من سقوط البرجين إلي سقوط الطغاة: دروس العقد الدامي
| |
دروس العقد الدامى | |
فرانسوا باسيلي
...................
الذين لا يتعلمون من التاريخ محكوم عليهم بتكرار مآسيه، فهل تعلم أحد شيئاً بعد عشر سنوات من 11 سبتمبر؟ فلنتمعن في القوى المختلفة التي تلعب علي الساحة منذ ذلك الحدث التاريخي المزلزل ونقيم إن كانت هناك دروس يمكن استخلاصها مما جري لعلنا نحسن صناعة مستقبل أفضل. المتطرفون الاسلاميون هم صانعو عملية الحادي عشر من سبتمبر تدبيراً وتنفيذاً، لم يتركوا وراءهم ما يشرح أسباب قيامهم بهذا العمل ولا مفهومهم له وهدفهم منه ولا مطالبهم أو شكواهم أو تظلماتهم.. فلم يهتم أحد منهم بكتابة بيان أو رسالة: مما يفسر بأن العملية كانت هدفاً في حد ذاتها أي أن الهدف هو احداث قدر هائل من القتل والتدمير دون هدف سياسي لاحق يراد تحقيقه. وهو تفسير محتمل حيث أن المزاج المتطرف بشكل عام هو مزاج تكتيكي وليس استراتيجياً فالمتطرف ينظر فقط للفعل الذي يقوم به الذي هو أقرب الي الانفعال الغريزي الذي يطلب التنفيس عن الكراهية والحقد و الانتقام والتشفي دون أن يفكر في رد الفعل أو الخطوة التالية سواء من قبله أو من قبل عدوه.
وعلي هذا فليس من المتوقع أن يكون المتطرفون الاسلاميون الذين دبروا أو نفذوا أو ساندوا عمليات ايلول (سبتمبر) قد استخلصوا منها أي دروس فالمرء مثلهم لا يطلب دروساً من مشاعره الانتقامية الراغبة في التشفي البحت وبالتالي فالتداعيات الواقعة بأضرارها علي المسلمين أنفسهم سواء في العراق أو في البلاد العربية أو الولايات المتحدة لا تشغل بال هؤلاء ولم تكن ولن تكون في حساباتهم لأنهم بالأصل لا ينشغلون بالحساب الأرضي تحت توهمهم أنهم يعيشون فقط من أجل الحساب والعقاب الالهي الأخير.
أما اذا أردنا أن نقوم نحن بحساب الربح والخسارة لحركات التطرف الاسلامي التي باركت عملية سبتمبر فالمرجح أن يكون فائض الخسارة أكبر بكثير من فائض الربح فقد تم احتلال وتدمير دولة عربية أساسية كانت هي احدي عواصم الخلافة الاسلامية في عصرها الذهبي (الدولة العباسية) وتدل المؤشرات أن مستقبل العراق لن يخلو من احتمالات التقسيم أو الحروب أو قيام دولة دينية شيعية تابعة لايران وهذه كلها ليست سوي خسارة لحركات الاسلام السني.
لم تحقق عمليات سبتمبر اذن سوي خسائر باهظة للمسلمين دولاً وجاليات وشعوباً ولم تحقق سوي لحظة تشف وانتقام ونشوة مراهقة تروي غليل أصحابها لبرهة قصيرة، نشوة انفعالية ولحظية تعتمد علي التشفي في ضرب الغرب في أهم رموز حضارته ومراكزها المالية والسياسية والعسكرية لا تفرق بين مدنيين وعسكريين ولا تقدم مطالب سياسية محددة. واذا كانت حركات التطرف الاسلامي تطمح حقاً في الانتصار علي الحضارة الغربية فليس من سبيل أمامها سوي تحقيق التفوق النوعي علي هذه الحضارة في جميع مجالاتها كما تحاول أن تفعل اليوم الصين مثلاً فهذه هي أدوات الصراع الحقيقي الاستراتيجي طويل الأمد.. ولكن هذا صراع يعرف المتطرفون الاسلاميون أنهم لا يملكون أدواته وليسوا قادرين عليه لذا يختارون طريق التخريب الأسهل بزرع قنبلة هنا وهناك وبهذا ينتشون لحظياً ويخسرون مستقبلياً.
الولايات المتحدة
اذا تأملنا كيف استحوذت الولايات المتحدة علي تعاطف ومؤازرة وتأييد العالم أجمع حكومة وشعوباً بعد ضربة سبتمبر الي حد خروج الآلاف من الشباب الايرانيين في طهران تأييداً لها وشجباً للارهاب.. ثم كيف تحول كل هذا التعاطف العالمي الي سخط وغضب عنيف مع اعلان الولايات المتحدة نيتها في شن الحرب علي العراق وكيف خرج الملايين من المواطنين في مختلف أنحاء العالم ضد الحرب لأمكننا أن نستخلص درس أنه يمكن للدول أن تربح عالمياً بشكل كبير عندما تكون في موقف الحق والعدل وفي موقف الانسانية النبيلة الجريحة..
