| |
| |
المحروم !!
بقلم : أمير شفيق حسانين ......................
لم يكتب له القدر أن يتلقي قدراً قيماً من التعليم ، أو أن يحصد باعاً كريماً
من سنوات الدراسه ، فلذا لم يكتمل حُلم الصبي بأن يلتحق بالجامعة ، ليصبح - كما
تمني - موظفاً كبيراً ، وصاحب وجاهة إجتماعية مشرفة مثل أقرانه الذين أكملوا
تعليمهم الجامعي ، ولكن ذهبت الأمنيه الناقصه في مهب الريح العاصف بعد أن ترك
الفتي تعليمه الثانوي منذ العام الأول ، حتي دفعت به الظروف أن يصبح فلاحاً ،
يُشرف علي أملاكه الزراعية الواسعة ، التي ورثها عن والده ، الذي رحل ، وهو في
سن الرابعه .كان الصبي هو وحيد أُمه علي تسع من البنات ، معظمهن أخواتُ له من
الأب ، وقد تزوج بعضهُنَ ، و تربي - هو - وسط باقي أخواته الأبكار ، في كنف
والدته ، التي كانت تخاف عليه ، وتعتبره سندها ، حين تكبُر وتعتريها أوهان
الشيخوخة .
ومع رعاية الأم ، جاءت وصاية العم الثري ، علي الصبي القاصر وأخواته ، ليرعاهم
ويرعي مالهم وشئونهم ، وقد شاءت الظروف ، أن يتربي الصبي تحت سيطرة عمه ، الذي
كان قاسي المعامله ، جاف الطباع ، لا يعرف اللين ، فكان يقسو علي الصبي ، وكان
ينهره ، ولا يستخدم في معاملته إلا قليلاً من الرفق ، بل كان يغضب من الصبي
أكثر من فرحه به ، عندما إكتشف أن شخصية الصبي العدوانيه تتطبع بالمكر الدفين
والكُهن المديد ، والميل إلي حب النفس ، وعدم حب الخير للآخرين !!
تمر الأيام ليصبح الصبي شاباً ، ثم يتحرر من وصايه عمه الحازمه ، وتمر السنوات
تِباعاً ، فيتزوج ، وبعدها تتجدد لحظات الحسرة وخيبة الأمل ، وتملئان قلب
الفلاح المزارع ، كلما تذكر دوافع تسربه من التعليم ، وضياع أمله ، ثم كانت
تتراكم أحزانه وتتوهج ، وتبدو وكأنها نار موقده تكاد تحرق عظام صدره ، عندما
يغادر بحور شروده ، عائداً للواقع الأليم ، ليجد نفسه ، مجرد فلاح ، يرتدي
الصديري وفوقه الجلباب البلدي ، واضعاً الطاقيه الصوف فوق رأسه ، ممتطياً ظهر
حماره ، ساحباً بالبهائم إلي حيث عمله بالحقل . كان الرجل - رغم ثراؤه - يراقب
أصحاب الهيئه السوية والمظهر الأنيق ، من زملائه القدامي بالمدرسه ، والذين
تخرجوا في الجامعه ، وكم كان يتنهد عندما يراهم يرتدون الملابس الأفرنجي ،
والبِدل الكامله ، بعدما تقلدوا المناصب الحيوية، حتي صار منهم المديرون العموم
، ووكلاء الوزارات ، وأيضاً كبار الأطباء والمهندسون ، وكانت تتوسع دائرة
الحسره وينفجر بركان الندم في نفس هذا المزارع ، عندما يري الناس تُحيي هؤلاء
الوجهاء المتعلمين ، بقدر واسع من الهيبه والإحترام ، وتناديهم بلقب الأستاذ
فلان أو حضرة المدير عِلان ، أما هو فلا يقال له إلا يا " حاج فلان " ، لأنه لم
يحصل علي أي شهادات عليا ، ونحن في مجتمع صارم العادات ، ولا تقبل أعرافه -
أبداً - أن يُنادَي أو يُلقب فلاح بالمجتمع المصري بلقب " أستاذ
" !!!لم يكن يقتنع الرجل - خائب الرجاء - بأن كل إنسان ، له نصيبه القدري ،
بإرادة العليم الخبير، ولم يكن ينظر هذا التعيس بعين الإيمان والرضا ، حتي يري
أن الله قد عوَضه بالمال الوفير والكثير من الأولاد ، ورزق أبنائه وبناته
بالزيجات الصالحه ، ورزقه - هو - بالأحفاد ، وبارك له في صحته ، إلا أنه كان
يغمض عينيه عن أغلي النعم الربانيه ، ويشغل البال بمن تعلموا وترقوا وإرتقوا في
المناصب ، مع أن معظم هؤلاء الأشخاص ، قد تخطوا سن الستين وتقاعدوا ، وتركوا
كافة مناصبهم ، ومنهم من إنشغل بآلام المرض وسعي لمداواته ، ومنهم من رحل عن
الدنيا بمتاعها القليل ، ومع ذلك فكان شبح الحرمان من التعليم ، يستخدم قواه
الخارقه ليهاجم عقل وفكر الفلاح المسكين في نومه وفي يقظته ، حتي أن الرجل لم
يكن يهدأ هوناً ما ، إلا بإشعال السيجاره ومن ورائها الأخري ، لينفخ مع دخانها
الأسود ، هموماً صنعها له شيطانه المارد .
