| | | | القرار العالمي الجديد
| | العريـان | |
بقلم : محمد العريان ......................
لمن تُقرع الأجراس. عنوان روايةٍ للكاتب الأمريكي ارنست هيمنغواي .يُعيد هذا العنوان تشكيل ذاته, فينا من جديد.فالأجراسُ تُقرعْ, لكن أن تُقرع حتى الصممْ, هنا نقِفُ على واقعنا, ونسأل, من الذي قرع الأجراس؟ , ولمَ؟ ولمن؟لقد عانت شعوبنا العربية الكثير, وكانت شعوبنا خلال رحلتها في القرن الماضي تحاول الخروج من عُنق زجاجةِ الخمر القديمة التي أسكرتها حتى الغفلة.واختلفنا في طريقة الخروج.وظن بعضنا أن الطريق هو الطريقة. فانسبنا مع الحتميات التاريخية.وهنا تشابهت المصاير.
قضت اتفاقية سايكس بيكو بتقسيم الهلال الخصيب إلى دول, بعد انهيار الدول العثمانية, ولم يكن العرب على علم بهذه الإتفاقية, إلا بعدما قام الشيوعيون الروس بفضحها, بعد قيام الثورة البلشفية عام 1917. في نفس العام الذي عرف فيه العالم اتفاقية سايكس بيكو , فاجأت بريطانيا الجميع بوعد بلفور بإنشاء وطن قومي (لليهود) في فلسطين. .هل من الممكن أن يكون كل هذا الحراك مُجرد قنص موفق؟ نقرأ كثيراً في كتابات القرن الماضي عن قدرة الغرب الذكية فيما يخص اقتناص الأحداث, وتحويل مجرياتها لتحقيق أهدافه في المنطقة العربية. وكان دائما ومازال يتم قراءة الأحداث العالمية من منظورٍ اقتصادي, حتى باتَ الربط المتين بين السياسة والإقتصاد أمر يُرجى إعادة النظر فيه. فكل قراءات القرن الماضي عاجزة عن تحقيق قراءة مستقبلية تُقارب الصحة, وهذا ما يجعلنا دائما رهن المفاجأة .بل إن السيطرة الصهيوينة على صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية باتت الشعوب العربية تتعامل معها وكأنها مَسلّمة من مُسلمات العصر, دون النظر في ماهية هذه العلاقة بين القرار الأمريكي واللوبي الصهيوني. وكالعادة تم إرجاع الأمر كله إلى الإقتصاد من خلال عبارات أشبه بالمخدرات الفكرية (اللوبي الصهيوني غني) , (اللوبي الصهيوني يملك الإعلام) .في غفلةٍ عن البعد الديني للحراك العالمي.رَغم أن كل المؤشرات تقول أن هناك علاقة غير اقتصادية بين اللوبي الصهيوني واسرائيل.هذه العلاقة هي التي تجعل من مصطلح (اللوبي الصهيوني) مصطلح قديم غير قادر على الوفاء باحتياجات القراءة المعاصرة للأحداث.
قد لا نستطيع تحديد هوية القرار الأمريكي بطريقة مباشرة, ولكن نستطيع استقراء هويته من خلال الفعل. لا يُمكن إنكار أهمية النفط, الغاز, الثروات المعدنية, الموانىء, التاريخ .ولكن ما الهدف من حيازة كل هذا؟ بريطانيا, روسيا , الولايات المتحدة الأمريكية .سلسلة من الإمبراطوريات مختلفة الشكل قدمت كل منها خدمات جليلة لصالح (قبيلة اسرائيل) .قد يبدو اسم (قبيلة اسرائيل) اسم تاريخي غابر, لكن العجيب أن الفيلسوف اليهودي الفرنسي المعاصر برنار هنري ليفي مازال يستخدمه.
