| | | | صناعة الحاكم في مصر
| | بليغ | |
بقلم: د. بليغ حمدي إسماعيل ................................
يخطئ من يظن أن الحاكم في مصر يولد من بطن أمه حاكماً ووالياً على شعبه وأمته ، بصفات وسمات فطرية غير مكتسبة ، ويخطئ الظن أيضاً من يفترض أن للحاكم ما يسمى بالكاريزما السياسية يأتي بها إلى سدة الحكم ، وربما يخرج عن هذا التعميم بعض الحالات الاستثنائية لصورة الحاكم في البلاد العربية ، وهذا التعميم لم يأت من فراغ ، إنما من خلال استقراء الأدبيات التي تناولت الحياة الشخصية للحكام وكذلك من خلال السيناريوهات التاريخية اليومية التي كانت تعد للخلفاء في العصور الإسلامية ومن تبعهم من رؤساء وحكام وسلاطين اعتلوا عروش بلادهم وأوطانهم إما بالدين أو بالمال والعطاء أو بالسيف ، وربما في بعض الأحايين بضعف الشعب نفسه . وفي إشارة سريعة تخلف صورة الحاكم في الدول الأوروبية عنها في البلاد العربية حيث حياة الرئيس هناك ملكاً مشاعاً لشعبه ، واستحالت حياته الشخصية مرتعاً خصباً للمتطفلين أو حتى للمواطنين العاديين الذين تهمهم معرفة كل صغيرة وكبيرة عمن يحكمهم ويقود أوطانهم . بخلافنا نحن الملاك الشرعيين لأوطاننا الذين يغيب عنا الكثير من حياة من يوردنا كالإبل نحو الماء ، أو كما يظن هؤلاء الحكام وهم غافلون عن حقيقة مفادها أن الشعب يريد .
ففي الشعوب العربية تجد الحاشية والبطانة الملتفة بالحاكم تصور له أن البلاد بدونه قد تضيع وتنهار لأنه مفوض بحفظ النظام والاستقرار لوطنه ، وأن البلاد لن تستقيم إلا به وبساساته الراجحة دائماً ، وفي التراث الأدبي لصناعة الحاكم نجد أنها حرصت على تصوير الحاكم العربي قديماً على أنه ظل الله على الأرض وكما يقول عنه ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار بإن الحاكم قد حصنه الله بإحسانه وأنه لولا وجود السلطان لسادت الفوضى ، ولأكل الناس بعضهم البعض .
كما أن حاشية الحاكم في مصر لابد وأن تضع عدة سيناريوهات لبعض الصفات التي لابد وأن يظهرها هذا الحاكم على أنها فطرية وطبيعية لديه وغير مكتسبة ، مثل العدل والعقل الراجح والشجاعة المطلقة ، والسخاء والعطاء بغير حدود ، وبالتأكيد الوقار فلا يجب أن يكون مبتذلاً ساخراً أو ضاحكاً مثيراً للضحك والسخرية . ولا شك أن الحاكم في مصر أو في أي مكان ما يجد معاناة ومكابدة حينما يجاهد هواه ويحاول كبت مشاعره الفطرية الإنسانية ، ولكن سدة الحكم تفرض على صاحبها كتغيرات خاصة ، فقد يجد الحاكم نفسه مضطراً لإخفاء طبائع بشرية كالحسد أو الحقد أو الغيرة ، فكيف يكون ذلك وهو كما أدعت الأدبيات التاريخية للملوك والسلاطين أنه ظل الله على الأرض وحامي الفضائل عليها .
وعلى خلاف ما كان الرئيس المخلوع مبارك يقوم بتشبيك أصابعه نجد الآداب السلطانية القديمة تقدم مجموعة من التوجيهات التي يجب أن يتخذها الحاكم مظهراً عاماً له فنجد في كتاب ابن رزين آداب الملوك ما يلي : " إياك وتشبيك الأصابع ، وإدخالها في الأنف ، والعبث بالقلنسوة( أي ردائه ) ، وتقليم الأظافر بحضرة الناس ، ولا تتمايل تمايل المرأة ، ولا تثب وثوب الطفل ، ولا تنتظر أحداً إن تأخر عنك " .
إذن فصورة الحاكم لابد وأن تختلف عن بقية خلق الله ولا يجب أن تتشابه طبيعة الحاكم مع طبائع أخرى ، لذا فحاشية الحاكم تجتهد في كتابة سيناريوهات أشبه بالكتابة السينمائية وهذه السيناريوهات ليست وليدة اليوم ، بل هي ضاربة في القدم منذ بداية الخلافة الإسلامية القائمة على الملك منذ أيام معاوية بن أبي سفيان ولم تنته عند سقوط الخلافة الإسلامية بل استمرت حتى كتابة هذه السطور .
