| | | | الحرب الاجتماعية المعلنة في مصر.. أسبابها وأهدافها ومداها ...............................................................
محمد عبد الحكم دياب .................................. المهتمون برصد ومتابعة ما يجري في مصر، من الداخل، في حيرة، بسبب الصعوبة الكبيرة في توصيفه التوصيف الصحيح. فهم وهم يرون بقايا الدولة تتلاشي، والاحتقان والتوتر يغطي مصر من أقصاها إلي أقصاها، يتابعون غياب المرجعية الإدارية والسياسية في إدارة شؤون البلاد، واستبدالها بمرجعية مالية وتجارية، حصرت مسؤوليتها في رعاية المصالح المالية والأمنية لعائلة واحدة، مكونة من أربع أفراد، ومعها شركاؤها والعاملون لحسابها. وترتب علي ذلك عدم خلو منطقة أو مقر عمل أو مكان دراسة أو حقل أو مصنع من مأزق. مع إفقار منظم، وتعذيب ممنهج، وبطالة متعمدة، وفوضي شاملة، ومرض فتاك، وإهمال واضح، وضحايا بالآلاف. وصار الموت هو الشيء الرخيص أو المجاني المتاح بكثرة. فالأرقام تقول ان حوادث الطرق والنقل والمواصلات، وحدها، أودت بحياة سبعة آلاف مواطن في عام 2006 وحده. وهذا الرقم يساوي أكثر من ضعف حصيلة قتلي قوات الغزو الصهيو أمريكي للعراق، علي مدي أكثر من أربع سنوات. بجانب عشرات الآلاف من المصابين والمعوقين من هذه الحوادث، وإذا أضيف إلي هذه الأرقام ضحايا الأمراض التي استوطنت مصر، نتيجة الإهمال والتلوث والحرمان من الرعاية الصحية المجانية، لوجدنا أن مصر وصلت إلي أعلي مراحل الخطر. وقد نشرت مجلة الموقف العربي القاهرية الأسبوعية، في عددها الأخير، أرقاما وردت علي لسان نائب في مجلس الشعب، تشير إلي أن تسعين ألف مصري يموتون سنويا بسبب مياه الشرب الملوثة، من بينهم 17 ألف طفل، وعشرات الآلاف الآخرين يموتون من جراء الإصابة بفيروس (سي)، المسبب لمرض الكبد الوبائي القاتل. وبدأ التكهن بنقص عدد السكان، خلال السنوات العشر القادمة، إذا ما استمر الانهيار بنفس المعدل. ويعتمد هذا التكهن علي عوامل عديدة أهمها: الهجرة، المشروعة وغير المشروعة، وما ترتب عليها من استقرار مئات الآلاف في بلدان المهجر، وعدم عودتهم للبلاد. هذا مع العلم أن عدد المهاجرين تجاوز نسبة عشرة في المئة من مجموع السكان. ويري خبراء أن نقص السكان ظاهرة إيجابية، وهذا صحيح في ظروف مغايرة عن الظروف الراهنة في مصر. فنقص السكان الإيجابي نتاج تخطيط ودراسة وبحث، وترجمة لسياسة رشيدة، لا تستخدم الهجرة وسيلة لطرد المواطنين والتخلص منهم ومن أعبائهم، ولا تجعل منهم سلعة في سوق النخاسة المعاصر، لاستجلاب عملة صعبة. تعوض النهب المنظم للثروة الوطنية، وتهريبها للخارج، وسد العجز في الميزانية المترتب عليه. والهجرة إذا ما كانت عشوائية لا تفرز ظواهر إيجابية. والشواهد الملموسة في الواقع أنها تدنت بمستوي المهارات الوظيفية، وحدّت من القدرات المهنية والفنية. وكلما ارتفع معدل الهجرة العشوائية، كلما تراجعت كفاءة المهاجرين وغير المهاجرين، لدرجة أن سوق العمالة الداخلي بدأ يعتمد علي العمالة الأجنبية في مجالات عديدة، بما فيها مجال الخدمة في المنازل. واتخذ ذلك مبررا للتهرب من المسئولية من جانب الحكومة، بدعوي أن العمالة المصرية أقل كفاءة وقدرة ومهارة من غيرها، مما دعاها لإسناد مهمة نظافة المدن لشركات أجنبية!!. وإذا كان هذا صحيحا، فاللوم الأكبر يقع علي نمط الحكم العائلي المصري، ومنظومة