| | | | الاستئثار بالثروة وتبديد الموارد دفعا بالمصريين لحافة الجوع ...............................................................
محمد عبد الحكم دياب .................................
مصر تقف علي أعتاب المجاعة، والغالبية العظمي من ناسها في كرب عظيم وبلاء شديد، وأغلب المجاعات حدثت قديما لشح المياه ونقص مصادر الرزق، وبعضها كان للعلو علي الناس والإفساد في الأرض، ومجاعة مصر تدخل في نطاق الصنف الثاني، فالإفساد في الأرض علامة بارزة في التعامل مع أغلب مجالات الحياة فيها. وأصبح الشح هو شح القدرة والجهد، وتمثل النقص في نقص العقل والاستجابة.
ما يحدث في مصر لفت نظر وأثار عجب من لم يتصور أن تتعرض بلد النيل إلي مثل هذا الحال، ولم يكن هذا الموقف نفسه مع من يتابعون ويعرفون الأسباب، ومنها أن أصحاب القرار فقدوا إمكانية الاستشعار، التي تساعدهم علي الإحساس بالآخرين واحتياجاتهم. ولم تعد لديهم قدرة تواصل أو تماس مع غيرهم. وعندما تختفي مثل هذه الصفات يحدث ما هو أكبر من المجاعة. والسمة الغالبة علي المسؤولين والحكام في مصر هي انغماسهم في ترف زائد، ألهاهم عن حل مشاكلها وعلاجها. وأدي بهم إلي السطو علي ثروة المجتمع، وتبديد موارد الدولة. ومن أجل هذا استماتوا للاستحواز علي السلطة والثروة والنفوذ، فاحتكروا الامتيازات لأنفسهم، وتفننوا في حرمان الفقراء والموظفين ومحدودي الدخل من ضرورات الحياة ومباهجها، وسَلْبهم إمكانيات العيش الكريم، إلي أن تركوهم يتقاتلون علي كسرة خبز.
ومجاعة مصر لم تأت عفوا، ولم تكن نتيجة كارثة مفاجئة، ولا جاء بها سبب طارئ، إنها حصاد سياسة معروفة ومخطط مدروس ومبرمج. كانت بداياته حين رفعت الدولة يدها وأعلنت تخليها عن حماية محدودي الدخل أو دعمهم، وانسحبت من مهمة كانت تقوم بها لآلاف السنين، مهما كان شكل الحكم ومضمونه. والخبراء والمعنيون يعرفون أن موارد الدولة كافية، لكنها تسرق وتغتصب أولا بأول، ويعلمون أن ثروة المجتمع تلبي الاحتياجات لكنها تبدد وتنهب. ويحدث هذا برعاية المسؤولين وموافقتهم. إلي أن آل الأمر للمحتكرين واللصوص والأجانب والصهاينة، ومن أهم العوامل المساعدة علي هذا يأتي دور المنظمات الدولية والمؤسسات الأجنبية، المالية والاقتصادية، التي تعمل علي إخضاع البلاد لسيطرتها، والتزام حسني مبارك بما تقدمه له من نصائح علي أساسها يحدد مسار تعامله مع الشعب المصري، واستقر ذلك كسمة من سمات حكمه وطبعه.
وحسني مبارك، وهو يقيم حكمه علي قاعدة ما أسماه بالاستقرار. أي استقراره واستقرار حكمه، اعتمد علي الجمود نهجا في السياسة والإدارة والاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة. ولم يظهر الأثر السلبي لهذا النهج سريعا، فقد كان هناك ما يحجبه، أموال نفط تمتص أيدي عاملة مصرية كثيرة. في العراق ودول الخليج والسعودية وليبيا، وأبواب هجرة مفتوحة علي أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا. كل هذا أخفي ما وراء الجمود والشلل، فتأجلت تبعا لذلك الأزمات. وحين تغير الحال، وغير حسني مبارك من دوره وكرسه لإشعال الحروب والصراعات الدموية، لحساب الإدارة الأمريكية والدولة الصهيونية، أخذت الأزمات الداخلية في الظهور والتصاعد، واقتضي هذا الدور خلق بيئة سياسية واجتماعية مناسبة ، تترعرع فيها منظومة الفساد والاستبداد والتبعية، وكي تصبح مصر مرتعا للأنشطة الطفيلية والمشبوهة، وانتشر فيها الاقتصاد الأسود والنشاط الطفيلي، وتسللت عناصره إلي سلطات الدولة وأجهزتها.
في المرحلة الأولي من حكم حسني مبارك أدار الدولة عن طريق بيروقراطية جهازها العتيق، وضبطها بعصا الأمن وبطشه. بهما واجه خطرين كبيرين هددا حكمه.الأول كان تمرد الأمن المركزي في 1986، والثاني المواجهة الدموية مع الجماعات الإسلامية، ويبدو أن نجاحه أغراه بتعميم العنف المفرط في إدارة الدولة والتعامل مع المواطنين، ونتج عن ذلك دمج جهاز الدولة والحزب الحاكم بالأمن. أصبحوا جميعا شيئا واحدا. واستقر العنف والتعذيب وهتك الأعراض والقتل سياسة ثابتة في التعامل مع المواطن. وبعد أن كان بعضه قاصرا علي السجون والمعتقلات انتقل إلي أقسام ومراكز الشرطة، تحولت إلي سلخانات وأماكن للتنكيل وهتك العرض والقتل، الذي امتد إلي الشوارع والبيوت ومقرات العمل. إلا أن التحول الأهم خرج من رحم الجمود والعنف المفرط، وبدأ في شكل نشاط مالي وتجاري قام به الإبن الأكبر، علاء، ولحقه الإبن الأصغر، جمال، تعددت المجالات التي عمل فيها علاء، بشراكة عدد من كبار رجال المال والأعمال، ونشاط جمال المالي والتجاري بدأ برعاية البنك الأمريكي بنك أوف أمريكا في لندن، ووفق ما نشرته مجلات المال والأعمال الأمريكية، أثبت، في تلك الفترة، قدرة لحل عدد من المشاكل المستعصية التي كانت تواجهها في مصر، بسبب التعقيدات البيروقراطية. وكانت أبرز أعماله، التي وطدت علاقته بالمؤسسات المالية الأمريكية والغربية، بيع ديون مصر، ومثلت مدخلا لهذا التحول الحاسم لحكم حسني مبارك. بدأت إرهاصاته في تسعينات القرن الماضي، ودخلت حقبتها العملية في منتصفها. مع تعيين جمال مبارك مستشارا اقتصاديا لوالده، وكانت سبقتها خطوات خجولة لإقحامه في العمل السياسي، من خارج الدوائر الرسمية، فظهرت فكرة جمعية جيل المستقبل. وكانت مقدمة لتكوين حزب يحمل نفس الاسم.
