| | | | أيها المجتمع المدنى الكسيح ...............................................................
بقلم : سعد هجرس ........................
على غرار شعار "الاسلام هو الحل" .. أصبحنا ننام ونصحو على شعار "المجتمع المدنى هو الحل" .. والعجيب أن هذا الشعار الاخير لا تبشرنا به الحكومة فقط، وإنما تنافسها المعارضة فى أحقية ملكيته الفكرية. ومع الانتشار الواسع لهذا المصطلح أصبحنا نتعاطى تعريفات مختلفة ومتعددة له حتى نكاد نشعر بأننا نتحدث عن أشياء مختلفة جداً رغم أنها تحمل نفس الاسم، ورغم أنها – على اختلافها- تزعم كلها أنها هى "الحل" لمشاكلنا المزمنة والمتفاقمة، مثلها مثل "شربة الحاج محمود" ذات الصيت الشائع فى الثقافة الشعبية المصرية والتى يزعم المروجون لها أنها قادرة على الشفاء من كل الامراض. فهل صحيح أن المجتمع المدنى هو الحل بعد سنوات عجاف عجزت فيها الحكومة عن وقف التدهور العام الذى شمل كلاً من السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، كما شمل الاقتصاد مثلما شمل السياسة، وترك بصماته على القضايا الاجتماعية الاساسية كما ترك بصماته على الخطاب الثقافى السائد؟! محاولة الإجابة عن هذا السؤال الملح تقتضى – أولاً – تحديد المقصود بـ "المجتمع المدنى" خاصة وأن هذا المصطلح من المصطلحات التاريخية التى تعرضت إلى تغيرات كثيرة على مر العصور. فهو مصطلح أوروبى الاصل والفصل كان أول ظهور له خلال النصف الثانى للقرن الثامن عشر، مواكباً تحول بلدان غرب أوروبا من الاستبداد والاقطاع الى الديمقراطية البرجوازية. ثم اختفى هذا المصطلح "الجديد" منذ النصف الثانى للقرن التاسع عشر ولم يظهر من جديد الا بعد الحرب العالمية الاولى ، لكنه ظهر هذه المرة فى سياق مختلف وعلى يد مفكر "يسارى" هو جرامشى. ولذلك نجد أن الفلاسفة والمفكرين الاوروبيين قد اختلفت تقييماتهم لهذه الظاهرة التى حملت عنوان "المجتمع المدنى" فى سياقات وقرون مختلفة . ومشكلة مفهوم المجتمع المدنى – كما وضع يده عليها الباحث المغربى المتخصص فى سوسيولوجيا المجتمع المدنى الدكتور محمد الغيلانى- هى "ميوعته" وانتشاره فى كل الاتجاهات، لينحت لذاته وجوداً ما تارة، أو ليفُرض عنوة تارة أخرى، بحيث أصبح اصطلاحاً متداولاً فى الجدل الذى تخوض فيه النخب التى تنتمى الى مجالات وقطاعات مختلفة : فى المعرفة ، والسياسة ، والاقتصاد. والعجيب أيضاً انه من الاصطلاحات الحديثة "المستوردة" من الغرب ، لكن التى تلقى ترحيباً فى القاموس الذى تتداوله التيارات الدينية (التى عادة ما تعرب عن نفورها من أى أفكار او مصطلحات غربية) . فلا وجود لرجل دولة أو رجل دين الا واستخدم ، أو استغل ، هذا المفهوم. بل إن فئات وهيئات عريضة من قطاعات المجتمع المدنى تتبارى فى السعى للحصول على صفة العضوية فى تنظيمات المجتمع المدنى ، لأن هذه الصفة تعد مصدراً من مصادر الشرعية: شرعية وجودية ، شرعية حداثية. وهذا ينقلنا الى نقطة مهمة ، هى انه مهما تعددت التعريفات للمجتمع المدنى فإنه مرتبط ارتباطاً شرطياً بفكرة الحداثة. بمعنى أنه لا يمكن ان يوجد دون وجود دولة حديثة. وإذا ظهر فى دولة تقليدية قائمة على علاقات عشائرية أو قبلية أو غيرها من العلاقات السابقة على الرأسمالية فإنما يكون "مسخاً " مشوها. وهذه مسألة بالغة الاهمية رصدها المفكر المعروف د. عبد الاله بلقزيز الذى اكتشف جذرها فى الخلط بين "المجتمع المدنى" و "المجتمع الاهلى" اعتقاداً بأن جوهر المجتمع