القيم المتخلفة المعتمد عليها. فالمسئولية هنا ليست مسئولية المواطن، بقدر ما هي مسئولية هؤلاء، الذين قضوا علي التعليم، وقصروا فرص العمل علي احتياجات أهل وأقارب ومحاسيب الحكام والمسئولين، فأهمل التدريب، وجُلبت العمالة الأجنبية، دون اكتراث لحجم البطالة وتجاوزه حد الخطر. ومصدر الخطر الأكبر هو انطلاق هؤلاء من دوافع أيديولوجية، يبررون بها عداؤهم للفقراء ومحدودي الدخل، من الفلاحين والعمال وموظفي الدرجات الدنيا والمتوسطة في الجهاز الإداري، والتفنن في حرمانهم من أي فرصة. وهذه الدوافع منحتهم رخصا اتاحت لهم تغيير علاقات العمل، وضبطها علي قواعد العبودية والسخرة، وهي قواعد حولت هذا العداء إلي عداء للوطن، وليس لقوي بعينها. لأن هذه القوي هي بحجم الوطن، وتمثل مركز الثقل فيه، حتي لو حرمت من حقوقها المشروعة، في التعليم، والعمل، والعلاج، والسكن، والأمن، والمواصلات الآدمية، والرعاية الاجتماعية. والمشاركة في القرار السياسي. ونقص السكان، الذي يقوم علي حرمان الغالبية العظمي من هذه الحقوق المشروعة، يرقي إلي مستوي التهجير القسري أو الإبادة الجماعية، مثل تلك التي تحدث في فلسطين والعراق، لكن بوسائل مختلفة. والمواطن وهو يعيش وسط هذا المناخ استشعر الخطر. لا أمن يحميه، ولا دولة تقدم له ما اعتادت عليه. ولا قانون يساوي بينه وبين غيره، من أصحاب السلطة والسلطان. ولا نظام يمنع من الفوضي، ولا عقل راشد يحد من عشوائية الحياة الخاصة والعامة. ويبقي رد الفعل الطبيعي لديه هو البحث عن وسائل تجعله يعتمد علي جهده الخاص، وحركته الذاتية، ونقاط القوة فيه، حتي وإن كانت محدودة. وما يمكنه من فرض قانونه الخاص. وكانت آخر صورة معبرة، تلك التي شهدتها ضاحية من ضواحي مدينة الجيزة، المجاورة للقاهرة، يوم الأحد الماضي، ونقلتها الفضائيات، المحلية والعربية، وكانت لأهالي تحركوا، لمواجهة رجل أعمال نصاب. استولي علي مدخراتهم وممتلكاتهم، بدعوي الاستثمار، وفر بملايينهم، هو وأسرته، إلي السودان. زحفوا علي ممتلكاته وعقاراته، بعضهم وضع يده علي شقق غير مكتملة، ومحلات في طور التشطيب، مقابل أموالهم أو جزء منها أو تأمينا لحقوقهم، ومن لم يستطع، أخذ في خلع الأبواب والنوافذ، أو استولي علي مواد بناء وجدها أمامه. وخرج من قلب المشهد أحد الضحايا. يطل من شرفة شقة، ويعلن أنه لن يخرج منها إلا علي جثته. أوردنا هذه التفاصيل من أجل أن يعيش القارئ جو المعركة وظروفها، وهي معركة متكررة في أكثر من مكان بمصر. هذا مشهد واحدة من معارك تغطي البلاد، طولا وعرضا. وهي ليست سوي حرب، لا تتوقف، ذات طابع خاص. يساعد علي تفسير ما نشرناه السبت الماضي، علي هذه الصفحة، عن انتشار الوعي الاجتماعي. والعالم يعرف الحروب العسكرية والاقتصادية والثقافية والنووية، وكذا الحرب الباردة، وكلها تتم بالصدام والعنف، سواء بالعمل المباشر، أو عن طريق وكلاء، كما كان عليه الأمر خلال الحرب الباردة، والصدام والعنف يعني فشل الوسائل الأخري. وهنا مكمن صعوبة التوصيف مرة أخري، بحيث لا نخلط بين الحرب الأهلية والحرب الاجتماعية. فالأولي مثلها مثل كل الحروب، يقف وراءها قرار سياسي، وتستخدم فيها وسائل عسكرية وقتالية، وإن كانت تستبدل الجيوش الرسمية والنظامية بمليشيات وجماعات مسلحة، مدربة علي فنون الكر والفر، وهذا ليس طابع الحرب الاجتماعية المندلعة في مصر. لا سلاح، ولا