مستقبل مصر مع قرب تلاشي النظام الجمهوري!
...............................................................
بقلم : محمد عبد الحكم دياب
............................
للتاريخ أبواب متعددة يلج منها الشخص العام إلي دخول ساحته، أي ساحة التاريخ. وتتعدد الأبواب بتعدد مجالات الحياة، فأبواب الثقافة والفكر والعلوم والفنون والآداب، تفتح أمام المبدعين والمتميزين في هذه المجالات، وهكذا الاقتصاد والعمل العسكري والتاريخ، وتدخل السياسة، في نطاقها العلمي والأكاديمي ضمن هذه المجالات.
أما ميدانها العملي، بمعني ممارسة الحكم، له بابان لدخول التاريخ لا ثالث لهما. أولهما يمكن تسميته بباب السلامة، بمعني سلامة الموقف وصلاح العمل. أما الآخر، فهو باب الندامة، أي العجز عن أداء الدور مع قدرة علي إفساد الفعل. من دخل من باب السلامة كُثُر، والأكثر هم من اختاروا باب الندامة. الباب الأول يفتح طريق البناء والنهوض والتقدم، ويحقق المد والمجد. والثاني مدخله يؤدي إلي دروب الهدم والنكوص والتخلف والانحطاط. ومن بين من دخل من الباب الأول، علي المستوي السياسي المصري، علي سبيل المثال لا الحصر، كان أحمد عرابي، ومصطفي كامل، ومحمد فريد، وجمال عبد الناصر. ومن تخطوا عتبات الباب الثاني، كانوا علي شاكلة الخديوي توفيق، والملك فؤاد الأول، وأنور السادات، وينضم لهم حسني مبارك، وهذا أيضا علي سبيل المثال لا الحصر. وتوزعت المعايير التي تحدد اختيار هذه الأبواب، بين معايير وطنية وقومية وإنسانية، وسعي لتحقيق الاستقلال، وإقرار قواعد المساواة والعدل، بمعناه الشامل، السياسي والاجتماعي والقانوني والإنساني، ومعايير أخري معاكسة ومتضادة مع السابقة، وكان التزام حسني مبارك بالمعايير المعاكسة والمتضادة، علي مدي سنوات حكمه، هو مصدرنا في الحكم علي سلوكه وتصرفاته وإجراءاته وقراراته. وكلها صبت في تقويض النظام الجمهوري، وضربه في مقتل، حتي أوشك علي الاختفاء. وهذا أدخله التاريخ من باب الندامة.
الجمهورية خرجت، فكرة فلسفية، من نتاج العقل اليوناني، حين سعي فلاسفة اليونان في البحث عن طريق رشيد للحكم والإدارة السياسية، وبدأت مثالية، مما حدا بأفلاطون إلي إسناد مسؤولية الحكم فيها للفلاسفة، ويبدو أن فيلسوف اليونان العظيم كان شديد التفاؤل، ولم يكن يعلم أن الزمن سيأتي بحكام من طراز خاص. يلقون بالأفكار العظيمة والإبداعات المتوهجة علي قارعة الطرق، تدوسها نعال الجهلة والمستبدين. وبني إفلاطون تصوره ومشروعه علي أن تعبير الحكم مشتق من الحكمة، ولأن الفلاسفة هم أرباب الحكمة، فيجب أن يوكل الحكم لهم، ولم يكن قد اكتشف بعد أن الحكم مشتق من التحكم، بمعني السيطرة والهيمنة والاستعباد. واستمرت فكرة الجمهورية حلما، حتي جاء من حولها إلي حقيقة، وترجمها إلي نظام يمكن تطبيقه. سعت إلي ذلك الثورة الفرنسية حين وجدت في النظام الجمهوري ترجمة لشعاراتها في العدل والإخاء والمساواة. واتخذته أداة للتخلص من الحكم الوراثي، الملكي والإقطاعي، وظهرت الجمهورية كصيغة متقدمة للحكم. وعلي مدي قرون وعقود وهي بين مد وجزر. والجمهورية لم تعلن فور اندلاع الثورة الفرنسية، في 14 تموز (يوليو) 1789، لأنها جنحت نحو الملكية الدستورية، وأُعلنت الجمهورية في أيلول (ايلول) 1792، وعرفت بالجمهورية الأولي، وفي العام التالي لإعلانها أعدم الملك لويس السادس عشر، بتهمة التجسس، ولم تمر سوي سنوات قليلة حتي انفرد نابليون بونابرت بالسلطة، وأعاد الحكم المطلق، وتربع علي عرش فرنسا، إمبراطورا مدي الحياة.