المدنى هو استقلالية مؤسساته عن الدولة. صحيح أنها قد تكون مستقلة عن الدولة لكنها تابعة لطائفة دينية أو عرقية أو عشائرية. هذه التبعية تفرغ مفهوم المجتمع المدنى من مضمونه لأن العلاقة الناظمة للمجتمع المدنى الحديث ومؤسساته هى المواطنة والتمثيل الوطنى لا الانتساب الى عصبية مذهبية أو فئوية، وهذا هو الغالب على مؤسسات "المجتمع المدنى" فى البلاد العربية. لأن المفترض فيها أنها مؤسسات "حديثة" لكنها مغروسة ومزروعة فى تربة تقليدية ومتخلفة. هذه المفارقة كانت محور مداخلة كاتب هذه السطور فى المؤتمر السنوى الثالث والاربعين لجماعة الادارة العليا الذى عقد يوم الخميس الماضى بالاسكندرية، الذى تشرفت بالمشاركة والحديث فى جلسته الاولى، والذى تواصلت جلساته الغنية للبحث فى واقع ومستقبل المجتمع المدنى فى مصر. هذه المفارقة لها أسباب متعددة، من بينها ان فكرة المجتمع المدنى ذاتها نشأت فى الغرب كما أشرنا من قبل، ولم تصل إلينا الا فى فترة متأخرة جداً، وفى ظروف مغايرة لظروف البلدان الاوروبية بطبيعة الحال. والاهم من ذلك أن الواقع المصرى لم يعرف شيئا اسمه الملكية الخاصة للارض الزراعية على امتداد آلاف السنين، ولم تعرف مصر هذه الملكية الخاصة الا مع صدور اللائحة السعيدية ، اى فى عصر سعيد باشا، وهى فترة قريبة جداً بالنسبة لبلد يعود تاريخه المكتوب الى اكثر من سبعة الاف عام . وغياب الملكية الخاصة معناه – فيما يخص موضوعنا – غياب الاساس الموضوعى لنشأة المجتمع المدنى على النحو الذى شاهدنا تجلياته المتعددة فى الغرب الاوروبى . لأن الارض وما عليها ومن عليها مملوكة للحاكم. وحتى بعد اللائحة السعيدية فان ظهور بوادر هذا المجتمع المدنى جاء موسوما ببصمات الاجانب المستعمرين من ناحية ونخبة حاكمة مستبدة من ناحية أخرى، تنظر الى المصريين – حتى من عليه القوم- على أنهم "عبيد احسانهم"!! اى ان الوجه الاول لهذا المجتمع المدنى المصرى جاء وجها مشوها وممسوخاً، ومع ذلك فان التطور الاقتصادى والاجتماعى المواكب لتطور الحركة الوطنية وتطلعها الى انتزاع الاستقلال الوطنى ساهم فى ظهور وجه "وطنى" لهذا المجتمع المدنى الهش. وهذا الوجه الوطنى هو الذى لعب دوراً بالغ الاهمية فيما بعد فى تحديث مصر من خلال مبادرات أهلية رائعة فى مقدمتها إنشاء الجامعة الاهلية التى اصبحت جامعة القاهرة بعد ذلك، وحركة التأليف والترجمة والإبداع الفكرى والفنى، وتيار النهضة الاقتصادية الذى قاده طلعت باشا حرب وأرسى من خلاله مؤسسات اهلية لعبت دوراً رائداً فى مجالات عديدة. لكن هذه الصحوة الوطنية لمؤسسات المجتمع المدنى، أو فلنقل مؤسسات المجتمع الاهلى تحرياً لمزيد من الدقة، كانت قصيرة العمر، لأنها سرعان ما اختنقت، حيث جرى تأميم العمل الاهلى مع تأميم الاقتصاد بعد ثورة 23 يوليو 1952، وتم اختزال المجتمع المدنى فى أعمال خيرية محدودة الاثر. وبدأت عودة الروح الى المجتمع المدنى المصرى فى الحقبة الساداتية ، بالتوازى مع انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادى. لكن حدث لهذا المجتمع المدنى ما حدث للانفتاح الساداتى الذى تحول الى "سداح مداح" حسب التعبير الشهير لأستاذنا أحمد بهاء الدين. وبالمثل افتقر المجتمع المدنى – فى طبعته الجديدة – إلى المؤسساتية، كما ورث جرثومة الاعتماد على الخارج فى ظل سياسة إدمان المعونات الخارجية. ورغم أنه لا يجدر تعميم الاحكام، لأن هناك مؤسسات من مؤسسات المجتمع المدنى تقوم الآن بمبادرات تستحق