ميخائيل زكريا جرجس
...............................................................
| |
بسطاء ولكنهم عظماء | |
بقلم : زهير كمال
...................
ميخائيل ابن البوسطجي زكريا جرجس لم يكن يحلم بدخول كلية الهندسة، دفع ابوه مبلغ ثلاثة جنيهات وعشرين قرشاً رسوم التسجيل في كلية الهندسة جامعة الاسكندرية عام 1966 وقال لابنه : يا ابني لم يكن لأمثالنا حق الحلم برؤية ابناءهم مهندسين لولا عبدالناصر وقراره بجعل التعليم مجاني . حالما وطأت أقدامه باب الكلية ، أصبحت العائلة والحارة تنادي ميخائيل يا باشمهندس . كان يسمعها ويقفز فرحاً في داخله ، ويفكر هذه هي بداية الطريق للأحلام الكبيرة ، سيساعد في حمل عبء العائلة الكبيرة مع أبيه وعند تخرج اخوانه من الجامعات سيتزوج ولكن لن يعيد غلطة ابيه وينجب بلا حساب ، ولدان فقط مهما سيبلغ راتبه .
قليلة هي المرات التي تحدث فيها ميخائيل عن نفسه ، كان خجولاً الى درجة كبيرة ولولا شدة مزاحنا واسئلتنا التي لا تننتهي لما استخرجنا منه اي معلومة ، كانت احدى عوامل خجل ميخائيل ملابسه ، صحيح انها كانت في منتهى النظافة ولكن يبدو عليها القدم ، أتخيلها تقول له : اشتراني أبوك من سوق الملابس المستعملة فارحموني لقد انتهت صلاحيتي منذ مدة طويلة.
لا زلت أتذكر المعطف ذو اللون الازرق الباهت وبه بعض الخطوط الطولية البيضاء والأكمام القصيرة ، استعمل مخائيل نفس المعطف طيلة فترة دراسته الجامعية . ومع هذا كان ميخائيل صاحب كبرياء بلا حدود.
كانت هزيمة 1967 قاسية على مصر ، هزّتها من الاعماق ، اعداؤنا لا يريدون الخير ولا التقدم لمصر والامة العربية ، ليس في الامكان تناسي وجود العدو والاستمرار في الحياة الطبيعية ، استيقظت مصر وعملت على تحديث الجيش وتطعيمه بالكوادر المتعلمة ، كل من تخرج من الجامعة وتنطبق عليه الشروط كان عليه الانخراط بالعسكرية . وكان هذا من أهم عوامل انتصار حرب اكتوبر المجيدة ! الانسان العربي المتعلم أخذ فرصة ليثبت وجوده .
استشهد النقيب المهندس ميخائيل زكريا جرجس بعد عامين من تخرجه من كلية الهندسة واستشهد بجانبه صديقه الحميم الملازم أول محمد نجا خريج كلية التجارة ضمن خيرة الشباب دفعتهم مصر دفاعاً عن حقها في الحياة .
رحم الله الشهيد ميخائيل ورحم شهداءنا .
************
المهندس عبدالقادر ابن الشهيد احمد نصري الذي استشهد في حرب الاستقلال ، كان شاباً يمتلأ حيوية واندفاعاً مثل بلده الجزائر التي بدأت كطفل صغير يتلمس خطاه بعد حرب شعبية طاحنة مع الفرنسيين
تخرج عبدقا كما يسميه أصدقاءه من احدى الجامعات البلغارية وكان من ضمن الدفعات الاولى من المهندسين الجزائريين الذين أرسلتهم الثورة من أبناء شهداءها للخارج ليحضروا شهادات عليا ويصبحوا كوادر الدولة الجديدة ، ربما كانت قلة الكوادر المؤهلة لقيادة المشاريع العملاقة في مختلف المجالات هو السبب في تعثر السياسات الطموحة للرئيس الراحل هواري بومدين
لم أعرف ان عبدقا من القبائل او الأمازيغ الا عند زيارة عائلته في قرية قريبة من تيزي اوزو وسماعه يتكلم مع والدته بهذه اللغة المحببة
كانت الزيارة مع بعض الاصدقاء لتناول الطعام ، في الجزائر كلمة الطعام تعني أكلة الكسكسي المشهورة او كما يقال لها في بعض بلادنا المغربية وأحيانا المفتول.
تورّط عبدقا في هذه العزومة عندما قال ان والدته هي أفضل من يصنع الطعام في الجزائر وان صيتها وصل الى فرنسا فقد كان اخوانها المقيمين في مرسيليا يرسلون لها كل عدة اشهر تذكرة سفر لزيارتهم وطبخ الطعام لهم .