كان الرجل ينساق وراء جهله الأعرج ، ويطاوع سوءة نفسه الماكره ، ويستخدم مخالب
عناده ، الملطخه بالدهاء ، ويجيد التلون بالكلام الناعم الذي يخالف أفعاله
وتعاملاته مع الناس ، حتي ضجَت الناس منه ، وعرفوا بأن في قلبه مرض وشقاء
لايُرجي شفاؤهما ، ثم ازدات زلات الرجل عندما أصبح نماماً ينقل الكلام بين
الناس ، فكان يجلس مع هؤلاء ، ليعرف أسرارهم ، ثم يجلس مع غيرهم ليعرف أخبارهم
، ثم يهرول بنقل الأسرار والأخبار بين الجماعتين ، ليحدث الوقيعة والعداوة
بينهما ، حتي صار الرجل منبوذاً أينما حلَ وكان !!
لم يعتبر الرجل من الشيبه التي طالته ، أو الشعر الأبيض الذي كسي رأسه وغطي
شاربه ، أو حتي الانحناء الذي أصاب ظهره ، وبدي ظاهراً أثناء جلوسه في الصلاه ،
وقد قارب علي السبعين عاماً ، وصار علي مشارف الآخره . كان الرجل يجلس في شُرفة
بيته ليتتبع بالنظرات - المطَعمه بالحقد والغيره - كل وجيهٍ وذي مقامٍ ومنصب ،
ولم تكن ترتاح سريرته الشيطانيه ، أو يجد طمأنينه زائفة إلا بملازمة المشتغلين
بعيوب ومساوئ الغير، وكنت تجده ومن معه ، وهم يجلسون جماعات ، فوق تل من التراب
في الطريق ، وأحياناً تشاهدهم مستلقون علي جنوبهم ، ينظرون للمارين هنا وهناك ،
غير معتبرين لحق الطريق ، وما له من حرمات .
كنت تتعجب وتدعوك الدهشه ، للنظر في حال هذا الفلاح الذي يحرص أن يفسح للغرباء
في المجالس ، بل كان ينتفض واقفاً إحتراماً لهم ، أما الأقربون له قرابة الدم ،
فكان يستهون في معاملاتهم ، ويعدهم في نفسه ، من بين أصحاب الشأن الهين ،
والمقام القليل ، فلم يكن يبالي بخصومته إياهم واحداً وراء الآخر ، ولم يكن
يستدعي شيئاً من الحياء أو يحفظ بضعاً من المعروف عندما يسئ إلي جيرانه ، ويسعي
لضررهم ، إرضاءً لهواجس عقله الذي أوشك أن يفقده .وها هو حضرة الفلاح الثري ،
لا يزال يعاني أوجاعاً نفسيه ، ويسترجي ألقاباً ومناصب فانيه ، ظاناً بأنه خسِر
كل شيئ طالما لم يتعلم .. ولعله يهتدي ، ويصنع من التقي ثياباً تزينه ، ويهرول
بإصلاح ذات البين ، ثم يشغل القلب واللسان بالباقيات الصالحات التي هي خير
ثواباً وأملاً في دار المستقر!!
amirshafik85@yahoo.com
02/26/2016
مصرنا ©
| |
| |
| |
| |
|
|
|