مليشيات، ولا تنظيم، ولا وجود لأطراف داخلية أو إقليمية لدعمها أو تمويلها، وهي وإن كانت لا تحمل أي طابع عنيف، فهي أيضا ليست سياسية، فلم تندلع من أجل المشاركة في القرار ولا لإسقاط الحكم أو تغييره. وحملت الحرب الاجتماعية طابعها من أهدافها، ومن التأثير السلبي لغياب الدولة، وبطء الإجراءات القانونية والقضائية، وعدم تنفيذ الأحكام، وتفشي ظاهرة الإبادة المنظمة للفقراء، وسعار رجال الأعمال وحجم النصب الذي يمارسونه، وتمكين عائلة مبارك من الحكم علي أشلاء الوطن وجماجم المواطنين، وفقدان الثقة في الأرقام والمشروعات والإنجازات المعلنة، التي تنشرها الصحف الحكومية وشبه الحكومية. فمن يطلع علي الصحف اليومية، الرسمية، يتصور أن عائلة مبارك جعلت مصر أغني دولة في العالم. والاستثمار فيها هو الأعلي، والأكثر انتاجية وارتقاء بمستوي المعيشة. أرقام مضروبة. كذبتها حياة المصريين وواقعهم المعاش ومعاناتهم، واتساع مساحة الفقر، مع كل طلعة شمس. حالة من عدم التصديق، غير مسبوقة. وإذا أضفنا الفوضي المتحكمة في كافة مناحي الحياة. في السياسة، والمال، والتعليم، والصحة، والمواصلات، والمباني، والبيئة، والثقافة، عرفنا طابع هذه الحرب ومبررها. والفوضي لا يمكن أن تصل بالنمو الاقتصادي إلي أكثر من سبعة في المئة، كما يدعي الساسة، من رجال الأعمال. فكيف يستقيم ذلك مع التدني الحاد والمستمر في الخدمات، والنقص الكبير في مياه الشرب، والتلوث المنتشر، بسبب قدم ومحدودية خطوط الصرف الصحي. والطوابير الطويلة أمام المخابز، منذ مطلع الفجر للحصول علي رغيف خبز، والارتفاع المستمر في الأسعار، بشكل شبه يومي. كل هذا يكذب النمو المدعَي وينفيه. وأما أن يكون نموا في ترف المترفين، فهو غير ملموس من أحد، ويزيد من توحش الساسة ورجال المال والأعمال، ويعتبر بمثابة مكافأة لهم علي النهب والسلب والتهريب والتخريب وغسل الأموال. وأضحت أكثر المفردات كراهية وتنفيرا، بين غالبية المصريين، هي مفردة الاستثمار ومشتقاتها، وقد أعطاها الرئيس الابن معني مقدسا، ووفر الرئيس الأب للعاملين عليها كل صنوف الحماية ومنحهم أكبر الامتيازات. وتبنيا معا لأسوأ من بينهم. وكانت جلسات لجان المؤتمر التاسع للحزب الحاكم، في الأسبوع الأول من هذا الشهر، مسرحا لهذا التبني. فحين شعر الرئيس الابن بالثورة المكتومة في صدور أعضاء الحزب من الصعيد، ضد رجال المسؤولين من رجال الأعمال، دفع بـ الرئيس الأب ليفرض وجوده علي أعمال لجنة الاستثمار والتشغيل، للمصادرة علي مخطط الصعايدة، ووفر بذلك الحماية اللازمة لشلة الرئيس الابن !! تتخذ الحرب الاجتماعية شكل مواجهة يومية. بحثا عن حلول ذاتية لمشاكل استفحلت. بعيدا عن الحكومة، ودون اللجوء إلي ما تبقي من سلطة الدولة وسلطانها. وهذه الحرب بدأت تُعَوّد كثيرا من المواطنين علي أخذ القانون بيدهم، مع حرص واضح منهم علي ألا تتحول مصر إلي غابة، فاقتصر ميدانها علي الشارع، وساعدهم علي ذلك انتشار الفضائيات، وزيادة اهتمامها بمتابعة هذه الظواهر والمظاهر. ومن المرجح أن هذه الحرب لن تغير من ميزان القوي الداخلي، لأسباب موضوعية، منها أن معاركها جزئية ومنفصلة عن بعضها، حتي وإن تماثلت في الأهداف أو اقتربت في المسافات، وغياب الرؤية السياسية يقلل من احتمال تحولها إلي ثورة اجتماعية.
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|