ولأن الحاكم صناعة وليست فطرة ، فقد نجح الحكام العرب أن يجمعوا بين سمتين نقيضتين لبعضهما البعض ، سمة الرأفة والعدل والعطاء من جهة ، وسمة التخويف من جهة أخرى ، فبالرغم من أن الحاكم لابد من ظهوره بمظهر الحليم والعادل والكاظم لغيظه ، لابد أيضاً أن يكشر عن أنيابه ويمتطي الأسد الكاسر إذا لزم الأمر لذلك واستدعت الحوادث ،وما أكثر الكتاب والمفكرين الذين اهتموا بصناعة صورة مخيفة للحاكم أمام رعيته، وتشكيل هالة من القوة حوله لأغراض مفادها تكريس سلطته ونفوذه في البلاد.وكتب التاريخ الإسلامي محشورة بالعديد من النصائح التي كان يقدمها المؤرخون والمتعلقة بالتخويف من السلطان أو الحاكم مثل : خاطر من ركب البحر ، وأشد منه مخاطرة من داخل الملوك " ، وأيضاً نصائح بعضهم من الموتورين من كتبة الحاكم بضرورة التصنع والتذلل للحكام وموافقتهم في الرأي مهما كان مخالفاً ، وغير ذلك من الأمور التي تمهد للحاكم سيطرته على الرعية .
ورغم هذه الصورة التي يبدو فيها الحاكم أكثر قوة ، فليس هناك مانع من إشاعة بعض الحوادث المرضية العارضة التي تعترض حياته ، ولهذا أيضاً كان هناك تسريب مقصود لأخبار تفيد بأن الحاكم تعرض لوعكة صحية ، وأنه يستعد للسفر إلى الخارج ومثل هذه الحواديت التي تدفع الشعوب للتعاطف الجمعي مع رئيسها وتكوين تظاهرة شعبية قوامها التعاطف والالتحام بالحاكم ، وكثيراً ما يحدث ذلك في الشعوب العربية التي يجد فيها الحاكم نفسه بعيداً عن الاهتمام الجماهيري ، أو لتشتيت انتباه الشعب نفسه عن قضاياه وشيوع حالات من الغموض السياسي التي تعتري الوطن . وإذا كان قديماً يحرص الحاكم الشريف على وجود بطانة تماثل وتشاكل فضائله ، فإن الأمر بعد ثورة العولمة والكوكبة والديموقراطية الجديدة وخارطة الطريق وغير ذلك من المصطلحات التي شاركت بنصيب الأسد في تقسيم الوطن العربي الواحد إلى دويلات أكثر ضعفاً ، لذا فقد أصبح هم الحاكم بأن يختار له بطانة أكثر ضعفاً وميوعة في الرأي والتصرف تجاهه ، وأنهم مجرد منفذين لمصالحه ومآربه السلطوية ، وإذا فشل الحاكم في اختيار هذه البطانة السوء فإن هناك أجهزة مختصة كفيلة بعملية الاختيار هذه ، ولعل أصدق توصيف لهذه الصورة أننا وجدنا نظاماً سياساً كاملاً برمته في السجن بتهم قتل متظاهرين وفساد سياسي واستغلال نفوذ وإهدار للمال العام .
لذلك فمن العجيب أن نرى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومن بعده الزعيم الخالد أنور السادات بصحبة العديد من رجال الفكر والعلم والأدب ، بخلاف الرئيس السابق مبارك الذي خلت من أجندته صحبة العلماء والمفكرين ، وجدنا فقط مجموعة من الوزراء من أصحاب القربى والنسب ورفقة الصبا وأحيانا ضئيلة من أصحاب الرأي الثاقب يلتفون حول الرئيس ويمشكلون جسراً عازلاً بينه وبين شعبه ، ويكفيك أن تعرف لغوياً أن كلمة الوزارة مشتقة من لفظة الوزر أي الشئ الثقيل.
ولكن في ظل ثلاثة عقود كاملة لم نجد وجوداً أو حضوراً لمنصب الوزير في عهد الرئيس المخلوع مبارك ، حيث اقتصرت مهام وظيفتهم على تنفيذ أوامره أو أوامر أسرته وربما حاشيته ، فوجدنا منفرداً بتسيير القوات المسلحة والداخلية والوزارات ذات الطبيعة السيادية حتى اختفت تماماً صلاحيات الوزير داخل وزارته .
ولسوء الحظ في بلادنا أن الوزير لم يكن سمع وبصر الحاكم فيما ينقله من نفثات محمومة بصدور المواطنين ، وبقي في مصر مثل له أكثر من ثلاثة أضلاع ؛ الحاكم الذي يرى أن بلاده تفتخر بوجوده حاكماً وزعيماً ورئيساً ، ووزير ينقل صورة مغلوطة له ، وبرلماناً يناقش قضاياً حاسمة لا محل لها من الإعراب ومواطنين يقفون على الشاطئ الآخر لا حول لهم ولا قوة . ورغم ما مر بالبلاد من فوضى استغلال السلطة على يد مبارك وحاشيته ، إلا أن المواطنين أدركوا خطأهم التاريخي لأول مرة ، وهو أنها غير قادرة على إصلاح نفسها بنفسها لأنها مصابة بداء العجز المستدام ، وأن الحاكم وحده هو القادر على القيام بعبء هذه المهمة ، واستطاعوا أن يتخلصوا نهائياً من فوبيا مفادها أن هلاك الحاكم هو هلاك لهم أيضاً ، بقاموا بثورة شعبية لم يصدقوا أنفسهم أنهم أسقطوا نظاماً سياسياً منيعاً ، ولكن بعد هذا السقوط للنظام ، هل يريد الشعب الآن إسقاط نفسه ، أم أنه ينهض ببطئ ؟!
06/11/2014
مصرنا ©
| | | |
| | | | |
|
|