<<النظام العالمي الجديد >> اسمُ يتردد بقوة من منتصف القرن الماضي حتى الآن.بدأ بالتبشير له علانية كلا من تشرشل ورزفلت فيما عُرف باتفاقية الأطلسي. ولقد اقتنع الكثيرون أن هذا النظام العالمي يتمثل في (هيئة الأمم المتحدة) .بينما الواقع ينطق لنا قراءة مختلفة تماماً.لقد تطرق العديد من الكُتاب والباحثين إلى مفهوم النظام العالمي, وكان من بينهم نعوم تشومسكي, جيم مارس, غريس هالسيل, والكثير غيرهم. مما يجعل قراءة النظام العالمي الآن قراءة أكثر يسراً وسهولة, بلا طلاسم أو رموز. فقط يحتاج إلى إدراج (البُعد الديني) في الفعل الأمريكي .وهذا ما لا يريد الكثيرون التطرق اليه خشية المساس بالدعوة الديموقراطية الأمريكية البيضاء!. مما جعل المنطقة العربية تُدفن رأسها في الرمال كالنعام ,رغم أنه ما من نعامة دفنت رأسها يوماً في رمال.
<<لمن تُقرع الأجراسْ>> هل تُقرع من أجل حرية الشعوب العربية؟ أم تُقرع من أجل الوصول إلى شكل مناسب للحرية العربية بما لا يُخالف النظام العالمي الجديد؟ قد تبدو الإجابة سهلة, لكن مثل هذه الإجابة تحتاج إلى معرفة طبيعة العلاقة بين الفعل الحاكم العالمي مُمثلا في الولايات المتحدة الامريكية, وما يدور في المنطقة العربية. وهل هناك تعارض بين مصالح النظام العالمي وبين الثورات العربية, أَم لا؟ هل الديموقراطية الليبرالية بمنتوجها الحالي هي الوسيلة المُثلى للوصول إلى حرية حقيقية في المنطقة العربية؟
<<الفعل الأمريكي وشتراوس >>ليو شتراوس فيلسوف يهودي أمريكي من أصل ألماني, فرَّ إلى الولايات المتحدة إثرْ الإضطهاد النازي لليهود في المانيا- والذي كان برعاية يهودية!- اتسم منهجه الفلسفي بمعادته الشديدة للديموقراطية الليبرالية , وهناك صلة قوية بين منهجه وبين المنهج الدارويني النتشوي الذي يؤمن بالتصنيف الشعوبي, والقلة المُختارة المميزة. ولقد اتبع العديد من الرجال ذوي المناصب فكره, واُطلق عليهم (شتراوسيون) نسبة إليه, وكان منهم (صقور الإدارة الامريكية) في رئاسة جورج بوش الابن. ويتسم منهجه بخاصية (التطبيق) إذ انه ليس منهج بحثي ,بل هو منهج تطبيقي.تبلور في مبدأ( تكرار العملية الديموقراطية حتى الثبات).بالطبع لا يغفل كل قارىء لشتراوس عن ماهية مواصفات الثبات الاشتراوسية التي تؤمن بحكومة عالمية واحدة .إننا هنا نتحدث بصدد (النظام العالمي الجديد(.
في 17 ديسمبر 2010. اندلعت الثورات العربية بداية بتونس. وفي نهاية كل ثورة يكون المنتوج الديمقراطي منتوجاً إسلامياً. هل كان النظام العالمي في حاجة إلى أنظمة إسلامية مُعادية لاسرائيل في المنطقة العربية؟ .هنا يجب علينا التدقيق في سمات القوى الإسلامية التى صعدت ديموقراطياً.هل كانت تتبنى هذه القوى أي خطاب ديموقراطي قبل (الربيع العربي)؟ هل كانت هذه القوى مُمتنعة عن الاتصال بالولايات المتحدة الأمريكية ؟ من الذي دعم صعود هذه القوى دون غيرها؟ هل كانت القوى غير إسلامية قادرة على الصعود قُبالة القوى الإسلامية؟.كل هذه الأسئلة تحتاج إلى قراءة دقيقة للموقف العالمي.
في عام 2009 صدر كتاب للصحافي الأمريكي مايك ايفانز بعنوان (جيمي كارتر: اليسار الليبرالي, وفوضي العالم).ذكر فيه ايفانز العلاقة بين منظمة جيمي كارتر للسلام وبين جماعة الإخوان المسلمين . وطرح الكاتب العديد من الأسئلة التي تدور حول علاقة القرار الأمريكي بجيمي كارتر, وعلاقة القرار الأمريكي بجماعة الإخوان المسلمين, والكثير من الجماعات الإسلامية في العالم .