فحتي عندما هاجمت الادارة الأمريكية أفغانستان كان التأييد العالمي ما يزال قوياً اذ يمكن للجميع تفهم قيام دولة للدفاع عن نفسها ضد دولة أخري منحت أراضيها لجماعة القاعدة للتدريب علي أعمال الارهاب التي أسفرت عن عمليات ايلول (سبتمبر). وعندما بدأت الادارة الأمريكية تضع عينها علي العراق الذي لم يقم بمهاجمتها بدأت في فقدان التعاطف والتأييد العالمي دولاً وشعوباً.. وراحت الادارة الأمريكية تتصرف بكثير من الصلف والتعنت مفتعلة صداماً مع دولة لا تهددها مختلقة أسباباً رأي معظم البشر أنها ملفقة. ولم تستطع الجماهير العريضة في معظم دول العالم مساندة حرب تراها جائرة لا تستند الي شرعية ولا الي موقف أخلاقي رفيع كان هو المنتظر من دولة في مكانة الولايات المتحدة.. وهكذا أهدرت الادارة الأمريكية فرصة تاريخية كانت رهن أيديها لتكوين تحالف عالمي حقيقي من كافة الحكومات والشعوب ضد التطرف والارهاب. وبدلاً من ذلك انزلقت الي تصرفات تفتقد الشرعية فأشعلت حرباً راح ضحيتها الي اليوم أكثر من مليونين من البشر بين قتيل وجريح ومهجر ومشرد بالاضافة إلي الخسائر المالية الهائلة لكل الأطراف و الأضرار الإقتصادية الضخمة التي أصابت الولايات المتحدة . فالدرس الأساسي هنا أنك لا تأخذ أمر الحرب بذلك الاستخفاف والهرولة والغطرسة التي أخذها بها المحافظون الجدد بل عليك الالتزام الصارم بالشرعية وبالأسس الأخلاقية التي تملي عليك التحقق من الجناة والتأكد من الأدلة وعدم اختلاق المبررات.
ولكن مهما كانت النتيجة في العراق فان هذا لا يعني بالضرورة هزيمة أمريكية طويلة الأمد، فمن مزايا النظام الديمقراطي الأمريكي انه يفرض التغيير الشامل في الماسكين بكافة شؤون الحكم كل أربع أو ثماني سنوات علي الأكثر.. وبالتالي تأتي ادارة جديدة تكون أكثر قدره علي استيعاب الدروس الحقيقية واجراء التعديلات الضرورية في السياسة الأمريكية لضمان أداء أفضل، وهذا ما حدث بعد حرب فيتنام التي راح فيها عشرات الأضعاف مقارنة بالخسائر الأمريكية في حرب العراق، ورأينا كيف استطاعت الادارات الأمريكية المتعاقبة أن تتجاوز أخطاء حرب فيتنام وتخرج في النهاية منتصرة علي عدوها الاتحاد السوفييتي وتقضي ليس فقط علي المد الشيوعي الذي كانت تريد ايقافه في فيتنام بل علي الشيوعية نفسها كأيديولوجية وكنظام وكدولة. فانهار الاتحاد السوفييتي علي نفسه. وعلي هذا فالمنتـظر أن يسمح النظام الديمقراطي الأمريكي باستـــيعاب هذه الخسارة والاستفادة من دروسها العميقة وتوظيف هذه الدروس في ابتكار أساليب أكثر فعالية للتعامل مع الارهاب ومع الدول والشعوب في العالم كله، و قد رأينا هذا فعلاً في التصرف الأكثر حذراً ومصداقية للدول الغربية في تعاملها مع ثورات الربيع العربي و تدخلها الحربي المحسوب في ليبيا والسياسي المحسوب أيضاً في سوريا، والدرس لنا هنا أن النظام الديمقراطي هو وحده ما يضمن لنا المرونة اللازمة لتجاوز أية أخطاء في فترة قصيرة عن طريق تغيير دم السلطة كل بضع سنوات وليس بضع عقود.
الثورات العربية
إذا كان عام 2001 هو عام الحادي عشر من سبتمبر الذي دشن عقداً كاملاً من الحروب العبثية والأعمال الارهابية العابرة للقارات والتي هزت العالم وغيرت في الكثير من معطياته وسياساته وأساليب حياته فإن عام 2011 قد دشن مرحلة عربية مدهشة ومفاجئة شهدت حتي ألان ثورات اسقطت طغاة عتاة في ثلاث بلاد عربية وخلخلة الطغاة في اثنتين اخرتين قد لا ينقضي العام إلا وهما في سقوط، أكبر هذه الثورات كان في مصر، ومن أهم خصال الثورة المصرية التعددية فى القائمين بها، فقد بدأها الشباب من كافة الأطياف، بعشرات من القيادات الشبابية ومعها الآلاف من الشباب المتحمس الواعى الفاعل الجسور. وجاء معظم هؤلاء من الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة، شبابا وشابات، بلا أيديولوجيات حادة أو متطرفة يمينا أو يسارا، بلا انتماء لأحزاب أو تيارات سياسية أو دينية، تجمعهم فقط رغبة عارمة للانتفاض لكرامتهم وتحقيق حريتهم و إسقاط الواقع الفاسد الذى تعفن حولهم، وقد كشفوا بهذا فشل التيارات العقائدية الجامدة التي سبقتهم مثل التيارات اليسارية واليمينية والاسلامية التي فشلت في إحداث تغيير سياسي وإرساء الديمقراطية والحرية الانسانية عبر أكثر من نصف قرن من الصراع والمراوغة والمداهنة للنظم الحاكمة، ورغم وطنية هذه التيارات واخلاصها لمبادئها لكنها كانت تيارات خارجة عن العصر متخلفة عن أساليب فكره متجمدة علي قواعدها العقائدية الصارمة المقيدة لحركتها وتطورها.
