مصر وأمريكا.. علاقات خاصة أم مصالح متعارضة؟
| |
أوباما | |
بقلم: فاروق جويدة
......................
رغم كل ما يقال عن خصوصية العلاقات المصرية الأمريكية وما يجمع البلدين من مصالح وأهداف مشتركة إلا أن هذه العلاقات كثيرا ما شهدت أزمات حادة يبدو من خلالها أن الكثير من الأسس التى تقوم عليها يفتقد المصداقية والمصارحة.. وفى الفترة الأخيرة حدث تراشق واضح فى أجهزة الإعلام الرسمية شارك فيه عدد من كبار الكتاب الذين يعبرون عن وجهة نظر الدولة.. هذا التراشق ليس وليد اليوم ولكنه حدث قبل ذلك كثيرا فقد شهدت العلاقات المصرية الأمريكية هزات عنيفة على مراحل مختلفة ولعل أخطر وأهم شواهدها ما حدث فى نهاية فترة حكم الرئيس بوش الابن حيث وصلت العلاقات إلى أسوأ حالاتها فى الثلاثين عاما الماضية كانت جوانب الخلاف بين مصر وحكومة الرئيس بوش قد وصلت تقريبا إلى طريق مسدود وإن كانت الأمور قد تحسنت قليلا مع رحيل بوش ووصول أوباما إلى البيت الأبيض.. هناك مناطق خلافية بين مصر وأمريكا لا نستطيع أن نتجاهلها بعضها خارجى والبعض الآخر يخص الشأن المصرى الداخلى.. لاشك أن الخلافات فيما يتعلق بالخارج تتركز فى مجموعة نقاط.
إن الإدارة الأمريكية ــ وكلنا يعلم كيف يدار الشأن الأمريكى فى البيت الأبيض والكونجرس ومجلس الشيوح ــ قد ارتبطت لسنوات طويلة بعلاقة خاصة جدا مع إسرائيل.. لقد وصل الأمر إلى أن القرار الامريكى على الأقل فيما يخص العالم العربى يعبر فى البداية من خلال تل أبيب.. هذا الارتباط الوثيق بين أمريكا وإسرائيل ترك ظلالا كثيفة فى أحيان كثيرة على العلاقات بين مصر وأمريكا. إن أمريكا فى أحيان كثيرة وهذه حقيقة تقيِّم مواقف مصر على ضوء ردود الأفعال الإسرائيلية رفضا أو قبولا.. إنها تؤكد فى الكثير من قراراتها وسياساتها أن القبول الإسرائيلى لكل ما يصدر عن مصر له أهمية خاصة فى السياسة الأمريكية..
وللأسف الشديد أن القرار المصرى تصور فى بعض الأحيان أن أقرب الطرق إلى البيت الأبيض من خلال تل أبيب وهذا الاعتقاد الخاطئ وصل بالعلاقات المصرية الأمريكية أحيانا إلى مناطق شائكة.. لقد حاولت مصر فى حالات كثيرة أن تحصل على تأييد إسرائيلى لبعض ما تعرضه على الإدارة الأمريكية وقد أدى ذلك إلى أن يصبح لإسرائيل دور ما فى العلاقات المصرية الأمريكية.. لقد خضع ذلك لبعض الرموز الإسرائيلية صاحبة العلاقات الخاصة مع أمريكا كما خضع لموقف الجالية اليهودية فى أمريكا ومدى تأثيرها على القرار الأمريكى.
إن هذه العلاقة المتشابكة جدا بين مصر وأمريكا ووجود إسرائيل فى منتصف الطريق كان وراء الكثير من الأزمات بل إنه أعطى إسرائيل أحيانا فرصا لابتزاز هذه العلاقة.
من هنا تحكمت إسرائيل أحيانا فى النشرة الجوية للعلاقات المصرية الأمريكية واستخدمت ذلك كوسيلة ضغط ليس فقط فيما يخص الشأن المصرى ولكن فيما يخص العلاقات المصرية العربية.
من بين جوانب الخلاف بين مصر وأمريكا أيضا أن أمريكا بكل تأكيد كانت تسعى دائما لتقليص الدور المصرى إقليميا وكان الهدف من ذلك هو أن تمهد الظروف لدور إسرائيلى أكبر أو أن يفتح ذلك الطريق للدور الأمريكى نفسه بحيث يأخذ مداه من حيث المصالح خاصة فى منطقة الخليج وما يتعلق بقضايا البترول والطاقة ومصالح أمريكا بصفة عامة.