بالطبع لا يُمكن إغفال هوية الكاتب مايك إيفانز فهو يهودي صهيوني , يرى في جيمي كارتر عدو لاسرائيل لأن يدعم جماعات تهدد الوجود الإسرائيلي . بينما على الجانب الآخر نعرف جيداً أن جيمي كارتر هو واحد من الكبار الداعمين لاسرائيل.فأين الإشكالية ؟ الإشكالية تقع مرة أخرى في محاولة استبعاد (البُعد الديني) من قراءة الأحداث.هذا البُعد الذي تناوله العديد من الكتاب ومنهم الصحافية الأمريكية (غريس هالسيل) في كتابها ( يد الله), كذلك البحوث التاريخية الهامة التي تعتمد على الحضارة السومرية دون غيرها من الحضارات , وربطها ربطاً وثيقاً بالتوراة , في مزيج ديني سيظهر عمّا قريب.
يبدو أحيانا مفهوم البُعد الديني في تفهم القضايا العالمية مفهوماً غامضاً, هذا لأنه تم إسناد كل الأحداث إلى القراءة الإقتصادية. هل من المعقول أن تُرى اسرائيل (حامي) للوجود الغربي في المنطقة العربية في القرن الحالي؟ إن اسرائيل منذ قيامها وحتى الآن هي في حاجة إلى الحماية الغربية. بكل وسائلها الدفاعية والهجومية ومن بينها وسيلة التفجير الآمن. << التفجير الآمن>> هو وسيلة للتخلص من أبنية ضخمة قديمة , تكون تكاليف هدمها بالوسائل التقليدية أمراً مًكلفاً, أو أن المباني المًراد هدمها تُحيط بها مباني آخرى مهمة قد تؤثر عليها عملية الهدم, أو يتعذر إيصال المعدات إليها. فيكون (التفجير الآمن) هو الوسيلة المُتاحة.ويكون ذلك بدراسة المبنى المُراد هدمه دراسة دقيقة, أساساته, أعمدته, وركائز اتزانه, بعدها يتم حفر تجاويف في الأماكن التي تم تحديدها فيه, بدقة, وحشوها بأصابع الديناميت, بعدها يتم إيصال كل أصابع الديناميت بوحدة تحكم (بعيدة).ويكون التفجير بحيث يكون تسلسل تفجر أصابع الديناميت بفروق توقيت محسوبة, تضمن انهيار المبنى بطريقة تدريجية, وتكون النتيجة انهيار المبنى انهياراً رأسياً, دون المساس بأي مباني مجاورة له.
هل كان النظام العالمي يُدرك أن الانظمة العربية ما عادت قادرة على احتواء شعوبها, وأنها أمست غير قادرة على مواكبة تطور فكر النظام العالمي؟ نعم. وكان الحل هو التخلص من هذه الأنظمة بطريقة (سليمة). وهذا ما يُعرف بالتفجير الآمن.كان على النظام العالمي أن يضمن عملية إحلال في صالحه .أنظمة جديدة ولائها للنظام العالمي الجديد, ترضى عنها شعوبها (إلى حين).وهذا يحتاج إلى عملية تحكم مستمرة بجميع القوى داخل البيئة المُراد السيطرة عليها.وهذا بالفعل ما يحدث.
<< وثائق ويكليكس>> وثائق تم إعدادها (خصيصاً) لتفضح تحركات حكومات ومؤسسات ما في وقت ما, بحيث تكون لها القدرة على صناعة رأى عام ما داخل دولة ما, أو وثائق تم تسريبها بالفعل رغم أنف النظام العالمي.
