في المسألة المصرية : ناقوس الخطر بين طنطا والعمرانية
| |
ناقوس الخطر | |
د. محمود ابو الوفا
.....................
بين الفينة والاخري تدهمنا احداث تزلزل الشارع المصري , لكن سرعان ما تنقضي مخلفه وراءها جروح غائره علي المستوي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعقائدي وبالتالي السلوكي , وغالبا ما يتم التعامل مع هذه الاحداث علي انها سحابة صيف انقشعت سريعا ولم تترك اثرا يذكر, ولااعتقد ان احدا حاول ان يتدبر هذه الاحداث وينظر بعين متفحصه ليتجاوز الاعراض وينفذ الي حقيقة الداء , والاحداث في واقعنا المصري كثيره ومتواليه , لكنني سأقتصر في هذا المقال علي دراسة ظاهره واحده من وسط كثير من المظاهر التي تمر بنا كل حين , والظاهره التي نتناولها اليوم هي ظاهره يمكن ان نسميها " ضد القانون" او سمها ان شئت " ضد الحكومه" باعتبارها الجهه الوحيده المنفذه للقانون , وهي المسلمه الاولي التي تجمع بين الحدثين محل تناولنا , وهما احداث المحامين بطنطا واحداث المسيحيين بالعمرانيه , والرابط الرئيسي الذي يربط بين الحداثتين هو ان مجموعه مهنيه 'المحامين' ومجموعه عقائديه'المسيحيين' في مواجهه مع جهتين مسئولتين , المحامين ضد احد موظفي النيابه العامه , والمسيحيين ضد موظفي الحي , وبطبيعة الحال فأن الخلاف وارد بين اشخاص ينتمون الي مجموعه مهنيه او طائفه عقائديه او قبليه او طبقه اجتماعيه او احزاب سياسيه مع احد الموظفين العموميين بالدوله , ليس في مصر فقط بل في كل دول العالم , لكن اللافت للانتباه في هذه القضيه ملاحظتين: اولاهما التكتل من جانب اعضاء الطائفتين وتوافدهم الي مكان الحدث في سرعه عجيبه , والثانيه الدخول في هجوم مباشر واعتداء سافر علي الجهه الحكوميه التي يمثلها الموظف العمومي المختلف معه , وهذا الوضع قد كان له ما يبرره في الحياه القبليه التي لم تعرف ما يسمي بالقانون كما قال شاعرهم :
لايسألون اخاهم حين يندبهم في النائبات علي ما قال برهان
وحين نعمد الي التحليل لمثل هذه الاحداث لابد ان نعترف بأن هذه هي الاعراض وليس المرض او الداء , والذي يجب ان نقرره قبل ان نبدأ اننا لانشك في وطنية ولااخلاص اي من الطوائف المكونه لنسيج المجتمع المصري , فالطائفه الاولي تضم اناس لايشك في عقلانيتهم ولا معرفتهم بالقانون ولااهمية دورهم وخطورته في المجتمع , والطائفه الثانيه تضم رؤساء لديهم المعرفه الكبيره بالعلم الديني وتعاليم وسماحة الدين وهم بلا شك يستطيعون السيطره التامه علي مشاعروتصرفات شعب الكنيسه , ولذلك وفي ظل المعطيات السابقه يثور سؤال نعتقد انه المفتاح للتشخيص السليم للداء , الا وهو لماذا افلت الزمام هنا وانحل الرابط وانقطع الحبل هناك ؟ .
انني اعتقد ان هناك كثير من الاسباب والتي يجب ان تنتبه اليها الدوله وينتبه اليه العاملون في مجال العمل المجتمعي وتنتبه اليها الاسر والمدارس والجامعات , فمما لاشك فيه ان ما يحدث هو مسئوليتنا جميعا حكومة وشعبا , حيث يبدو الامر لي علي انه محاوله للانتحار من جانب بعض او كل طوائف المجتمع , مرجعه الي فقدان الثقه في الاخر وفقدان الثقه في مؤسسات الدوله واليات عملها , فالمحامين في طنطا اعلنوا في بيانهم ان النيابه انحازت لعضو مهنتهم رئيس النيابه , واعلن مسيحي العمرانيه ان الحي يريد تعطيل او الغاء التصريح الصادر لهم من قبل , ونحن هنا لسنا في معرض التحقيق في الوقائع , فذلك محله القضاء , ولكننا بصدد دراسة ظاهره مجتمعيه خطيره.