الحق يقال ان كلام عبدقا عن الطعام الشهي كان دقيقاً وصحيحاً وكان يستاهل السفر من العاصمة مسافة تقارب المائة كيلومتر ، ولا اعرف ان ندم بعد ذلك على تورطه معنا في هذا الموضوع فقد كنا نحن اصدقاءه في العمل نلح عليه في العطلات الاسبوعية ان يعزمنا لتناول الطعام وعن طيب خاطر كان يقبل عزومتنا لانفسنا عنده.
تلك الايام كان أهل القبائل يشعرون انه بفضل جهودهم تحررت الجزائر فعلى جبالهم دارت أشرس معارك جبهة التحرير الجزائرية ، كانوا يشعرون بالفخر والاعتزاز وبوطنية رائعة، وهو شعور كنت تجده في كل مكان في هذه البلاد الشاسعة.
تلك الأيام لم يشعر احد بالغبن او الظلم فالدولة لهم جميعاً ولا تفضل منطقة على اخرى وكان شعار رأس الدولة بومدين هو التنمية الجهوية المتكافئة ، عندما يشعر الناس ان الدولة عادلة تخف المطالبات بالتميز والتفرقة التي ظهرت بشكل حاد بعد ذلك عندما انحرفت الدولة واستلم زمامها جهلة من العسكر الذين يشك في وطنيتهم وانتماءهم لبلدهم بعد كل ما فعلوه بشعبها وما زالوا .
تعامل النظام مع الاقليات في وطننا العربي الكبير مأساة كبرى نظراً لجهل من يتولى السلطة ، لم يحصل القبائل في الجزائر على بعض حقوقهم الا بشق الأنفس اما الاكراد في شمال العراق فقد تم تغريبهم نهائياً عن وطنهم الام بسبب جهل كل من تولى السلطة المركزية في بغداد .
توفي عبدقا في زلزال الاصنام (الشلف حالياً) عام 1980 من بين ثلاثة الاف قضوا في ذلك الزلزال المدمر ، رحمة الله عليهم جميعاً
*************
كان المهندس القدير هادي فليح مشرفاً على مشاريع اسكان مدينة الحلّة وبابل في عراق الثمانينات من القرن الماضي، وصل الى مرتبة كبرى في وزارة التعاون والاسكان ، وعنى هذا جولات في انحاء مختلف محافظات العراق لتفقد مشاريع الوزارة .
تكونت صداقة بيننا فكان يصطحبني معه بسيارته القديمة الى مزرعته الصغيرة في ريف الحلّة لتفقد انتاجها من بعض الخضروات والفواكه التي أحضر شتلاتها من خارج العراق ويريد تجربة نجاح زراعتها في مناخ المنطقة ، كل عمال المهندس هادي اثنين من كبار السن ولا تنطبق عليهم قوانين التجنيد . اذكر في احدى المرات وبدون مقدمات قال منفجراً: اللعنة على الفرس كنا نظن اننا ارتحنا منهم ولكن اطماعهم لا تنتهي بالعراق ، اللعنة على صدام ورطنا في حرب ستدمر اقتصادنا ولن تقم لنا قائمة بعدها.
مرة اخرى قال لي هل رايت شباباً في البلد؟ كلهم في الجبهة تعطلت مصانعنا ومزارعنا ، عددنا قليل بالنسبة للفرس الملاعين!
ظهر على ملامح وجهه الحزن العميق وارتج صوته وشعرت انه كان على وشك البكاء وهو يصف أحوال الجرحى والجثث، ومنظر الأرامل وهي تتقطع حزناً وألماً في مستشفى الفالوجة العام الذي كان يزوره لتفقد بعض المنشآت لسكن العاملين فيها.
شعرت ان الرجل كان ينفجر حنقاً على أوضاع الحرب ولا يستطيع الثقة بمعارفه لينفس عن حنقه وكان لا يفعل ذلك الا في سيارة مسرعة ولصديق غير عراقي .
استشهد هادي مع مطلع الغزو الامريكي للعراق ، ولم أتمكن من معرفة كيفية استشهاده فهو لم يكن في سن القتال ولم يكن بعثياً . رحمه الله ورحم شهداءنا جميعاً.
كنت أجهل تفاصيل نسيج المجتمع العراقي ، المهندس هادي كان شيعياً وبكى أوضاع المرضى والزوار السنّة في مستشفى الفالوجة العام الموجود في منطقة الانبار السنية .