في الحالتين, لا يُمكن التعامل بسهولة مع مثل هذه الوثائق, لكن يُمكن التعامل معها كأصابع تُشير.هذه الوثائق تطرقت إلى العلاقات السرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة الإخوان المسلمين, كما تطرقت إلى علاقة الولايات المتحدة الامريكية بقنوات (ناطقة بالعربية) لتدعم فكر ثوري ما في توقيت بعينه . وقامت بكشف القراءة الأمريكية للخريطة الأيدولوجية في المنطقة وبحثها عن بدائل للأنظمة الحاكمة.ومصر كمثال .تم تحديد ثلاث قوى مختلفة الإيديلوجيات (الإخوان المسلمين , الجماعات الصوفية, التيارات العلمانية). وتم اختيار الإخوان المسلمين كبديل مثالي .وكما أوضح الدكتور سعد الدين ابراهيم أنه كان وسيطاً بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين جماعة الإخوان المسلمين لفترة طويلة ,حتى استطاعا إقامة علاقات مباشرة دون الحاجة إلى وسيط. إن الأمر ليس أعجوبة .فما حدث قد حدث من قبل.ويحدث.
لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية ارتداء أي قناع تستطيع به تغطية وجهها الليبرالي الذي يدعم قوى إسلامية, مما دفع المجتمع الأمريكي للسؤال حول ماهية علاقة الحكومة الأمريكية بالجماعات الإسلامية.كذلك لم يعد سرأ أن الكثير من الجماعات الإسلامية الجهادية هي صناعة أمريكية . أينما وُجد السيلكون تُوجد الحضارات.كذلك أينما توجد الجماعات الجهادية توجد الثروات. إن القوى الإسلامية الصاعدة لا تتبنى أي خطاب إسلامي إلا في عملتي (الحشد) و(التمكين) .من أجل خوض (العملية الديموقراطية) بينما لا علاقة لها بقرارات إسلامية.إن أي نظرة فاحصة بدقة لسلوك هذه القوى يُستنتج منها أنها تنهج منهجاً اسلاميا شكلياً لا جوهر له.المآذن غارقة في خطابات إيدولوجية إسلامية, بينما الممارسات الحكومية غارقة فيما كانت الأنظمة القديمة غارقة فيه .
هناك وجهان للقوى الإسلامية .وجه اسلامي للحشد والتمكين, ووجه علماني للتعامل مع النظام العالمي.فما هي أزمة القوى الإسلامية الحاكمة الآن؟ التيارات العلمانية المناهضة لها.بل إن القوى الإسلامية نفسها تتقاتل فيما بينها حول تقسيم المسؤولية الحكومية.من الذي يدير كل هذا الصراع؟ يكن من السهولة أن نسلم بأن أسباب الصراع تكمن في المنطقة, وأنه ما من قوى خارجية تحركه.وهذا هو الالتباس الذي وقعت فيه شعوب المنطقة. من الفاعل ؟ الشعوب ؟ أم يد خفية؟
يُمكن تمرير السؤال السابق الأخير بسهولة, والوصول إلى نفس النتائج .فالأنظمة الجديدة تُدين بالولاء للنظام العالمي متمثلا ذلك في طيبيعة العلاقات بينها وبين اسرائيل.كذلك في سماحية النظام لهذه الأنظمة بأن تتعامل بقسوة أحياناً مع معارضيها دون مُسائلة , كذلك الإغفال المتعمد من النظام العالمي للخطاب الإسلامي شبه راديكالي في الشارع. كذلك سماحية النظام لهذه الأنظمة أن تمارس دورها العالمي بسهولة غير مسبوقة . ولكن ما فائدة التوقف عند السؤال السابق؟ فائدته أنه يخول للسائل أن يبحث عن معطيات تحدد له شكل المنطقة العربية في المستقبل.تخول له إمكانية التوقف عن الشعور بالمفاجأة غير سارة.
إن المنطقة العربية الآن تسير في نفس طريق سايكس بيكو, لصالح النظام العالمي.إن العودة إلى التاريخ اليهودي منذ السبي البابلي الأول حتى الآن يجعل قراءة الأحداث أكثر سهولة, وأكثر قدرة على استقراء ما سوف يحدث, دون اللجوء إلى التخمين والتصويب. إن القراءة الإقتصادية للأحداث يُمكن التعامل معها كمؤشر لا غاية. إن الموقف كله يحتاج إلى قراءة كاملة للأحداث دون تفرقة بين الأبعاد المختلفة للمعطيات.