ولم يسر تطور النظام الجمهوري في خط مستقيم، وكان سيره متعرجا، بين صعود وهبوط، وعادت الجمهورية، مرة أخري، باسم الجمهورية الثانية 1848، وانتخب لويس نابليون بونابرت رئيسًا لها، إلا أنه انقلب عليها، كما فعل عمه، سعيا وراء الانفراد بالسلطة، وحكم باسم الإمبراطور نابليون الثالث، وفي عصره اكتمل حفر قناة السويس، وحضر افتتاحها مع زوجته الامبراطورة أوجيني، إلي أن سقطت في 1870، إثر هزيمته أمام بروسيا ووقوعه في الأسر لديها. ثم أعلنت الجمهورية للمرة الثالثة في 1875، وهي الأطول عمرا، فقد استمرت حتي الحرب العالمية الثانية، وسقطت، مع سقوط باريس، تحت الاحتلال النازي، وخضوعها لحكمه العسكري، وعندما تحررت في 1944 قامت فيها حكومة مؤقتة تبعها قيام الجمهورية الرابعة، في تشرين الاول (أكتوبر) 1946. ودخلت تلك الجمهورية مأزقها بعد العدوان الثلاثي، البريطاني الفرنسي الصهيوني علي مصر، ومع توالي انتصارات ثورة الجزائر، وقتها عجزت الجمهورية الرابعة عن التعامل مع الوضع الجزائري، وفي محاولة أخيرة، من ديغول، للحفاظ عليها قام بتشكيل حكومة إنقاذ، فشلت ولفظت أنفاسها بسرعة. وأقام الجمهورية الخامسة 1958، بدستور جديد تعامل مع المستجدات، التي طرأت علي أوروبا والعالم، من جراء تنامي دور حركات التحرر الوطني، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتحت راياتها تحررت الجزائر، ورحلت قوات الاحتلال الفرنسية عن العديد من المستعمرات.
كان من المهم تلخيص سير التطور الجمهوري الفرنسي، لما للثقافة السياسية والقانونية الفرنسية من تأثير علي النظام السياسي المصري، منذ الحملة الفرنسية، وما تبعها من تنصيب محمد علي واليا علي مصر، وتوجهه نحو فرنسا. طلبا للعون والتأهيل في مجالات العلوم والفنون والثقافة والسياسة والصناعة والزراعة والشأن العسكري، وبسبب ذلك التوجه تأثر التطور السياسي المصري بالصراعات الأوروبية. خاصة بعدما عمت مشاعر الخطر من الثورة الفرنسية، ومن نظامها الجمهوري الجديد، الذي أخذ يهدد ممالك وامبراطوريات أوروبا. وولدت فكرة التوريث من رحم هذا الصراع، فحين اتحدت أوروبا ضد محمد علي، الوالي العثماني، ذي الهوي الفرنسي. كان التوريث ورقة لعب بها أباطرة أوروبا ليصبح حكم مصر له ولأولاده، وكان جزءا من صفقة صيغت علي أساسها شروط معاهدة 1840، وكان أهمها الانكفاء الداخلي، وحصر مصر داخل حدودها، وتصفية الجيش، وعدم التطلع نحو الشرق، وألا تمد مصر بصرها عبر سيناء، وتعويض ذلك بالسماح لها بالتوجه صوب الجنوب، واستغلالها كمعبر لاحتلال السودان والوصول إلي منابع النيل، وعمق أفريقيا، وكان المشروع الأول للسكك الحديدية المصرية، الذي وضع إبان عصر محمد علي، وبدأ تنفيذه في زمن ابنه سعيد، كان مقررا له أن يمتد من الإسكندرية حتي مدينة الكاب، في جنوب افريقيا، لكن حين وصل الخط الحديدي إلي حلفا، علي الحدود المصرية السودانية، كان الاحتلال البريطاني قد وضع يده علي مصر كلها، واتخذها مركزا للتسلل إلي السودان، وأقيمت سكك حديد السودان، بمواصفات مغايرة لسكك حديد مصر. وكان الأمل معقودا علي دور هذا الشريان الحديدي المتصل، لتمتين اللُّحمة بين أبناء وادي النيل. ولما لم يجد هذا الوضع من يصححه، استمر الخلل، وصب في قناة قوي انفصالية وانعزالية، وجدت التشجيع والدعم من الاحتلال والتدخل الأوروبي والغربي الدائم، حتي وصلنا إلي ما نحن فيه.
