إشكالية التجديد ومشروعية التغيير
...............................................................
باسم محمد حبيب
....................
يلاحظ هذه الأيام كثرة الدعوات والأطروحات الإصلاحية التي ترى في المنهج القديم وسيلة فاشلة للتقدم إلى أمام نظرا لكثرة الإخفاقات التي انتابت الجسد الإسلامي (الشرق أوسطي ) التي جعلت مجتمعاتنا تعيش في أردا حال وبالرغم من أن هذه الدعوات والأطروحات تدرك جيدا طبيعة المشكلة وتفهم أخطارها وإشكالاتها إلا أنها لاتريد أن تغامر بطرح حلول جذرية يمكن أن تجلب لها الإزعاج والمشاكل متذرعة بصعوبة اعتماد مثل هكذا حلول قد تضعنا بالضد من تاريخنا وتراثنا وبالتالي لابد أن نميز بين نوعين من العلاج النوع الذي يركز عليه الاصلاحيون المعاصرون وهو الذي يدعوا إلى المواءمة بين التراث والمعاصرة والنوع الذي ينشد القطيعة مع ذلك التراث محملا إياه كل تبعات الواقع الحالي وما فيه من مساوئ
وفي كلا النوعين نواجه معرقلات عديدة لان المواءمة قد تعيق الإصلاح أن لم تشله بعد أن تفرغه من محتواه فيما تواجه القطيعة رفضا وممانعة من الواقع المشبع بهوس التراث وأوحاله ما يجعلها غير ذا مفعول ويبدو لي أن الساحة لم تعد متاحة لهذا النوع من العلاج الذي استهلكته الرؤى الشيوعية والوجودية والعلمانية الأخرى الأمر الذي فسح المجال لبروز النوع الأخر الأكثر ارتباطا بالواقع بالرغم من أن الكثير من عناصره من مناهج غريبة لا علاقة لها بتاريخ المنطقة وموروثها ويلاحظ أن لتيار ما بعد الحداثة تأثيره الكبير في هذه الموجه التي اتسعت حتى غدت المنافس الأقوى للنزعة التقليدية المهيمنة الأمر الذي رفع من منزله هذه الموجة وغدى مفكروها في نظر الكثيرين ربابنة وأسياد الفكر الإصلاحي بلا منازع بالرغم من مما تحمله أطروحاتهم من مضامين ربما يكون لها اثر عكسي على مسيرة التطور وعلى منطقه لأننا ندرك جيدا أن هذه الأطروحات ليست جديدة على عالمنا الإسلامي أن لم تكن ظاهره أسلامية معروفة تبرز كلما يواجه الفكر الإسلامي تحديا ما فيكون الهدف إنقاذ هذا الفكر لا تطويره وعندما يختفي التحدي ويزول الخطر يعود الفكر من جديد إلى حالة الجمود القديمة فيغدو اصلب من الأول يقول منير شفيق في هذا الصدد"اثبت الإسلام انه قادر على النهوض بالأمة المرة تل والمرة بعد كل كبوة أو نكسة أو هزيمة أو انهيار ...(حيث) كان الإسلام قادرا على أن يخرج في الأمة من يقودها ويصلح أمرها ويعبئها " ومادام الأمر كذلك فليس لنا أن نعد هذا النوع من الدعوات جزءا من نسق الإصلاح المنشود
ولعل الإشكالية الكبرى في مفهوم الإصلاح ذاته الذي قد يعني أعادة الروح إلى شيء قديم أو هو أبقاء للقديم وتأخير مجيء الجديد الذي ينبع من أمام الدين التقليدي المتصل بمنطق الماضي لا الحاضر أو المستقبل الأمر الذي يفرغ مفهوم الإصلاح من محتواه فإصلاح فكر ما يعني قطع الطريق أمام اختبار هذا الفكر ميدانيا فهو مبدئيا يدل على أننا منحازون لهذا الفكر وان غرضنا من الإصلاح هو تغذية هذا الفكر بما يمده بأسباب البقاء لااكثر