لا يمكن لنا أن نتجاهل أن هناك تعارضا واضحا وصريحا فى المصالح بين مصر وأمريكا ولابد أن نعترف أن تقليص الدور المصرى تم لحساب أمريكا خاصة دور مصر فى عمقها العربى لقد كان تحييد مصر فى عدد من القضايا العربية هدفا أمريكيا أكد دائما أن المصالح الأمريكية كانت دائما على النقيض من مصالح مصر وربما كان هذا من أهم الأسباب التى أدت إلى خلق أزمات فى العلاقات بين البلدين.. ربما حدث تقارب أحيانا بين مصر أمريكا فى بعض القضايا كما حدث فى حرب الخليج واحتلال الكويت فقد شاركت مصر بجيشها فى تحرير الكويت وإن كانت أمريكا هى التى قبضت الثمن ولكن الأحداث بعد ذلك شهدت قضايا أخرى تمت لحساب أمريكا رغم تعارضها الشديد مع مصالح مصر.
كان احتلال العراق من أهم القضايا الخلافية بين مصر وأمريكا بل إن ذلك كان يمثل اختراقـا حادا للعلاقات العربية العربية.. كان الصمت العربى على احتلال العراق بما فى ذلك الصمت المصرى من أكثر المواقف التى أساءت للحكومات العربية.. إلا أن الإدارة الأمريكية استطاعت بصورة أو أخرى تحييد الحكومات العربية فيما يخص الشأن العراقى وتمت المؤامرة ودخلت القوات الأمريكية عاصمة الرشيد فى سابقة هى الأولى من نوعها أن يتم احتلال دولة عربية فى ظل صمت عربى كامل.
كان احتلال العراق نقطة خلاف حادة بين مصر والشريك الأمريكى حتى وإن لم تعلن مصر ذلك بصراحة ووضوح.. أن سقوط بغداد لم يكن أمرا سهلا على مصر الدولة الأكبر فى العالم العربى لأن استقرار العراق شئنا أم أبينا كان جزءا من إستراتيجية الأمن العربى بما فيه أمن مصر.. ربما كانت خسائر أمريكا فى العراق هى الجانب النفسى الوحيد الذى عوض مصر أحيانا فى خلافها الذى لم تستطع أن تحسمه مع الشريك الأمريكى وإن بقى أن اللوم العربى الذى وقع على مصر بسبب احتلال العراق كان أكبر بكثير مما لحق بالدول العربية الأخرى لأن العرب ما زالوا يعتقدون أن الدور المصرى هو الأهم وهو الأكبر.
كان احتلال العراق يؤكد إطلاق يد أمريكا فى شئون العالم العربى دون أن تضع حسابات لأى قوى إقليمية بما فيها العالم العربى كله.. كان تراجع دور مصر فى القضايا العربية ومنها العراق هو الذى فتح الأبواب لدخول أطراف أخرى فى العالم العربى مثل إيران وتركيا بل وإسرائيل.. لم تضع الإدارة الأمريكية حسابا لمصالح مصر فى العالم العربى وهى تحتل العراق وإن كانت قد استخدمت هذا الغطاء العربى نفسه وهى تحارب صدام حسين فى الكويت لتحرير الكويت فى حرب الخليج.
كانت هناك أيضا نقاط خلاف جوهرية مع الشريك الامريكى حول قضية فلسطين والصراع العربى الإسرائيلى.. منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد فى السبعينيات وعودة الدور الأمريكى للمنطقة والإدارة الأمريكية تضع مصر فى موقع مهم جدا فى قضية السلام مع إسرائيل.. بل إنها حاولت استخدام هذه الورقة بكل الوسائل حتى تلك التى أساءت لدور مصر العربى.. كانت أمريكا دائما تركز على قوة الضغط المصرية فى مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وقد تمادت مصر فى قبول الطلبات الأمريكية رغم أن إسرائيل على الجانب الآخر لم تكن أبدا على مستوى المسئولية أو الرغبة فى تحقيق هذا السلام.. كانت أمريكا دائما تطلب من مصر والفلسطينيين المزيد من التنازلات وعلى الجانب الآخر لم تكن قادرة على أن تفعل ذلك مع إسرائيل.