<< المطرقة والسندان>>إن النظام العالمي يعتمد اعتماداً وثيقاً على فكرة (القطبين) .يؤمن النظام العالمي بالفكر الطبيعي.إذ أنه من المستحيل وجود قوة واحدة دون منافس , فإذا ما كان هناك فعل فلابد وأن يكون هناك رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الإتجاه. هنا عَمِد النظام العالمي إلى احتواء رد الفعلْ. فهل هناك عقل مركزي يحكم العالم الآن؟ سؤال قد يبدو خيالي المرجعية. وإجابته تهدد (مناهج فلسفية) بأكملها. لذا يتم تناول هذا السؤال عن طريقين لا ثالث لهما .الطريق الأول يعتمد النفي الدائم, ولا أدوات لديه سوى السخرية والتقليل من قدر أي مؤشرات تؤكد وجود عقل مركزي حاكم, بطريقة أمست لا تجد لها آذان تصغي .والطريق الثاني يعتمد الإثبات والتضليل .وقد عُمد إلى هذا الطريق بعد ثبوت عدم صلاحية الطريق الأول. فظهرت الأفلام والروايات والكتب التي تجيب هذه الأسئلة بطريقة يرفضها العقل, ويتقبلها الخيال. كذلك ظهرت أطروحات أقرب إلى الدجل منها إلى الخيال .بينما الواقع يقول أن إجابة هذا السؤال لن تُرضي الكثير من الأطراف, سواء الحاكمة أو المحكومة .لم نسمع عن رئيس يحذر شعبه من مؤسسات سرية, تعبث بمقدراته, سوى كينيدي, في خطابه الأخير.تحدث عن منظمات خفية, تسيطر على كل مصادر المعلومات, واسترسل كينيدي في خطابه, مُؤكدا وجود هذه المؤسسات.ولم يمهله أحد.واغتيل في سيارته المكشوفة, في دالاس , عام 1963 .
إن العالم يواجه مخططاً ليس الأول من نوعه في التاريخ.. فلقد قامت العديد من الإمبراطوريات في التاريخ بأشكال ومسميات مختلفة ولا يُمكن إنكارها.بينما نُنكر امبراطورية عالمية الآن.وإن تقبل البعض هذا المُسمى ألقى به على عاتق الولايات المتحدة الامريكية.والتي هي في الواقع ليست سوى ضحية من ضحايا الإمبراطورية الجديدة اتخذت منها شرطياً. إن كل المؤشرات تؤكد أن هناك إعادة قراءة للتاريخ سينتج عنها محو الهوية التاريخية للعالم استعداداً لتركيزها في عقل مركزي.يكن من الطبيعي أن نسأل.أين هو العقل المركزي للأمبراطورية الحالية؟ هذا السؤال يحتاج إلى إدراك حقيقي بطبيعة العصر الليبرالي.إننا نخطو إلى عصر (ما وراء الليبرالية) فإذا ما كانت الليبرالية هي خطوة امبراطورية فستنتهي بظهور (مواصفات) جديدة لمفهوم الحرية يترتب عليها قوانين جديدة . لصالح من؟ هنا نرجع إلى فلسفة شتراوس مرة أخرى . إن النظام العالمي يتعامل مع جميع المناهج الفكرية بمبدأ أداتي استخدامي. لا مانع لديه من استخدامها مرة والتخلي عنها مرة .لكنه لم يعد يدمر أي آداة , إنما يستبدلها.
إن الإيديولوجيات المختلفة كالليبرالية والشيوعية, والإسلامية الحديثة , والأصولية, والطائفية, والعرقية,... كلها أدوات إن صحَّ استخدامها تصلح لبناء امبراطورية .إن شيوع فكر إحداها إلى أن يسود ليس أمراً مطلوباً بالمرة .بل المطلوب هيمنة فكر على البقية دون فناء.
وهنا نصل إلى ذروة الفكر الطبيعي. إن الفكر القويم يُدرك أن الطبيعة تغلب.والطبيعة شأنها الإختلاف.فإذا ما سعى أي فكر لحتمية شيوعه فإنه سيفشل.فكان الحل في إيجاد وسائل لاحتواء الآخر. ولهذا الإحتواء عدة طرق. منها طرق أخلاقية وطرق غير أخلاقية .وعلى رأس الطرق غير أخلاقية مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).