الأمر الذي قد ينصرف على معظم الأطروحات الإصلاحية البارزة على الساحة ومن ذلك أطروحات ما بعد الحداثويين أو المتأثرين بهم أمثال محمد أرغون ونصر حامد أبو زيد وعلي حرب واودنيس وغيرهم حيث تديم هذه الأطروحات الواقع القديم بعد أن تمده بعناصر قوة جديدة أو تفسح المجال لجدل تعبوي المنتصر الوحيد فيه هو التراث ولا شيء غيره لما يمتلكه من رسوخ وهيمنة الأمر الذي قد يضع هذه الأطروحات والدعوات كإحدى دعامات التأخر وسببا من أسباب البقاء على القديم
يقول أبو زيد في معرض تناوله لتأثير التراث " أن المنتصر في معركة (التوجيه الأيدلوجي ) هذه هو الفكر الرجعي التثبيتي وذلك لان استناده إلى التراث استناد إلى تاريخ طويل من سيطرة الفكر الرجعي على التراث ذاته " ورغم انه يؤكد هيمنة التراث ودوره في عرقلة أي تطور إلا انه يبرا التراث من هذه المسؤولية التي يحيلها إلى الفكر الرجعي متناسيا أن تراثنا والفكر الرجعي هما روحان في جسد واحد ولا يمكننا بأي حال التفريق بينهما الهم إلا في نطاقات معينة محدودة وبالتالي هو يرى أن تخليص التراث من الفكر الرجعي هو العلاج الشافي لكل مشاكلنا الثقافية والحضارية معتبرا أن ما يواجهه مجتمعنا من تحديات له اثر واضح في تراجعه لان هذه التحديات قد تفرض عليه العودة إلى التراث من اجل أيجاد عناصر تتيح له الاستمرار في مقاومة تلك التحديات معتقدا أن ذلك هو ما حصل في ذروة الحضارة الإسلامية عندما برز التحدي الصليبي الذي دفع المسلمون إلى الانسحاب إلى الداخل والاعتصام ضمن حدود علوم النص والاستبسال في الدفاع عن الثقافة والفكر الإسلاميين حتى لا يخترقا من قبل الأعداء طارحا أن العملية "كانت تتم من منطلق تصور ديني للنص صاغته اتجاهات الفكر الرجعي في تيار الثقافة العربية الإسلامية وهو تصور اقل مايقال عنه الآن انه تصور يعزل النص عن سياق ظروفه الموضوعية التاريخية بحيث يتباعد به عن طبيعته الأصلية بوصفه نصا لغويا ويحوله إلى شيء له قداسته بوصفه شيئا "
أما محمد أرغون فقد خرج بمشروعه العميق نقد العقل الإسلامي إلى الساحة الأساسية لأي نزال يفرضه الواقع الإسلامي لأنه هدف إلى ضرب كل المرتكزات التجميلية التي فرضت نفسها على اللا شعور العام لكنه في ذات الوقت كان يحرص على ضمان هوية أسلامية لطرحه يقول في إحدى أطروحاته " ينبغي على المثقف المسلم أن يحارب على جبهتين اثنتين جبهة الاستشراق الذي يمارس العلوم الاجتماعية بطريقة وصفية حيادية باردة وجبهة الأسلوب التبجيلي للمسلمين " فهو من البدا فرض مفهوما للمثقف منطلق من هويته ( المثقف المسلم ) ثم طالبه بان يمارس دوره على جبهتين إسلامية وغربية حتى يتطور من جهة ويحافظ على هويته من جهة أخرى أي أن هاجس الهوية كان ماثلا حتى في أقوى نقوده الثقافية الأمر الذي منح نقده الديني هوية أصلاحية أكثر من كونه نقد خالص وبالتالي يخشى أن يكون من ضمن الأطروحات التي تدعم الفكر القدامي سواء بتغذية هذا الفكر بعناصر تجديدية قوية أو بسماحه ببقاء هذا الفكر برغم العلل التي فيه لان الشيء الصحيح والذي يمثل