غيتو قطاع غزة
...............................................................
عبد الباري عطوان
........................
ستدخل اسرائيل التاريخ من ابواب عديدة، ليس من بينها القيام علي حساب شعب فلسطيني اعزل، وقتل وتشريد ملايين من ابنائه فقط، وانما كأكبر غيتو من نوعه. فهي تحيط نفسها بجدران عازلة في كل الاتجاهات، احدها في الضفة الغربية علي طول الخط الاخضر، وثانيها في جنوب لبنان، حيث الاسلاك الشائكة المكهربة، وثالثها عند الحدود مع قطاع غزة، اما الرابع فقد اقره مجلس الوزراء الاسرائيلي علي الحدود مع مصر التي تمتد لاكثر من 250 كيلومترا، تحت ذريعة الخوف من تهريب اسلحة وصواريخ الي قطاع غزة اثناء اقتحام السور الحدودي مع مصر، يمكن ان تستخدم في هجمات فدائية في المستقبل القريب.
المشكلة ان ثقافة الغيتو هذه التي يتبناها قادة اسرائيل هذه الايام، لا يطبقونها علي انفسهم، باعتبارها حقا حصريا لهم، جاءت معهم من اوروبا، وانما علي الفلسطينيين ايضا، فكل مدينة او قرية فلسطينية تتحول حاليا الي غيتو مصغر، بسبب الحواجز التي يقيمها الجيش الاسرائيلي في مختلف انحاء الضفة الغربية.
ومن المفارقة ان هذه العقلية الاسرائيلية الرافضة للتعايش، المصرة علي سياسات العزل العنصري، تتمسك ببناء الاسوار الفاصلة في زمن ثبت فيه فشلها، ليس لاننا في عصر العولمة والانفتاح، وانما لان جميع الجدران انهارت، بما في ذلك سور برلين، وقبل ايام سور غزة، فمهما علت هذه الاسوار، لا يمكن ان تحمي الذين يقفون خلفها الي الابد، ومآلها الي الانهيار، وسور الصين العظيم خير شاهد علي هذه الحقيقة، ناهيك عن اسوار اخري عديدة انهارت مثل بيت العنكبوت امام الارادة الشعبية الكاسحة.
الحكومة المصرية، وباتفاق مع وفد من حركة حماس زارها بقيادة السيد خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي، اغلقت كل الثغرات في السور الحدودي مع قطاع غزة بضغط اسرائيلي ـ امريكي، وعاد اهل غزة الي الحصار الخانق مجددا، ودون التوصل الي اتفاق محدد حول الصورة التي سيكون عليها المعبر في الايام المقبلة.
التطور الايجابي الوحيد لهذه الخطوة المصرية بالمقارنة مع خطوات سابقة مماثلة، رغم الجوانب السلبية الكثيرة، يتمثل في ابقاء المعبر مفتوحا في اتجاه واحد، اي السماح للفلسطينيين الذين عبروا في فترة الاقتحام الكبير بالعودة الي ذويهم، ففي المرات السابقة كانت السلطات المصرية تمنع هؤلاء من العودة، وتبقيهم لاشهر، وفي بعض الاحيان لسنوات، في العراء يتسولون طعامهم وشرابهم، من اجل البقاء. وربما يفيد التذكير بان السلطات نفسها اقامت مخيمات لحجاج القطاع قرب العريش بعد ان قررت اغلاق المعبر فجأة، بعد زيارة ايهود باراك وزير الدفاع الاسرائيلي لشرم الشيخ ولقائه مع الرئيس مبارك، ولولا الوقفة الشجاعة للشعب المصري واعلامه المستقل، لما تم السماح لهم بالعودة من حيث اتوا وعبر معبر رفح.
الاعلام المصري الرسمي، هيأ لخطوة الاغلاق هذه بحملة تكريه مؤسفة للشعب الفلسطيني لدي اشقائه المصريين، من خلال تضخيم حوادث فردية بشكل مبالغ فيه، من قبل مجموعة من كتائب الردح السريع تذكر بحملة مماثلة، مارسها الاعلام نفسه ضد العرب والفلسطينيين قبل وبعد الانقلاب الشهير للرئيس المؤمن انور السادات تمهيدا لزيارته المشؤومة للقدس المحتلة وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد.