فى يوم من الأيام أعلن الرئيس الراحل أنور السادات أن أمريكا تمتلك 99 % من أوراق اللعبة، وربما كان ذلك صحيحا وهو يتفاوض حول سيناء التى أخرجت مصر من الصف العربى وأعطت إسرائيل فرصة تاريخية فريدة لتفرض شروطها على العالم العربى ابتداء بصورة العلاقات المباشرة وانتهاء بإلغاء العقوبات ثم كانت المفاوضات المباشرة بعد ذلك مع الفلسطينيين.. الحقيقة أنه لو لم تكن كامب ديفيد والسلام المصرى الإسرائيلى ما وصلت إسرائيل إلى هذا الواقع المتعنت الذى وصلت إليه فى مفاوضات السلام.
ورغم السلام الظاهرى الذى تحقق بين مصر وإسرائيل فإن أمريكا كانت دائما تكتفى بأن يظل دور مصر محصورا فى الضغط على المفاوض الفلسطينى ولم تفعل أمريكا ذلك مع الطرف الآخر وهو المفاوض الإسرائيلى.. وكان الخطأ الأكبر فى السياسة المصرية أنها أخذت قضية 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا على أساس أنها قضية أبدية ولم تكن تعلم أن هذه النسبة بعد كامب ديفيد أصبحت فى يد إسرائيل وليس أمريكا ولهذا تجمدت عملية السلام لان إسرائيل لا تريد ذلك حتى ولو سعت أمريكا إليه.
سلمت مصر منذ عهد السادات بأن أمريكا قادرة على أن تحل جميع قضايا مصر ابتداء بمشاكلها الاقتصادية وانتهاء بقضية السلام مع إسرائيل ولاشك أن عودة سيناء كاملة كان مبررا كافيا للاعتقاد فى صحة موقف السادات فى ذلك الوقت ولكن كان ينبغى أن تسعى مصر بعد ذلك إلى تعديل مسارها فى علاقاتها الدولية التى انحصرت تقريبا فى هذا الإطار الضيق بين أمريكا وإسرائيل.. لقد تخلت مصر عن علاقات أخرى قوية كان ينبغى أن تحرص عليها.. ومنذ طرد الرئيس السادات الخبراء الروس قبل حرب أكتوبر انتهت مرحلة من أهم مراحل العلاقات المصرية السوفييتية التى بدأت ببناء السد العالى وانتهت بانتصار أكتوبر والحرب التى خاضتها مصر بالسلاح السوفييتى وليس السلاح الأمريكى.. لقد فرطت مصر فى علاقات تاريخية واستراتيجية كثيرة من أجل عيون أمريكا.. فرطت مصر فى علاقات متميزة جدا مع الهند والصين ودول شرق آسيا.. وفرطت مصر فى علاقات مميزة جدا مع دول أفريقيا وانسحبت منها بشكل غريب.. وفرطت مصر فى علاقات مع دول حوض النيل هى أحوج ما تكون لها.. هنا يمكن أن يقال إن أمريكا وضعت ستارا غريبا على حركة مصر ودورها ومصالحها.. حدث هذا رغم أن السادات كان يتصور أن أمريكا سوف تدفع فى الأسواق المصرية بآلاف الملايين من الدولارات فى إطار مشروع يشبه مشروع مارشال فى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية..
كان السادات يتصور أن أمريكا سوف تعيد بناء الاقتصاد المصرى فى ظل الانفتاح والخصخصة والاقتصاد الحر.. إلا أن أمريكا لم تفعل شيئـا من ذلك قد تكون قد اختارت عددا من رجال الأعمال المصريين وقدمت لهم الدعم ليتحولوا إلى قوة اقتصادية واجتماعية مؤثرة فى القرار المصرى.. وقد نجحت فى ذلك بالتعاون مع إسرائيل إلا أن هذا الإنجاز لم يتحول فى يوم من الأيام وحتى الآن إلى دور مؤثر فى الشارع المصرى.. قد تكون أمريكا قد نجحت فى إنشاء وتكوين طبقة جديدة فى مصر إلا أنها لم تراع ظروف المجتمع المصرى وكيف يكون تكوين الطبقات على أسس اقتصادية واجتماعية سليمة.