التقدير وتذكرنا بمبادرات الجمعيات الاهلية المحترمة فى فترة التنوير المشار اليها، فإن الكثير من الجمعيات الحالية يعانى من أمراض قاتلة ، أشار الدكتور زكريا جاد رئيس جماعة الادارة العليا فى كلمته التى ألقاها نيابة عنه المهندس محمد عبد الكريم نائب رئيس الجماعة، الى الكثير منها، مثل أن بعض الهيئات الاهلية التى تقوم على التطوع والتبرع قد انقلبت إلى ميادين للوجاهة الاجتماعية، بينما الجاد منها يواجه مشكلات خطيرة. ففى سياق التشويه الذى نرى مظاهره المتعددة جرى اختزال المجتمع المدنى فى العمل الاهلى والجمعيات الاهلية، بينما القلب النابض للمجتمع المدنى فى اى دولة حديثة هو الأحزاب والنقابات. وما نراه حاليا هو أن لدينا قانوناً للاحزاب يضع شروطا شديدة وغريبة على النشاط الحزبى ابتداء من الترخيص للحزب إلى ممارسة نشاطه الجماهيرى، فضلا عن طريق شق الصف واختلاق معارك داخلية بأحزاب المعارضة جعلت عددا ليس قليلا من الاحزاب تعيش خلافات شرسة بين فرقها المختلفة. فاذا انتقلنا الى النقابات – والكلام مازال للدكتور زكريا جاد شفاه الله من الوعكة الصحية التى ألمت به- نجد إنها مغلقة بالضبة والمفتاح بوضعها تحت الحراسة أو عدم دعوة جمعياتها العمومية لإجراء الإنتخابات مما وضع عددا غير قليل من النقابات فى الثلاجة ويمضى رئيس جماعة الادارة العليا ليلاحظ أن الجمعيات الاهلية – بعد هذا كله- تعمل تحت سيف قانون يمنح الوزير المسئول حق المصادرة أو الاغلاق أو الإلغاء لها من الوجود. ولا تكتفى الحكومة بهذا القانون الذى تضيق بسببه الصدور، بل هى بصدد إصدار قانون جديد وتجاربنا مع القوانين الحديدة والمعدلة – وفقا لما يقوله الدكتور زكريا جاد – " تزيد الهم على الهم.. حيث تبالغ فى وضع مزيد من القيود". فهل يمكن فى مثل هذه الملابسات والقيود أن نضع رهاناتنا على "المجتمع المدنى" الذى ولد ولادة قيصرية، وعانى من امراض وراثية مزمنة، اضيفت اليها قيود حكومية فظة وثقيلة رغم الحديث الذى لايتوقف عن "الحرية "الاقتصادية و"الشراكة" بين الحكومة والمجتمع المدنى فى خطط التنمية وغير ذلك من خرافات؟ اضف الى ذلك ان القطاعات المحترمة، والمناضلة، من المجتمع المدنى لا تعانى فقط مما سبق، وإنما هى أصبحت محاصرة بين مطرقة الوصاية الحكومية من الداخل وسندان الاختراق عن طريق سلاح التمويل وأعاصير العولمة المتوحشة التى تهب من الخارج. فى ظل هذه المحددات الكئيبة ، داخلياً وخارجياً ، تظل الرهانات على المجتمع المدنى مشروطة بأن يكون جزءاً لا يتجزأ من عملية تحديث كاملة وشاملة للمجتمع والدولة. فليست العبرة – كما رأينا- بدرجة تزيد أو تقل من "استقلال" المجتمع المدنى عن الدولة ، لأن هذا " الاستقلال" يمكن أن يكون مجرد إضعاف لدولة ضعيفة سلفاً، أو ذريعة لتخلى الدولة عن جزء أساسى من وظائفها ومسئولياتها الاجتماعية والاقتصادية، وإنما العبرة بأن تكون العلاقة الناظمة للمجتمع المدنى الحديث ومؤسساته- كما قال الدكتور بلقزيز- " هى المواطنة والتمثيل الوطنى لا الانتساب إلى عصبية مذهبية او فئوية ، وهذا- للأسف – هو الغالب على مؤسسات المجتمع المدنى فى البلاد العربية" . باختصار.. التعويل على شكل مبتذل من أشكال المجتمع المدنى، بعد اختزال هذا المفهوم الى صورة مشوهة من الجمعيات الأهلية والخيرية التى تربطها علاقات ذيلية وطفيلية بالحكومة ، لا يؤدى إلى شئ أكثر من "عشم ابليس فى الجنة" .
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|