هل يحكم الاخوان مصر؟
...............................................................
عبد الحليم قنديل
..........................
لا تبدو الاجابة بـ نعم تلقائية كالماء والهواء، رغم ان ظاهر الحال يوحي بالزمن الاخواني، والنظام الحاكم يتصرف بذعر لافت، وكأن جحافل الاخوان علي باب القصر الرئاسي، ولم تكن صدفة ان الموسم الممتد لاعتقالات الاخوان قد بدأ اواسط التسعينيات، وبالذات عقب نجاة الرئيس مبارك من حادث الاغتيال الشهير في اديس ابابا سنة 1994، صحيح ان تشريعا كان قد صدر قبلها لإجهاض زحف الاخوان علي مجالس النقابات المهنية، وكان فوزهم الغالب ـ الأول ـ بمجلس نقابة المحامين هو شرارة التفجير، لكن حوادث الصدام ظلت متناثرة، ولم تنتقل بالعلاقة من التسامح والتجاهل الي الصدام ورغبة الاجهاض التنظيمي الا بعد حادث اديس ابابا.
فقد اثار الحادث ـ بتداعياته النفسية ـ سؤال الخلافة في مصر، ولم تكن صدفة ان جمال مبارك قد اعيد وقتها من لندن، وبدأت عملية اعداده لدور عبر المجلس الرئاسي المصري الامريكي، ثم جمعية المستقبل، ثم الحزب الوطني بنهاية القرن الفائت. وبالتوازي بدأت الحملة الشرسة ضد الاخوان لمجرد كونهم اخوان، وعادت تهمة الانتماء للاخوان التي جري التساهل معها لربع قرن قبلها، لتؤدي بقيادات الجماعة الي المحاكم العسكرية، ورغم ان حيوية النقابات المهنية ـ المسيطر علي مجالسها اخوانيا ـ كان قد جري تجميدها، الا ان نفوذ الاخوان في الانتخابات العامة بدا اخطر، واكثر اثارة لفزع نظام يضعف باطراد.
كان النظام في سنوات استقراره الاولي قد تجاهل وجود الاخوان في البرلمان، وبدا متسامحا معه الي حد ظاهر، فقد وصل الاخوان للبرلمان بالتعاون مع حزب الوفد في انتخابات 1948، ووصلوا بأعداد اكبر للبرلمان بالتحالف الاسلامي مع حزب العمل في انتخابات 1987، ومع اختلاف المشهد زادت الحساسية الامنية، ففي انتخابات 2000 كان للاخوان سبعة عشر مقعداً، ثم تضاعف العدد مرات الي 88 نائبا في انتخابات 2005، وبدت ضراوة حملات الأمن موازية لمعدلات فوز الاخوان، وانتهت روح الفزع الي شلل في عقل نظام سابت مفاصله، والي تنكيل منتظم بالاخوان، والي حد انه لا يكاد يمر يوم دون ان يكون خبر الصباح الاول هو اعتقالات جديدة للاخوان في مصر.
ورغم ان الاخوان خزان بشري هائل، وعضويتهم المنتظمة قد تصل الي مئة الف، والعضوية بالتأثير قد تصل الي مليون، فان قوة الاخوان الاجتماعية لا تبدو بكل هذا السحر، لكن الانطباع ـ احيانا ـ يغلب الحقائق، والصيت افضل من الغني، والمقولة القديمة التي صاحبت حزب الوفد ايام مجده الكبري ـ عقب ثورة 1919 ـ تعاود الترداد، كانوا يقولون وقتها لو رشح الوفد حجرا لانتخبناه ، ولن تعدم من يقولها هذه المرة بصدد الحديث عن الاخوان، وان الاخوان لو رشحوا حجراً لانتخبه الناس.
