاولت الضغط على البنوك السويسرية لمعرفة حسابات أعداد كبيرة من الحكام فى العالم الثالث.. بل إن أمريكا كانت دائما تخصص ميزانيات ضخمة لتمويل النشاط المدنى والثقافى والاجتماعى فى دول كثيرة، وهناك مؤسسات اجتماعية تسللت إلى دول العالم مثل الروتارى واللينز وغيرها لا أحد يعرف أهدافها الحقيقية ومصادر تمويلها.
وفى السنوات الأخيرة وتحت شعارات كثيرة براقة قامت المؤسسات الأمريكية بتمويل انشطة كثيرة فى دول العالم تحت شعار محاربة الإرهاب أو حقوق الإنسان أو الحريات أو حوار الثقافات أو الفوضى الخلاقة.. لم تكن وزارة الخارجية الأمريكية، التى تقوم بتمويل هذه الأنشطة، ولكنها جهات أخرى قد لا يعرفها أحد.. من هنا فإن الوثائق التى جاءت كصدمة كبرى للعالم لم تكن بعيدة عن سياق المؤسسات الأمريكية وأنشطتها وطريقة تفكيرها.
أنا لا أعتقد أن مثل هذا الحدث كان بعيدا عن المؤسسات الرسمية الأمريكية أو أنها لم تكن تعرف عنه شيئا.. لا أتصور أن تدفع مؤسسة معرفية بهذا الكم من المعلومات والوثائق فى غيبة من الإدارة الأمريكية، وإذا لم تكن وافقت على ذلك، فالشىء المؤكد أنها لم ترفض أو تمنع.
إن مثل هذه الوثائق ربما لم تخرج مباشرة من وزارة الخارجية الأمريكية أو البنتاجون ولكن هناك أطرافا أخرى كانت على علم بذلك.
إن آراء الإدارة الأمريكية فى حكام العالم بهذا الوضوح، وهذه الصراحة لا يمكن أن يكون فكر موظف فى سفارة أو مدير مكتب أو سكرتير.. ان تقييم أعمال الرؤساء يخضع لمقاييس أخرى.. لقد توقفت عند حالات كثيرة فى هذه الوثائق تعكس آراء واضحة فى رؤساء العالم.
إن الرئيس الفرنسى ساركوزى رجل متسلط.. والمستشارة الألمانية ميريكل تخاف المغامرة ورئيس وزراء إيطاليا برلسكونى رجل لعوب وضعيف وغير مسئول ومعجب بنفسه وهناك علاقة صداقة مريبة بين برلسكونى وبوتين رئيس وزراء روسيا.. وأن أبناء رئيس وزراء تركيا أردوغان يتعلمون فى أمريكا على نفقة أحد رجال الأعمال وان أردوغان يمتلك 8 حسابات سرية فى بنوك سويسرا.. وأن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية كان يعلم ميعاد الهجوم على غزة وعدوان إسرائيل على حماس الذى سمى «الرصاص المصبوب» وإن سفيرة أمريكا فى القاهرة كانت تعلم تفاصيل ما يجرى حول الضريبة العقارية وما ترتب عليها من آثار فى الشارع المصرى.
لم تكن الوثائق السرية السياسية هى الزلزال الوحيد ولكن سبقتها زلازل أخرى عن الحرب فى العراق وقتل المدنيين واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا فى أفغانستان والتخوف من السلاح النووى التكتيكى، الذى تنتجه باكستان وقد يصل يوما إلى أيدى الإرهابيين.. وما يحدث فى مشروع إيران النووى والصواريخ المتطورة، التى قدمتها كوريا الشمالية لإيران.. وبعد ذلك يتكشف موقف القادة العرب من الخطر الإيرانى الذى يهدد الدول العربية.
هذا الكم الكبير من المعلومات، الذى دفعت به منظمة ويكيليكس إلى شبكات النت فى العالم لا يمكن ان يكون سلوكا عاديا.. إن هذه الوثائق رغم أن البعض يقرأها قراءة سريعة فإنها تطرح تساؤلات كثيرة وتكشف أيضا الكثير من الهواجس وما تخفيه من الحقائق.