الليبرالية في شكلها الحالي لا تتضمن (حزمة أخلاقية) كاملة تستطيع بها مواجهة صعود (الحاجة الإنسانية) إلى الفضيلة.فكان الحل بالنسبة للنظام العالمي عند شتراوس. حزمة أخلاقية لا تتعارض مع (الإلحاد). ولكن أن يتبنى هذا الفكر مجموعة من الساسة المتدينين ! نسأل: ما العلاقة بين الدين وشتراوس؟
سؤال لن تجبه أي مؤشرات اقتصادية . ولكن عند إدراج البُعد الديني نستطيع الكشف عن هوية النظام العالمي الحقيقي الذي يُمسك الآن بجميع الُدمى المنهجية. إن العالم في انتظار سقوط القناع الليبرالي.الذي بدأت مؤشرات سقوطه تظهر جلية في الكثير من القوانين التي بدأ الغرب يجنح إليها الآن. إن الصعود الإسلامي (المزيف) في المنطقة العربية يُقابله صعود ديني حقيقي في الغرب. وهناك مؤشرات قوية توحي بوجود انشقاق داخل النظام العالمي نفسه, فيما يُمكن تسمتيه (مرحلة الإنفصال).لقد مر النظام العالمي على مدى القرن الماضي بعدة مراحل إنفصال .وفي كل مرحلة انفصال يعقبها انهيار لجهة ما .إن انفصال النظام العالمي عن روسيا القيصرية نتج عنه سقوطها وقيام الشيوعية.إن انفصال النظام العالمي عن بريطانيا العظمى نتج عنه بريطانيا التي نعرفها اليوم.فماذا عن انفصال النظلم العالمي عن الولايات المتحدة الأمريكية؟ ما الذي ينتظر الولايات المتحدة الأمريكية؟ .إننا لا نريد الرجوع في التاريخ أكثر من اللازم لإدراج وقائع تُثبت أن النظام العالمي الحالي ما هو إلانتاج فكر قديم جداً.ولكن يُمكن الإشارة إلى الهيكل.كل الخيوط تتشابك عند (الهيكل الطوّاف) .الذي تختلف مسمياته عبر التاريخ بينما تبقى حجارته في القدس.
هناك إزدواجية تاريخية يمر بها العالم الآن.التطور الفكري البشري الذي أنتج العديد من المناهج عبر التاريخ .و تطور النظام العالمي الذي يقوم باستخدام التطور الفكري البشري.إنه لا يُمكن أبداً الحكم على التطور بالصلاحية مُطقلاً.فالتطور تغير زمني إلى المستقبل.لا يحتوي المفهوم بذاته على صك الصلاحية. فالحكم على التطور لابد وأن يخضع للمنطق.والإشكالية أن المنطق نفسه يخضع للتطور.فأين المعيار الثابت الذي يُمكن إليه إرجاع كل هذه الأحداث؟
إننا لسنا بصدد تفنيد إشكالية فلسفية.ولكن علينا أن نُعيد قراءة الاحداث بما ينسجم والمعطيات.لا يُمكن صُنع معادلة تبعاً لمعطيات, إنما المعادلة تبقى, والمعطيات تدخل المعادلة, فإذا ما نقصت المعطيات فإنه من اللازم البحث عنها لا أن نغير المعادلة من أجلها.إن خداع النفس أسهل بكثير من خداع الآخر. إن العديد من المناهج الفكرية السائدة اليوم هي نتاج أفكار منطقة أنثربيولوجية واحدة. وكلها تخالف أيدولوجية أصحابها! معطيات كثيرة .وإن اعتقاد احدهم بمنهج ما أو فكر ما أو ايديولوجية ما يجب أن لا يجعله رهن مصطلح (خيانة المثقفين) .
<<الامبراطورية الوسيطة>> اصطلاح يُمكن إطلاقه على فترة تاريخية طويلة تمتد من الحروب الصليبية إلى الآن.تتميز بالتغير الأيديولوجي المستمر, وصعود تدرجي لعرق ما دون غيره من الأعراق, يحمل أفكاراً تُخالف أيدولوجيته الأنثروبيولوجية.يستخدمها كأدوات لإعادة شكل العالم بما يتناسب مع قدراته لتحقيق غايته (التتويج).