الشىء المؤكد أن مصر تخلت عن علاقات قوية ومتينة مع دول أخرى على المستوى السياسى والاقتصادى وقد فتح ذلك آفاقا أوسع للمصالح الأمريكية فى المنطقة العربية.. إن أكبر دليل على ذلك ما يحدث الآن فى جنوب السودان حيث ينتظر الجميع فى نهاية الأمر القرار الأمريكى فى الشأن السودانى.. إن قضايا السودان شأن مصرى سودانى خالص ولم يكن أحد يتصور أن ينتظر الجميع قرار واشنطن حول انفصال الجنوب أو بقاء السودان موحدا.. وللأسف الشديد أن الجميع كان ينتظر رأى أمريكا بما فى ذلك الحكومة السودانية نفسها.. ولنا أن نتصور أن يخضع جنوب السودان للموقف الأمريكى وأن تكون أمريكا فى وقت لاحق هى المسئولة عن ملف مياه النيل مع دول حوض النيل وأن تلجأ مصر إلى البيت الأبيض لكى يواجه هذه القضية.. كل هذه الأحداث كانت على حساب الدور المصرى الذى ورثته إسرائيل فى بعض القضايا وكان النصيب الأكبر من حظ الإدارة الأمريكية خاصة الجانب الاقتصادى الذى سيطرت عليه أمريكا فى مشروعات دول الخليج وكان ينبغى أن يكون لمصر نصيب فى ذلك.
هذه بعض جوانب الخلاف والتعارض فى الأدوار الخارجية بين مصر وأمريكا ولكن أمريكا لم تكتف بذلك رغم كل ما قدمته مصر طوال ثلاثين عاما فى خدمة المصالح الأمريكية.. إن أمريكا من وقت لآخر تستخدم أوراقـا كثيرة للضغط على مصر فى شئونها الداخلية.. لقد حاول الرئيس بوش أن يمارس ضغوطا كثيرة على مصر ابتداء بالفوضى الخلاقة وانتهاء بقضايا الحريات والأقباط والانتخابات وحقوق الإنسان بل إن أمريكا قدمت الكثير من الدعم لمؤسسات مدنية كثيرة فى مصر تحت شعار حقوق الإنسان.. وفى الفترة الأخيرة طلبت أمريكا إشرافا دوليا على الانتخابات التشريعية فى مصر إلا أن مصر رفضت ذلك بإجماع الآراء سواء حزب الأغلبية أو الأحزاب الأخرى.
أنا شخصيا لا أعتقد أن أمريكا كانت فى يوم من الأيام جادة فيما يتعلق بقضايا الحريات فى مصر.. لقد حققت أمريكا أشياء كثيرة داخل المجتمع المصرى فى السنوات الماضية.. لقد نجحت فى تحييد الدور المصرى عربيا وإقليميا ونجحت فى إنشاء طبقة جديدة ارتبطت معها بمصالح ضخمة على المستوى الاقتصادى.. ونجحت أمريكا أيضا فى أن تجعل الدور المصرى دور المراقب فى قضايا جوهرية تتعلق بمستقبل العالم العربى والمنطقة كلها بل إنها فى بعض الأحيان وضعت قيودا فى التعامل بين مصر ودول العالم وكان الموقف الأخير فى العلاقات بين مصر وإيران أكبر دليل على ذلك.
الخلاصة أن مصالح مصر وأمريكا تتعارض تماما مع دور مصر الحقيقى عربيا وإقليميا وأن أمريكا تريد أن تحاصر الدور المصرى فى كل المجالات وقد نجحت فى ذلك نجاحا كبير.
يضاف لهذا أن إسرائيل وأمريكا كيان واحد وأن نظرتهما معا إلى مصر الدور والموقع والمكانة والمستقبل هو ضرورة حصار هذا الكيان الحضارى الضخم الذى إذا تحرك غيَّـر حسابات كل شىء.. ولهذا فإن أمريكا تريد مصر كما هى الآن.. إنها لا تريد إنقاذها تماما ولكنها فى نفس الوقت لا تريد لها أن تغرق