ودليلي علي فقدان الثقه في الاخر وفقدان الثقه في مؤسسات الدوله ان اول ما عمد اليه المنتسبين الي الطائفتين هو احراق واتلاف مقدراتهم وممتلكاتهم , حيث ان المرافق العامه وطبقا للماده 25 من الدستور ملكا للشعب , والطائفتان من الشعب لهما حقوقهما الكامله و المصونه في المرافق العامه 'مبني محكمه طنطا ومبني محافظة الجيزه ' , ويذكرني هذا بموقف الابن الذي اختلاف مع اخوانه فذهب يتلف ويحرق ممتلكات والده والتي هي في الاساس ينتفع بها هو نفسه في حياة والده وستصير ملكا له ولاخوانه بعد وفاة والده .
ان ثقافة الشعب في المجتمعات المتقدمه قد بنيت علي كثير من الافكار التي تغلغلت في وعي وعقل المواطن , حتي أصبح الحارس الامين علي مقدراته العامه , فلا تراه يقدم علي مثل هذه التصرفات المهلكه للمجتمع والتي تستنفذ طاقاته ومقدراته , حيث يفترض في الانسان الرشد نحو ما ينفعه ويضره , ويسعني في معرض مناقشة هذه الاحداث ان اذكر بان مفهوم الحقوق العامه في اذهان الكثير من المصريين في الاتجاه الخاطيء , وانني اعتقد انه من اهم اسباب هذا الداء الذي نحن بصدده , هو هذا المفهوم الغير صحيح بأن البلد والمكتسبات والمقدرات ملكا للحكومه , و لذلك عند اول اختلاف مع الجهاز التنفيذي للدوله نسعي كشعب او طائفه من طوائفه باستخدام العنف ضد الحكومه , فنتلف ما نعتقد انه ملكا لها لكي نوجعها ونجعلها تتألم , وتتوب علي ما فعلت وتراجع نفسها الف مره قبل ان تقدم علي تصرف يزعجنا !!! وماندري اننا نؤذي انفسنا , وان الحكومه لا تقدم لنا شيء من مال ابيها ولامال امها , وانما هي تدير مكتسبات الشعب ونتاج جهده وعمله , وتتقاضي اجورها من جيب هذا الشعب .
اننا نحتاج الي تعديل كثير من الافكار التي تسيطر علي النسبه الغالبه من افراد وطوائف الشعب المصري , وهذه مسئوليه جسيمه ملقاه علي عاتق المثقفين وعلماء الدين ورجال السياسه , وكذلك يحتاج الجهاز التنفيذي بالدوله الي مراجعة الكثير من الاجراءات والتعليمات واللوائح في العمل الحكومي التي تشعر المواطن بالقهر , كما ان هناك حاجه الي كثير من الرقابه علي اعمال وتصرفات حفنة من الموظفين العموميين الذين يعتقدون انهم قد ملكوا رقاب العباد , وراحوا يستمدون قوة لجبروتهم ونفوسهم المريضه من خلال مناصبهم الرسميه , متدثرين بعباءة القانون , فيجب ان يردوا الي جادة الصواب , ليشعر المواطن بأنه يعامل بعداله من جانب الموظفين العموميين .
افيقوا ايها الساده وعدلوا مفاهيمكم نحو الاخر ونحو الدوله ونحو حقوقكم العامه والخاصه واعلموا ان هناك قانون يجب ان يطبق وعلينا ان نتبعه , واعلموا انه ما ضاع حق وراءه مطالب , وان كنتم تفتقدون حقوق سلبت منكم فاعملوا باخلاص وجد لانتزاعها ممن سلبها منكم , من خلال مؤسسات المجتمع المدني ومن خلال الطرق التي قررها القانون , لا بتحويل البلد الي ساحة حرب نحن جميعا خاسرون فيها , واعلموا انكم في بلد مازال القضاء به علي كلمة سواء .
وللاوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق
لنطلقها حمله نحو سلام اجتماعي بين الشعب والجهاز التنفيذي للدوله تعيد الثقه المفقوده الي طوائف الشعب , يعرف فيها المواطن حقوقه ويعرف الجهاز التنفيذي للدوله والعاملين به حدودهم , كالحمله التي قادتها وزارة الماليه مع صدور القانون 91 لسنة 2005 والتي اعادت كثيرمن جذوز الثقه بين المواطن واحد الاجهزه التنفيذيه للدوله , والتي – وللاسف - بدأت تتراجع مرة اخري رويدا رويدا , بسبب تصرفات بعض الحمقي من صغار موظفي الجهاز التنفيذي للدوله.
* خبير بالمنظمه العربيه للتنميه الادارية*