ولا يبدو ذلك دقيقا تماما، فقد فاز الاخوان في انتخابات 2005 بخمس مقاعد البرلمان، وكان بوسعهم بالتأكيد ان يفوزوا بما هو اكثر، وفي تصريحات لاحقة اعترف احمد نظيف رئيس الوزراء بالتزوير الذي جري، وقال ـ طبقا لتقارير امنية علي ما يبدو ـ ان الاخوان كان بوسعهم الفوز بمئة وعشرين مقعدا، لاحظ ان عدد مقاعد البرلمان يصل الي 454 عضوا، وعشرة منهم بالتعيين الرئاسي، وبحسب تصريحات نظيف الامنية الاصول، فقد كان بوسع الاخوان الحصول علي نسبة تقترب الي 30% من مقاعد البرلمان، والنسبة قريبة من المدي الحقيقي لنفوذ الاخوان في الشارع. ونتصور ان بوسعهم كسب ثلث مقاعد البرلمان لو جرت الانتخابات حرة، وبالطريقة الفردية السارية الآن، وقد تزيد لو جرت الانتخابات حرة بطريقة القوائم النسبية، وهو ما يعني ان بوسع الاخوان ـ علي افضل تقدير ـ الحصول علي 40% من اصوات الناخبين، وقد تنخفض النسبة المتوقعة لو تكررت نوبات الانتخابات الحرة، وكما جري في المغرب والاردن والجزائر.
وتبدو النسبة اقل من الفوز المحتمل للاخوان في اتحادات الطلاب وهيئات التدريس والنقابات المهنية لو جرت انتخابات حرة، فالتكوين القيادي المؤثر للاخوان في غالبه من المهنيين الذين كانوا قيادات طلابية في اواخر السبعينيات وفي الثمانينيات.
والمحصلة: ان حضور الاخوان النقابي يبدو اكبر بكثير من حضورهم في الشارع، وقد نلفت النظر ـ مثلا ـ الي حركات الاضراب والتمرد الاجتماعي التي تجتاح مصر في الشهور الاخيرة، وقد بلغ عددها اكثر من 500 اضراب واعتصام وتمرد اجتماعي، وهي سائرة الي اتساع مطرد، وبدا الاخوان ـ رغم كونهم اكبر جماعة شعبية ـ غائبين بالجملة عن المشهد الصاخب، صحيح ان الحركات والاحزاب السياسية ـ غير الاخوان ـ تبدو غائبة هي الاخري، وان طوفان الغضب الاجتماعي يبدو تلقائيا اكثر، وبلا تأثير سياسي ظاهر، لكن اصواتا وقيادات ناصرية ويسارية بدت علي قدر من الحضور، او قل انها ترغب اكثر في التحام مع تيار الغضب التلقائي الجارف.
والمعني: ان المشهد الموحي اكثر برغبات واشواق التغيير يبدو خاليا من الاخوان، وان كان بوسع الاخوان ـ بالطبع ـ الاستفادة مما يجري. ربما السبب: ان الاخوان الآن كتلة بشرية اكبر بما لا يقاس بالنسبة الي غيرهم، ثم انهم علي قدر كبير من التنظيم والانضباط، ثم انهم جماعة مظلومة سياسيا كما غالب الشعب المظلوم اجتماعيا، والاحساس بوطأة الظلم يرفد بعضه بعضا، والاخوان عنوان جاهز اكثر من غيره في المدي الاقرب، وقد تصل عليه رسائل الغضب بطريقة اسرع، وليس متوقعا ـ بطبائع الحال ـ ان يحدث ذلك في ظل بقاء مبارك بالحكم، فإدارة مبارك عازمة تماما علي حذف الاخوان من معادلة السياسة، وتعديلات الدستور الاخيرة ـ في مارس 2007 ـ تبدو مصممة بالذات لإخلاء الطريق من الاخوان. ثم ان الدولة الامنية لا شغل سياسياً لها الآن سوي عمليات اقتفاء اثر الاخوان، ولا يبدو الاخوان علي استعداد كاف للمواجهة، او الاعتصام بقوة الناس. مرشد الاخوان مهدي عاكف صرح اخيرا بأنهم لن يخوضوا انتخابات المحليات المقررة في ايار (مايو) 2008، وهي رسالة تهدئة مفهومة المعني، وقال ايضا: ان مبدأ الاخوان الآن هو عدم التظاهر ضد الدولة البوليسية، وهو ما قد يعني اخلاء طرف اخواني من سلك الغضب الاجتماعي الطافح، وربما الابتعاد بالاخوان لمسافة تفصل عن نخب الغضب السياسي في كفاية واخواتها بينما تبدو النخب الاخيرة اكثر احتفالا بالغضب الاجتماعي، وتبدو ـ علي ضعفها التنظيمي المنظور ـ اكثر صدقية واستقامة في سلوكها السياسي، فهي ترغب في تغيير النظام بالجملة، ولا تبدو مدفوعة بشهوة استيلاء علي سلطة، ولا بالتربص للفرص، وفي حال الاخلاص الوجداني لحلم التغيير وتيار الغضب الاجتماعي المحمل بالوعود.. وبالرعود.