ما يحدث في عالمنا العربي الآن هو أمر يُذكرني بعبارات مضحكةٌ مخزية, كتبها مصطفى محمود بخصوص الغزو العراقي للكويت , في كتابه الإسلام السياسي, يقول )وحكاية أن أمريكا كانت من الذكاء بحيث أنها استفادت من هذا المأزق واقتنصت هذه الفرصة الذهبية لتضع قدمها في المنطقة البترولية إلى الأبد ..هي حكاية لا علاقة لها بمواقف الفرقاء العرب إنما هي لحظة قدرية افرزها تسلسل الحوادث وتداعيها ولم يكن لها مخرج ولم يكن منها مهرب.ولقد دخلت أمريكا الحرب وحلفاؤها الحرب بطلب من العرب لأنه لم يكن هناك حل آخر, ولأن صدام جعل كل الحلول الأخرى مستحيلة).عن أي لحظة قدرية تحدث مصطفى محمود؟ عن أي تسلسل حوادث يتحدث؟ .هذه القراءة كان من الممكن تفهمها في القرن الماضي في غياب تدفق المعلومات الرهيب الذي نحن فيه الآن رَغم وجود العديد من المؤشرات في عصره تؤكد وجود قصد تسلسلي لا عفوية تسلسلية.إن الحديث عن الحتميات القدرية لم نصل إليه بعد.فكل حدث قدر.ولكن القدر لا يعني العفوية . إن العبارات التي ذكرها مصطفى محمود توحي بمدى مآساة ضياع المعطيات, أو ضياع المنظور الصحيح للقراءة.إننا لا نعيش أزمة معلومات ولكن نعيش أزمة .
يقول ألفن توفلر : ما هو مدى قدرة الإنسان على التكيف مع هذه الدرجة غير المسبوقة من السرعة في تداعي الأحداث وتلاحقها. الكثير من الأحداث العالمية لا يُمكن أبداً تفهمها اقتصادياً .بل إن اسرائيل نفسها لا يُمكن تفهمها اقتصادياً .
ما يحدث في البلاد العربية لا يضر أحد في شىء سوى العرب .الدماء عربية.الخلاف العربي.الأموال عربية.الفتنة عربية.
الشعوب العربية كانت في حاجة إلى التحرر من أنظمتها الظالمة.ولكنها لم تتحرى الوسيلة .لقد خرجت من عُنق زجاجة إلى زُجاجة أخرى.خرجت من سجن حديدي إلى سجن زجاجي الجدران.لذا سريعاً ما تثور مرة أخرى.في البدء كانت الكلمة ممنوعة.الآن الكلمة مسموحة .وبالكلمة بناء, وبالكلمة هدم .لقد تخلى النظام العالمي عن (الفكر التصنيعي) لقد عاد إلى الطبيعة .(الفكر الآداتي). استخدام مكونات البيئة نفسها للتحكم فيها دون الحاجة .نعم .هناك وسائل مساعدة , ولكن هي أشبه بتعبئة العسل.نحن لا نصنع العسل الطبيعي, ولكن نصنع العبوة.هنا تكمن خطورة النظام العالمي.فهذه القدرة تحتاج إلى إدراك عالي, وتفهم حقيقي لمكونات البيئة المُراد التحكم بها.
أعود لأقول أنه ما كانَ كانْ .ويجب تفهم كل الإشكاليات المحيطة بالمنطقة العربية جيداً, حتى تتولد قراءة أقرب للحقيقة .ولا يتسنى لنا ذلك إلا بتحليل كل أحداث العالم تحليلاً منطقياً واعي نستطيع من خلاله معرفة موقعنا في الخريطة العالمية الجديدة. إن كثرة الأسئلة حول ماهية واحدة تعني تعدد الإجابات.فإذا ما كان للحقيقة إحداثيات فإن كثرة الإجابات تجعل التحديد أقرب .
محمد العريـان روائى مصرى
06/11/2014
مصرنا ©
| | | |
| | | | |
|
|