أثبت الشباب المصري المثقف الذي كان هو شرارة الثور ة الأولي استيعابه الكامل لفكر العصر وأدواته فهو جزء من النظام العولمي الجديد الذي يرسمه الشباب في العالم كله رغم أنف الحكومات والقيادات السياسية والدينية والثقافية العتيقة، وهو يتواصل بالفيسبوك والتويتر ضارباً عرض الحائط بالحدود والحواجز السياسية والعقائدية مدشنا عهداً جديداً مثيرا لغته هي الحرية والكرامة والابداع في كل مجالات الحياة بلا قيود قديمة اثبتت فشلها الذريع ولم تقدم سوى الضجيج والتخلف والارهاب الجسدي والفكري لأجيال عديدة ضائعة من البشر، ومستقبل مصر الواعد لن يأتي إلا باستمرار المسيرة الحضارية لهذا الشباب الواعي بعيداً عن الغلو العقائدي بكل أشكاله السياسية والدينية.
بداية التاريخ
لعل الدرس الأشمل الذي يفرض نفسه هنا أن العالم يشهد نهاية تاريخ قديم مهترئي وبداية تاريخ جديد لم يكمل تشكله بعد ولكن ارهاصاته تدل عليه ويأتي مستفيدا من الإخفاقات الدموية الباهظة لما سبقه، فنحن نعيش سقوط حقبة الايديولوجيات والعقائد المتطرفة الجامدة التي سادت القرن المنصرم وتسببت في دماء وحروب وانهيارات وإخفاقات لا تحصي وتشمل الأيديولوجيات القومية المتطرفة بدئاً من النازية الالمانية التي أدت إلي الحرب العالمية الثانية ووصولا إلي عقيدة المحافظين الجدد الامريكية التي أدت إلي حرب العراق، مرورا بالحركات القومية المتشددة في عالمنا العربي والتي شاهدنا ونشاهد توالي انهياراتها من سقوط صدام والبعث العراقي إلي السقوط المحتوم لبشار والبعث السوري وسقوط القذافي و العسكراتيات العربية في أقصي جنونها.
كما تشمل في الجانب الاخر فشل وإفلاس التطرف الديني الذي اعتنقته جماعات الاسلام السياسي المنبثقة عن الاخوان المسلمين بدءًا بأعمال العنف والاغتيالات في الاربعينات إلي الفكر القطبي المتطرف في الستينات ثم أعمال الارهاب التي مارسوها في مصر في الثمانينات واصدروا مراجعات وتراجعات عنها وصولا إلي السلفية الجهادية والقاعدة في العقد الأخير التي لم يتراجع اتباعها عنها بعد وإن كانت أغلبية المسلمين قد لفظتها خاصة بعد فشلها في إنجاز أي تغيير إيجابي في أي مكان وبعد نجاح الثورات الشعبية السلمية المدنية الطابع في تونس أولا ومصر بعدها مقدمة بذلك بديلاً حضاريا عصريا هو ألان الأكثر جذبا لمخيلة الشباب رغم محاولات الحرس القديم في الجانبين اليساري / القومي والاسلام الاخواني إدعاء ملكية هذه الثورات دون وجود تقبل لهذا بين الشباب الصاعد صانع هذه الثورات ومالكها الشرعي.
يبدأ التاريخ في منطقتنا العربية من حيث انتهت هذه التيارات العقائدية المتشددة بفشل ذريع تلو الاخر حتي انحدرت ببلادنا إلي قاع المجتمع الدولي في كافة المجالات، يبدأ بداية واعدة بدم الشباب القادم إلينا عبر آليات العصر بفكر جديد وروح متفتحة لفظت الغلو العقائدي بوضوح شديد في شعاراتها وهتافاتها مطالبة بحقوق الانسان وحريته وكرامته التي يمارسها الشباب المشابه لهم في العالم المتوثب حضاريا شرقا وغرباً ، هذا هو الحلم الواعد فهل سينجح في إنتزاع حقه في الحياه من براثن القوي القديمة التي ما تزال تلهث جريحة تنتظر متحفزة في زوايا تاريخها المنهار؟
هذا هو السؤال المصيري الأهم الصاعد من الدروس المستنبطة من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بسقوط البرجين وانتهي بسقوط الطغاة، فهل سنستوعب دروس هذا التاريخ الدامي الحديث أم سنحكم علي أنفسنا بتكرار مآسيه؟
كاتب من مصر يقيم في نيويورك