هذه بعض تعقيدات الصورة المصرية الآن، وهي تعني ـ فيما تعني ـ ان بوسع الاخوان الوصول للحكم، وبالمشاركة غالباً لا بانفراد، فبوسع الاخوان ـ بالاختيار المجرد ـ ان يشاركوا في لعبة قصر، او في انتفاضة شارع، ولعبة القصر طريقها مفهوم، وفي قيادة الاخوان من يفكر فيها علي ما يبدو، فالمعروف ان مكتب الارشاد (13 عضوا) لا يزال تحت سيطرة الجيل الأقدم المؤسس، وهو الجيل المحكوم بفكرة المحنة والابتلاء الرباني، ويتخوف من الاندفاع في المواجهة، وخشية ان يتكرر ما جري من قبل علي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وان تنزلق قدم الاخوان الي محنة التفكيك الكامل للجماعة.
ورغم ان الفكرة اقرب الي العقدة النفسية، فإنها لا تزال تعمل علي ما يبدو، وتغفل الفروق التي تخزق العين، فنظام عبد الناصر لم يكن مجرد آلة امنية، وقد كانت بيد نظام ساحق في شعبيته، وجاذب لقبول الناس بمزيج المصالح والمطامح، وقد تصادم عبد الناصر مع الاخوان في 1954 وهم جماعة شعبية، وتصادم مع الاخوان في 1965 وهم جماعة عنف محصور، وفرق الجهد ـ عبر عقد واحد ـ كان فائض قيمة شعبية لنظام عبد الناصر، وان تجاوز امنيا، اما آلة مبارك الامنـــــية فلا تبدو سوي عصا ينخرها النمل، فقد تآكلت القواعد الاجتماعية للنظام المغلق.
ثم ان وضع الاخوان الآن مختلف، ونخبتهم القيادية المؤثرة ليست نخبة مشايخ، وحرصها علي التواصل مع الآخرين في المعارضة ـ بمصالح السياسة ـ اكبر بكثير، وهو اتجاه يبدو في حالة كمون الآن، وخصوصا مع تزايد الخطر الامني. ما علينا، فلا نريد ان نخوض في تقويم بالتفاصيل الآن، المهم ان تفكير المرجئة في قيادة الاخوان قد ينتهي بانزلاق الي ما لا نحب للاخوان، قد ينتهي الي نوع من التواطؤ الضمني الصامت مع سيناريو التوريث، ونقل الرئاسة ـ بانتخابات صورية ـ من مبارك الاكبر الي مبارك الاصغر، في هذا السياق تتصل تصريحات متفرقة لها دلالة لا تخفي، مرشد الاخوان الاستاذ مهدي عاكف اتهم ـ ذات مرة ـ حركة كفاية بأنها تشتم مبارك ، وهو ما قد يعني ان الاخوان ـ بمنطق المخالفة ـ مؤدبون ومهذبون، ولا يفعلونها.
وليست القصة ـ علي اي حال ـ في محاكم الجنايات بل في احكام السياسة، فالنائب الأول للمرشد د. محمد حبيب صرح ـ مرة ـ انه لا مانع من ترشيح جمال مبارك للرئاسة بشرط الانتخابات الحرة، وطبيعي ان ادارة مبارك لا تريد من الاخوان سوي واجب الوفاء بالمقطع الأول من التصريح، اما حق الانتخابات الحرة فشرط معلق في هواء، وفي الممارسة ـ بعد التصريحات ـ يبدو الإيحاء الخطر اكثر وضوحا، فقد شارك الاخوان في انتخابات الشوري التي جرت في ابريل 2007، وقرروا المشاركة بعشرين مرشحا فقط، والعدد اقل من نصف النصاب المطلوب (45 عضوا) لتأهيل اخواني للترشح في انتخابات رئاسة مقبلة، وكان رد السلطة الامنية الباطشة ان حرمتهم من الفوز بأي مقعد من اصله، ثم جاء القرار المبكر لمرشد الاخوان بعدم المشاركة في انتخابات المحليات ليكمل الدائرة، فالدستور المصري ـ بعد ترقيعات العائلة وتعديلاتها ـ يشترط توافر 140 مقعدا في المحليات لتأهيل اي مستقل لفرصة ترشح في انتخابات الرئاسة، والاخوان ـ في عرف القانون المصري ـ في حكم المستقلين لأن جماعتهم محظورة، والممارسة المرئية مغرية لتصديق تصور ان الاخوان قرروا ترك الرئاسة لمبارك وابنه من بعده، وربما بهدف خفض الحملات الامنية فيما تبقي من ايام مبارك الأب، وان تتاح الفرصة ـ فيما بعد ـ لعودة هادئة للسياسة بعد استقرار الامور لصالح نجله، وقتها لن يمكن ـ باستطراد التفكير ذاته ـ تجاهل الاخوان، فهم اكبر جماعة في التوازن السياسي القائم، وكسب فرصة العمل بالسياسة ـ مع توقي المطاردات الامنية ـ يبدو مفيدا بالنزعة البراغماتية، وقد يسمح لهم بالوصول للحكم ولو بالمشاركة مع جماعة جمال مبارك، او مع جنرال بديل قد تنتهي اليه الرئاسة في ظروف غضب اجتماعي.