أساس الموقف المطلوب هو في أن نترك الفكر الإسلامي يعيش حياته دون تدخل منا حتى يكون قادرا على امتلاك فعاليته متحررا من أي تنميط مخالف لنسقه فان كان هذا الفكر صالحا سيخرج من هذا الاختبار ظافرا قويا فيكون منهجا مناسبا للحياة بعد أن يمتلك بعده الكامل وان كان غير ذلك لن يكون لنا أن ناسف عليه لأنه عندها يقر بفشله ويغدوا وجوده غير ذي نفع لكن هذا الأمر قد لايكون ناجحا بهذا الشكل لان الفكر القدامي موجود بقوة ما يجعل الاختبار ابعد من أن يكون فاعلا لان الجدل يحتاج إلى شروط حتى يكون مستوفيا لغرضه واهم هذه الشروط هو التوازن الذي يمنح الجدل روحا فاعلة ولان واقعنا متشرب بالفكر القدامي بتأثير الوعي المنحاز للتراث فان نجاح التراث وبقاء الفكر القدامي قد يمثل النتيجة ل هكذا جدل الأمر الذي تكرر غير مرة وأخرها في محاولة النهضة الإسلامية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي كانت خاتمتها ليس تكريس الفكر القدامي وحسب بل والارتكاس إلى غياهب الأنساق المتطرفة في فكرنا التي منحها مفكروا ما بعد الحداثة مبررات أقوى للبقاء عندما اعتبروها جزءا من هويتنا الثقافية التي لايجب أن نتجاوزها تعسفا بل من خلال ديالكتيك خاص فيكون تجاوزها أكثر نجاعة ومعنى وهؤلاء يتجاهلون أن الحضارات جميعها بما في ذلك الحضارة الغربية ذاتها ما كان لها أن تتطور وتنطلق بدون التلاقح مع سواها من الحضارات الأخرى وان الحضارة التي تستوي محافظة على قالبها وعناصرها الخاصة لن تكون قادرة على معاينة وضعها وطرح نفسها في ميزان المفاضلة وستبقى معتقدة بأفضليتها المزيفة طويلا الأمر الذي يحرمها من نقد ذاتها وممارسة الحوار مع نفسها ومع الآخرين لان الحوار من حيث كونه مفهوم ديالكتيكي لا يرمي كما يقول علي حرب " إلى التطابق في وجهات النظر بين المختلفين بقدر ما يرمي إلى خلق مناخ للتعايش أو وسط مفهومي أو مجال عام أو قيمة تبادلية أو فسحة تنويرية أو صيغة مركبة أو لغة حية أو مركبة أو عقلية مفتوحة ومتجددة "
فانا عندما أتحاور مع غيري فهذا لكي استفيد مما لديه من قيم ورؤى وأفكار قد تكون أجدى مما لدي مثلما قد يستفيد هو مني وبالتالي استطيع أن أعيش كما يعيش غيري وهذا الأمر يحتاج ليس إلى فتح منافذ التعامل مع الأخر وحسب بل والى السماح بخلق جو تنافسي تتبارى فيه الأفكار بشكل حر أي يجب أن نوقف التغذية غير المشروعة التي تمارسها الأفكار الإصلاحية أو التجديدية حتى نقف على فعالية فكرنا كما هي في ذات الوقت الذي نسمح بدخول الآراء الأخرى لتكون في وضع يسمح لها في المنافسة ونكون في وضع يسمح لنا بالتقييم الصافي والدقيق وبهذا يمكن لواقعنا من أنتاج نسق يسمح له بالخروج من متاهة الانغلاق بعيدا عن المطارحة الطبيعية لان الفكر السليم لا يجرب إلا في واقع سليم ونحن بإقصائنا لهذا التحاور أو الجدل الطبيعي نكون آثمين بحق فكرنا وواقعنا ومبتعدين عن جوهر الممارسة الطبيعية للحياة هذه الممارسة التي تتطلب الانفتاح على الأخر والحوار معه حتى تغتني الحياة وتتمدد باتجاه المنطق الطبيعي .