واكب هذا التحول انتقال الاقتصاد المصري من اقتصاد انتاجي وخدمي إلي اقتصاد ريعي. ارتكز علي عائدات المهاجرين والعاملين بالخارج، ودخل قناة السويس، وعائد السياحة والنفط والغاز، وناتج الاقتصاد الأسود، واستحوزت العائلة علي نصيب الأسد. وتمكنت من امتلاك الامبراطوريات المالية في الداخل والخارج.
ومن الطبيعي أن يأتي كل هذا خصما من نصيب الشعب، وسحبا من الدعم المخصص للمواد الغذائية والاستهلاكية. بعد أن انتقل هذا الدعم إلي رجال المال والأعمال، واستغلوه في المضاربة علي الأراضي والعقارات، وبناء المستوطنات والمنتجعات والقري السياحية، وأهملت الزراعة وتراجعت المحاصيل الاستراتيجية، كالقمح وقصب السكر والذرة والقطن، حتي أن كليات الزراعة لا تجد من يتقدم إليها في السنوات الأخيرة. وتلوثت المياه وفسدت وتسممت القنوات والترع، ولم تعد صالحة لا للاستخدام الآدمي، ولا الاستخدام الحيواني، ولا الزراعي أو البيئي. بجانب أن المصادرة الكاملة علي الحريات وحق المواطن في اختيار من يمثله زادت الوضع تعقيدا.
وجاءت الطائفية لتمثل العقدة الأكبر في حياة مصر الراهنة. وعن طريقها يستبدل الانتماء الوطني بالالتحاق بالطائفة الدينية والمذهبية. وشقت الوهابية، الوافدة إلي مصر، طريقها وصارت صاحبة النفوذ الأكبر علي كثير من المؤسسات وأصحاب القرار. وأضحت، في حد ذاتها، مؤسسة تعمل علي إضعاف روح التسامح والتعايش، التي ميزت مصر علي مدي العصور. ومقابلها عمل عدد من رجال الدين المسيحي علي جعل الكنيسة كيانا طائفيا لأشقائنا المسيحيين. يبعدهم عن العمل الوطني، ووصل الأمر بالأنبا بوشوي، مساعد البابا شنودة الثالث، حد تكفير السياسي الوطني المعروف، جمال أسعد عبد الملاك، ووصفه بأنه يهوذا القرن الواحد والعشرين!!. هذا قليل من كثير يبين أن المجاعة تأتي ضمن سياق وليست كل السياق، ويكشف أن مصر تعيش أزمة مجتمعية وسياسية شاملة، وما أزمة الخبز إلا وجها من وجوهها، وكانت أزمة المياه والعطش وجها آخر، والبطالة المتفشية وجها ثالثا، وشيوع ظاهرة الانتحار والهروب من البلاد وجها رابعا، وتدني الأجور وجها خامسا، وأزمة الحريات وتزوير الانتخابات وجها سادسا، والتوريث وجها سابعا. لن نستطيع أن نتوقف عن الحصر، فالأزمة لها ألف وجه ولون وشكل، واتساعها لم يترك مساحة للتصحيح أو العلاج، وبانعدام هذه المساحة خرجت أبواق الإعلام الرسمي تنسب ما يحدث في مصر إلي ارتفاع الأسعار العالمية وزيادة السكان، في نفس الوقت تدعي أن عائد النمو وصل إلي 8 %، وإذا كانت الأسعار العالمية هي السبب فلم لا نجد المجاعة إلا في مصر؟، ورغم تحفظنا في الاعتماد علي الاقتصاد الريعي، ومع ذلك ففي مصر ما يكفي لحياة كريمة ولائقة، والأرقام الحكومية، التي نشرت مؤخرا، تقول ان دخل قناة السويس وصل إلي أعلي مستواه الشهر الماضي، وهو 22 مليون دولار في اليوم، وقالت نفس المصادر ان معدل دخلها اليومي مستقر في حدود 15 مليون دولا، وبحسبة بسيطة نجد أن العائد السنوي من دخل القناة يقترب من ستة مليارات دولار، أي يفوق الثلاثين مليار جنيه مصري، وتقول نفس المصادر أن عائد السياحة ارتفع من 9 مليون سائح 2006 إلي11 مليون سائح 2007، أي تجاوز الخمسين مليار جنيه مصري. والنفط تضاعف سعره خمس مرات منذ غزو العراق، وبدلا من أن يكون دعما للمواطن المصري، ذهب دعما للمستوطن الصهيوني، ونتوقف عند هذا الحد ونستكمل معا الأسبوع القادم بإذن الله.
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|