سيناريو آخر لوصول الاخوان للحكم قد لا يصح اغفاله، ويبدو علي مسافة تفكير تفصل عن السيناريو البراغماتي، فأغلب قيادات الاخوان الوسطي من جيل السبعينيات وما بعده، وهؤلاء اكثر تحررا ـ بتواريخ الممارسة ـ من عقدة عبد الناصر ، واكثر تسييسا في مقابل غلبة التديين المسيطر علي وجدان الجيل الأول، وأكثر تفاعلا مع التيارات الوطنية والديمقراطية واليسارية، ومع قيادات الناصريين الجديدة بالذات، ولم تكن صدفة ان د. عبد المنعم ابو الفتوح ود. عصام العريان كانا الوحيدين من قيادات الاخوان البارزة اللذين وقعا علي بيان كفاية التأسيسي، ويبدو د. عبد المنعم ابو الفتوح ـ بالذات ـ عنوانا لتجديد اخواني براديكالية طاغية، ولا يبدو شخصا معلقا في فراغ، ولا يكتسب قيمته المؤثرة من مجرد عضويته في مكتب الارشاد، فهو القائد الفعلي لجيل السبعينيات في جماعة الاخوان، بينما يبدو رفيقه د. عصام العريان اقرب لطموح سياسي يستحقه، فهو رئيس المكتب السياسي المستحدث في الجماعة، واقرب للتفاهم مع الجيل الأقدم في مكتب الارشاد الذي لا يتمتع بعضويته الي الآن،وليس سرا ان دور د. عبد المنعم ابو الفتوح ـ بالذات ـ كان بارزا في دفع الاخوان للمشاركة في مظاهرات الغضب السياسي، وبالذات في مظاهرات تنتصر لتمرد القضاة، وهو يبدو اقرب ميلا لدعم تحالف وطني مع اطراف المعارضة الجذرية، واقرب الي تصور يقود فيه الاخوان ـ بثقلهم الملموس ـ حركة سياسية وطنية جامعة، وتعتمد اساليب العصيان السياسي القابل للتحول الي عصيان مدني، وهو تصور شاركه فيه ـ احيانا ـ د. محمد حبيب النائب الأول لمرشد الاخوان، خاصة في سلسلة نداءات الكترونية حملت عنوان نداء للمصريين ، فأبو الفتوح ليس ظاهرة فردية ولا عابرة، وان بدا انها تتعرض للحصار احيانا ولدواعي الحرج في احيان اخري، فهو يعكس ميلا الي التحول بالاخوان لحزب سياسي بغير التباسات الجماعة الدينية، وانحيازاته الاجتماعية لغالبية الناس اكثر رسوخاً، وقد يصح اعتباره رأسا لسيناريو ديمقراطي مختلف ومتقاطع مع السيناريو البراغماتي ، وقد يعني فرصة لوصول الاخوان للحكم بالمشاركة مع قوي اخري في سياق تغيير اكثر جذرية، وعلي الضد تماما من دواعي تورط في صفقة توريث جمال مبارك.
وصول الاخوان للحكم ـ اذن ـ معلم علي احد شرطين، اما نوع من التهدئة والمساومة مع قصر الحكم الراهن، او باندفاع محسوب في مغامرة تغيير استنادا لقوة الناس، لكن السؤال الذي يبقي معلقا، هو باختصار: هل تسمح امريكا بوصول الاخوان للحكم بينما ظلها ممدود في مصر؟ وما هو مصير كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع اسرائيل؟