النقاط الأبرز التي ركز عليها هذا الاعلام وبعض اقلامه المسعورة في حملاته التحريضية ضد اشقاء محاصرين مجوعين، هي انتهاك الفلسطينيين لسيادة مصر، ورفع احدهم علما فلسطينيا فوق احدي المؤسسات المصرية الحكومية في العريش، واطلاق النار من قبل جماعة مندسة، علي رجال الامن المصريين واصابة بعضهم. فهل يعقل ان فلسطينيا يمكن ان يفكر باحتلال مصر وضمها الي قطاع غزة، وماذا لو كان هذا الشخص غير فلسطيني؟
اللاعب المصري محمد ابو تريكة تحول في ليلة وضحاها من بطل شعبي مصري وعربي ومسلم، عندما احتفل بهدف سجله في البطولة الافريقية الكروية باظهار قميص داخلي مكتوب عليه باللغتين العربية والانكليزية تضامنا مع غزة ، الي شخص خائن لبلده ووطنه في بعض الصحف المصرية الرسمية، فقد كان واجبا عليه ان يكتب تعاطفا مع السيادة المصرية .
لا نعرف اين انتهك ابناء قطاع غزة الجياع السيادة المصرية، وهم الذين اقتحموا الحدود بحثا عن لقمة الخبز، وعلبة حليب لأطفالهم، ودفعوا ثمن ما اشتروا مضاعفا ومن مالهم الخاص وبالعملة الصعبة، ولم ينهبوا متجرا، ولم يحرقوا سيارة، ولم يدخل اي منهم الارض المصرية بسلاحه.
وما يؤلم اكثر ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس شارك بعملية التحريض، عندما وصف ما حصل علي حدود القطاع بانه اجتياح للاراضي المصرية، وكأن الجوعي الفلسطينيين دخلوا الي رفح المصرية بالدبابات، مسنودين بالطائرات من طراز الشبح او اف ـ 16 تماما مثلما اجتاحت القوات العراقية الكويت، او الامريكية العراق. الرئيس عباس خانته لغته العربية مثلما خانته لغته السياسية، فالكراهية لحركة حماس شيء، والكراهية لشعب من المفروض هو رئيسه ويتحدث باسمه، شيء آخر مختلف تماما، والتفريق هنا فرض عين .
السلطات المصرية يجب ان تستوعب دروس الاسابيع القليلة الماضية علي حدودها مع القطاع، وابرزها عدم الرضوخ للضغوط الاسرائيلية ـ الامريكية وتحويل قطاع غزة الي غيتو لان النتائج الكارثية التي يمكن ان تتمخض عن مثل هذا العمل الاجرامي واللأنساني ستنعكس سلبا علي مصر اولا لان الشعب المصري لا يمكن ان يقبل بتكرار هذه المأساة. وكان الاكرم لهذه السلطات لو انها بادرت بفتح الحدود بقرار منها، لا ان تترك جوعي غزة لاقتحامها بالشكل الذي رأيناه. ولو تأخر هؤلاء يومين فقط، لبادر ابناء مصر الي فتحه بالقوة، ولشاهدنا ملايين من ابناء مصر الاحرار ينزلون الي الشوارع في مظاهرات غاضبة.
العلة بدأت في تل ابيب وواشنطن، عندما لم تعجب حكومتا البلدين نتائج الانتخابات الفلسطينية الحرة والنزيهة، فقررتا تركيع الشعب الفلسطيني، وترويضه من خلال الحصار، وعملتا في الوقت نفسه علي دعم كونترا فلسطينية لقلب حكومة الوحدة الوطنية، وعندما فشلت الخطتان استخدمتا سلاح التجويع الذي شاهدناه في غزة.
الصواريخ الفلسطينية مجرد ذريعة لفرض الحصار التجويعي. فلا صواريخ قسام او غيرها تطلق من الضفة الغربية، فلماذا الحصار ووجود اكثر من ستمائة حاجز مهين، والتوسع المسعور في الاستيطان، وعمليات الاقتحام المتواصلة في نابلس وجنين؟
لا احد يقر بالفوضي علي الحدود المصرية، او مع تكرار ما حدث من اقتحام للمعابر بالطريقة التي شاهدناها، ولكن لا احد يقر ايضا بسياسة التجويع وقطع الغذاء والدواء والكهرباء والوقود وتحويل قطاع غزة الي محرقة جديدة. نحن مع تنظيم المرور، وابقاء المعبر مفتوحا، ولتشرف عليه مصر بالكامل كمرحلة انتقالية ريثما يتم التوصل الي اتفاق نهائي.