وكشفت التطورات أن حسني مبارك كان مستعدا للانقلاب علي الجمهورية، واتضح ذلك بشكل جلي في السنوات الأخيرة. النوايا لم تكن حسنة، حين رفض تعيين نائب للرئيس إلي أن يكبر الأنجال، وكبروا ليأتي التوريث بابا من أبواب تقويض النظام الجمهوري. تعزز بضرب القيم الجمهورية. ومن المعروف أن النظام الجمهوري المصري مر بمراحل ثلاث: أولها الجمهورية الأولي، وقامت علي الشرعية الثورية، وأسسها جمال عبد الناصر، وكانت أداته لاستكمال مهمة التحرير، وبناها، نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا جديدا مستقلا. كثيرا ما عمل علي تصحيح ذاته، كلما واجه قصورا أو عجزا. وجاءت الجمهورية الثانية، حاول فيها أنور السادات أن ينتقل من الشرعية الثورية إلي الشرعية الدستورية، لكنه فشل بتأثير تداعيات حرب 1973، التي اتخذها مبررا للانحياز والتسليم بالكامل للغرب، وبذلك انتقل بمصر من الاستقلال إلي التبعية، انتقالا كاملا. فزار القدس المحتلة واعترف بالدولة الصهيونية، وبعده دخلت الدولة المصرية إلي دائرة الحصار، وبدت مهمة تصفيتها موكولة لحسني مبارك، واستمرت واحدة من أوراق اعتماده المطلوبة لاستمرار دعم الغرب والدولة الصهيونية له ولعائلته من بعده.
وبنيت عملية التقويض علي مستويين: الأول هو رد الاعتبار لمفاسد ومظالم ما قبل الجمهورية، ووصل التمادي في هذا حدا ما كان للنظام القديم أن يجرؤ علي القيام به، فجري تقنين وتعميم قواعد حكم اللصوص، وتمكينهم من إدارة البلاد، وأصبحت أساسا لتأهيل المسؤولين الجدد، وصارت نهجا في ممارسة السياسة والحكم، وتضمنت هذه القواعد شروط المسؤولية السياسية وتولي المناصب العامة. إعطاء الأولوية للصوص الأغنياء في تقلد المناصب التنفيذية والحزبية، وشاعت هذه القناعة، للأسف، في أوساط فقيرة ومعدمة واسعة. وصار كثير منها يقبل بحكم اللص والمرتشي الشبعان ، علي حد قولهم، تحت وهم أنه سيتوقف عن السرقة وجمع الرشاوي. وصل اللصوص وملكوا الزمام، ولم يشبعوا ولا امتنعوا عن السرقة، ولا زهدوا في النهب، وجاء ذلك مواكبا لرد الاعتبار لحياة المجتمع المخملي، الكسول المترهل، في القصور والقلاع والمستوطنات، وذلك بهدف سحب الاعتراف من المكافحين والعصاميين والشرفاء، وبدأت المسلسلات المصرية، تتصنع حياة العز الزائف الذي يعيشه أهلنا في ريف الدلتا والصعيد، وصوروهم علي شاكلة الطفيليين الجدد. غير منتجين، كسالي، أو خدم وقتلة وقطاع طرق وتجار مخدرات، ليعيدوا للريف حياة العبودية والسخرة، والنظرة إليه كمجتمع ليس لديه إلا الثأر، ولا يعرف إلا العمل مع اللصوص والنهابين، والإذعان لأصحاب الثروات الحرام. وذلك تأصيلا وتبريرا لتخلي الدولة عنه وعدم تحمل مسؤوليته. وكان المستوي الثاني هو تصفية هيكل الدولة، فوجوده قد يحفزه علي الدفاع عن النظام الجمهوري، الذي عاش في كنفه وتحت رعايته، وقد قطع جمال مبارك شوطا كبيرا، وبسرعة قياسية، في مضمار الإجهاز علي هذا النظام، وهو يوشك الآن علي استكمال مهمته. والدولة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة أختزلت إلي حدود المزرعة المملوكة لـ عائلة ، وهل يمكن أن ترتقي المزرعة إلي مستوي الجمهورية، التي سقطت صريعة أمام التوريث ، وقد تم وانتهي أمره، وهل تتحمل مصر هذا؟ ويبدو أن هذا القدر هو الذي سمحت به المساحة المتاحة، لم يكف لتغطية كل الموضوع، وقد يقتضينا هذا استكماله في عدد قادم بإذن الله.