الانحدار الحضارى: من شم النسيم إلى شم الزبالة
...............................................................
|
المصريون يستمتعون بيوم شم النسيم |
بقلم : فرانسوا باسيلى
..........................
منذ سنوات قليلة ارتقت معارف ومشاعر البشر فى الدول المتقدمة حضاريا إلى الحد الذى صاروا يحتفلون فيه بيوم الأرض Earth Day ويوم الشجرة، وهذا جميل، ولكن الأجمل هو أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون بالطبيعة قبل خمسة آلاف سنة! وذلك فى اليوم الذى ما زال المصريون يحتفلون فيه إلى الآن بشم النسيم. وهكذا يستمر قدماء المصريين فى تحقيق الفرائد والافتتاحات الحضارية، إذ نكتشف كل يوم كم كان هؤلاء فى حالة سبق باهر لكل معاصريهم وما زالوا يقدمون للبشرية القدوة فى كثير من مجالات الحياة والمعرفة والعلوم والفنون.
ومن فرائدهم أنهم أول من ابتكر الأبدية وأبدع فكرة الخلود، عبر إيمانهم الجميل المثير بوجود الروح وعودتها مرة أخرى للجسد بعد الوفاة لتحقيق البعث، وآمنوا بالحياة الأخرى وبالثواب والعقاب قبل نزول الرسالات وقدوم الرسل. ولولا التعصب الدينى والانغلاق الذهنى وضيق الأفق المعرفى الذى يمنع الكثيرين من القدرة على التفكير الحر والتقييم الحى لعرف كافة المؤمنين بكافة الأديان قدر المصريين القدماء، واعترفوا لهم بأنهم أول من قدم رؤية كونية متكاملة تفسر الحياة والموت والطبيعة والكون والخلق، رؤية تتمحور حول شغف بالغ بالحياة والمحبة والطبيعة والفرح والجمال مصحوبة بمنظومة أخلاقية متكاملة تحترم الإنسان والطبيعة معا.
| |
البيض الملون من علامات شم النسيم | |
والمؤسف حقا أنه إلى عهد قريب كنا نجد فى أدبيات التزمت والانغلاق الدينى لدى بعض أعضاء التيارات الإسلامية مشاعر عدائية رافضة للحضارة المصرية القديمة- حضارة أجدادهم- على أساس أن أجدادهم كانوا كفارا من عبدة الأصنام! ووصل الجهل ببعضهم إلى حد المناداة العلنية فى كتيباتهم بتحطيم الآثار المصرية التى ليست سوى "أصنام"!
هذا ما يفعله الشطط الدينى الذى يصل إلى حد تحريض الإنسان المصرى ضد أعظم الإنجازات الحضارية فى تاريخه ، فيصبح عدو نفسه، وهذا دائما هو قدر الجاهل!
أما شم النسيم، ذلك العيد البهى، فقد كان يرمز عند أجدادنا قدماء المصريين إلى بعث الحياة، إذ تنهض فيه الأرض من موتها الشتوى وتنتفض ناثرة من جسدها الفائر ألوان الزهر والطير والعطر، فتشب الزهور وتندلع ألوانها الحمراء والصفراء كالحرائق البراقة فتخلب لب الفراشات التى تهيم بها وترشف من شفاهها شهد الحياة وعصير الفرح والمرح والمحبة. ولذلك اعتقد المصريون القدماء أن هذا اليوم هو أول الزمان، هو بداية عمر الكون وطفولة الطبيعة.
لم تعد مصر تحتفل بشم النسيم بالشكل الذى كانت تحتفل به فى مصر القديمة ولا فى أيام طفولتى وصباى، قبل سقوط العقل المصرى فى دوامة التزمت الدينى الذى اقنع بعض ضحاياه بأن كل ما هو غير دينى فهو حرام، الأعياد والأفراح وتقاليد البهجة والمتعة والمسرّة والفنون كلها حرام، بل رأى بعضهم أن الضحك- وخاصة للمرأة- حرام! وبعد حوالى ثلاثين سنة من هذه الظلمة أرى ملامح التحرر الخجول من هذا الانغلاق والتنكر للذات، فنجد الإعلام المصرى يتحدث عن شم النسيم مرة أخرى بحفاوة، ولكن العيد الحضارى القديم لم يعد بنفس بهجته وبهائه، لقد تشوه كما تشوهت أشياء كثيرة أخرى فى مصر.
فالمصريون البسطاء الذين كانوا يخرجون للحدائق لشم النسيم يجدون أنفسهم اليوم مضطرين لشم القمامة التى تزحم شوارع القاهرة ومدن مصر الأخرى، وفى أنحاء كثيرة من القاهرة تطبق السحب السوداء على رئاتهم بدخانها الخانق، والمصريون الذين كانوا يلوذون بشاطئى النيل لشم النسيم يجدون أنفسهم يشمون مياه المجارى التى تركتها الوزارات المعنية تلوث النيل كما هو الحال فى جزيرة الوراق فى وسط القاهرة وفى الكثير من العشوائيات السكنية التى تحاصر القاهرة كما تحاصر مدن مصر الأخرى، فى فشل فاضح وفادح للمسئولين عن قطاعات الإسكان والصحة والمياه والمرافق والبيئة.
| |
الرنجه والفسيخ أيضا | |
والموجع أكثر أن القمامة التى تركها المسئولون تلوث مصر ليست هى القمامة المادية البيئية وحدها، ولكن هناك أشكال وألوان من القمامة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسلوكية تلوث أرض وروح مصر اليوم! ويعانى منها ملايين المصريين الذين يستحقون أفضل من ذلك بكثير، وهى أكوام متراكمة من قمامات ألقت بها عليهم سنوات من السياسات الفاسدة التى أدت إلى المزيد من السحق للشخصية المصرية والمزيد من النهب والتطاول والاستكبار للأثرياء الجدد فى مزج مشين بين السلطة والثروة بينما تستشرى فى جسد المصريين وروحهم قروح الفقر والجهل والمرض، وآفات التشدد الدينى والانفصام الطائفى من ناحية والانحدار الأخلاقى والحضارى المصاحب له من ناحية أخرى!
وصلت هذه القروح والآفات مجتمعة بمصر والمصريين إلى قرب القاع بين دول العالم الذى كانت مصر هى فجر حضارته فى القديم البعيد، بينما كانت فى القريب- حتى الستينات من القرن الماضى، هى رائدة حركات التحرر السياسى والاجتماعى والتنمية الاقتصادية والبشرية بين دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية!
أما المدهش حقا والذى يقرب من عالم اللامعقول فهو أن المسئولين عن هذا التلوث الجسدى والروحى البائس الذين أخذوا بنا من شم النسيم إلى شم القمامة و المسئولين عن هذا الانحدار الحضارى المخيف الذى تعانيه مصر اليوم يقولون لنا إن علينا أن نشكرهم على "أزهى عصور الديمقراطية"! ونطالبهم بالمزيد ونجدد ونمدد لهم.. ولأولادهم من بعدهم!
* كاتب مصرى مقيم فى الولايات المتحدة
fbasili@gmail.com
المحرر : ندعوا الله جميعا للأستاذ فرانسوا باسيلى الكاتب المصرى الوطنى بالشفاء العاجل والتعافى .