وعلى سبيل المثال.. لماذا تستأذن إسرائيل السلطة الفلسطينية فى العدوان على غزة وتدمير حماس تمهيدا لتسليم القطاع لمنظمة فتح أو السلطة المصرية.. هناك ظلال كثيفة كانت تتحدث دائما عن علاقات خاصة بين السلطة الفلسطينية وإسرئيل.. ولكن الأخطر من ذلك هو ماجاء فى هذه الوثائق حول جنرال أمريكى يدعى كيث دايتون يشرف على تدريب قوات الأمن الفلسطينية التابعة للسلطة الفلسطينية.
القضية الأخطر فى هذه الوثائق تطرح سؤالا مخيفا ما الذى يجعل المسئولين فى وزارة المالية المصرية يشرحون للإدارة الأمريكية قصة الضريبة العقارية، وما هى علاقة أمريكا بذلك ولماذا كان الإصرار على فرض هذه الضريبة رغم ان الرئيس مبارك طلب إعادة النظر فيها ودراسة إعفاء السكن الخاص منها.
هنا أيضا يمكن ان يشمل الحديث ما يحدث فى انشطة المجتمع المدنى وما يطرحه من تساؤلات كثيرة حول قضايا المعونات والدعم الخارجى.
ان مثل هذه التفاصيل فى العلاقات السياسية تضع أمامنا تساؤلات كثيرة حول الكثير من المواقف والانشطة والسياسات، التى تؤكد هذا التداخل الرهيب بين الأنشطة السياسية والأنشطة المخابراتية فى عمل السفارات.
لا أعتقد ان إعلان هذه الوثائق كان بعيدا عن موافقة الإدارة الأمريكية قد يرى البعض ان ذلك يؤدى إلى توترات أو خلافات أو فهم خاطئ بين أمريكا والأشخاص الذين تناولتهم هذه الوثائق إلا أن الوجه الآخر فى هذه الوثائق ان أمريكا نفسها ترسل رسائل واضحة لهؤلاء الأشخاص حتى لو أغضبتهم ربما تكون الرسائل الأخرى القادمة أكثر صراحة بحيث تتناول الحسابات فى البنوك والعمليات القذرة والتعاون الأمنى وصفقات السلاح وسمسرة الشركات والأصول فى دول العالم المختلفة خاصة أن هذه الوثائق ستكون حديث العالم فى الأيام المقبلة.
هذه الوثائق رسائل تهديد أكثر من منها مكاشفة أو معلومات.. إن الأجهزة الأمريكية تريد ان تقول ان لديها أسرارا كثيرة وانها قادرة على ان تفضح من تشاء إذا أرادت ذلك.. لم تكن هذه هى المرة الأولى التى فعلت فيها أمريكا ذلك لقد كانت لديها دائما الأسرار التى تجعلها تضع الآخرين دائما فى الموقف الأضعف حتى تضمن الولاء.
هناك أسرار أخرى كثيرة لم يكشف عنها بعد، خاصة أن السنوات الأخيرة شهدت أحداثا فى العالم العربى والإسلامى.. كانت قضية الإرهاب من مجالات التعاون الكبرى أمنيا وسياسيا.. وكانت الحرب فى العراق وأفغانستان تحمل أسرارا لم يكشف عنها بعد وقبل ذلك كانت حرب الخليج وحرب العراق وإيران والحرب الأهلية فى لبنان والصومال وأحداث 11 سبتمبر والقاعدة.. مسلسل طويل يحمل حكايات كثيرة ربما لم يأت الوقت بعد للكشف عنها أحداثا وأشخاصا وأدوارا، ولكن قد نجد فى يوم من الأيام كل هذه الوثائق والأخبار على شاشات الفضائيات وشبكات النت.. وربما يكون ذلك أقرب مما نتصور.