لا تكتمل زيارة العراق الا بزيارة النجف وكربلاء ، أول مرة زرت مسجد الحسين في كربلاء شاهدت أقراصاً صغيرة من الطين مرمية بشكل غير منتظم على سجاد المسجد، كانت هذه أول مرة اشاهد شيئاً من هذا القبيل ذهبت أبحث عن أحد الشيوخ علّه يفسر لي وجودها ، بدايةً نظر اليّ الرجل شزراً ولكنه أيقن من لهجتي جهلي بالموضوع ، فابتسم وقال هذه للنظافة، حتى لا تضع جبينك في مكان أقدام رجل آخر ربما كان وضوءه ليس كافياً لتنظيفهما تماماً !
اعجبتني الفكرة وقلت والله لا بد من تعميمهما على كل المساجد في العالم.
بعد سنين وفي احدى بلاد الشام وفي زيارة اجتماعية، قال الرجل الذي عبر العراق لأول مرة : أهل العراق لا يعبدون الله بل يسجدون لقرص من الطين ! لم يكن فضولياً مثلي ، فانقلبت الامور الى درجة كبيرة من التشويه نتيجة الجهل بالآخر.
**********
هذه ثلاثة نماذج من شرق الوطن ووسطه وغربه في أيام كانت فيها شعوبنا تعيش في سلام وأمن وبدون التفكير في امور تعتبر من المسلّمات ، ان تكون مسيحياً او أمازيغي او كردي او سني او شيعي قضية عادية لا تثير الانتباه لم يضطر أحد لأن يقول للاخرين نحن شركاء في هذا الوطن ولم يضطر احد ليثبت بالبراهين والادلة وكأنها مشكلة هندسية معقدة هذه المقولة البسيطة والبديهية.
ولكن لأن الامر اصبح كذلك فهذا استعراض لملامح هذه المعضلة الكبيرة
1. هل خطر لأحد ان يسأل نفسه لماذا وصلت أوطاننا الى أعتاب القرن الواحد والعشرين وهي تحمل كل هذه الفسيفساء من الأعراق والأديان والطوائف؟ والجواب بسيط لأننا شعوب حضارية متسامحة تؤمن بالتعايش والمحبة وتؤمن بحرية الآخر ولا تفرض الأغلبية على الاقليات فيها خيار الاندماج او القتل او النفي.
ونقيض ذلك تاريخ اوروبا وفيه ما تقشعر له الأبدان من أعمال القتل والافناء ، وحروب دينية استمرت مئات السنين نتيجتها ان فرنسا كاثوليكية تماماً والمانيا بروتستانتية تماماً اما اسبانيا فقد اضطر العرب من المسلمين واليهود اللجوء الى الشمال الافريقي هرباً من فرض التنصير عليهم ، ومن بقي تكفلت محاكم التفتيش بقتله.
لا تجد الآن في اوروبا دول مختلطة الأعراق سوى دولتين بلجيكا وسويسرا . كانت الدول الاشتراكية في العصر الحديث تفرض هذا النوع من التعايش وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبحت كل دولة تحتوي على عرق واحد انقسمت تشيكوسلوفاكيا الى قسمين واصبحت يوغوسلافيا دول عرقية وطائفية صغيرة ، حتى المناطق التي تحتوي على أقليات هامة من أعراق اخرى توجد فيها مشاكل كبيرة مثل أبخازيا واوسيتيا الجنوبية في جورجيا وناغورنو كاراباخ الأرمنية في أذربيجان وكوسوفو في صربيا.
قامت آخر حرب كبرى في العالم على أساس عرقي عندما قام هتلر بافناء عدد لا يستهان به من الاوروبييين بحجة النقاء والتفوق .
وفي أيامنا هذه يرفض الاتحاد الاوروبي المسيحي الطابع (ولأول مرة يجتمع الكاثوليك والبروتستانت) دخول تركيا المسلمة ولا اعتقد انهم سيقبلون البوسنة والهرسك ذات الأغلبية الاسلامية في الاتحاد.
هذا هو واقع اوروبا قديماً وحديثاً في عجالة بسيطة وتظهر كم هي عنصرية وعرقية و الأدهى من ذلك انها قامت وتحاول فرض هذه الرؤيا المريضة على غيرها وهذا أمر لا يتناسب مع مستقبل الانسان وتطلعاته لعالم أفضل.
مقابل ذلك وفي نظرة سريعة الى عالمنا القديم نجد ان الدولة العباسية السنية المذهب استمرت خمسمائة عام ولم يؤثر ذلك على شيعة المذهب وعاشوا بسلام مع غيرهم .
اما الدولة الفاطمية الشيعية المذهب فقد استمرت مائتين وخمسين عاماً ولم تفرض رؤيتها الدينية على الأغلبية السنية ولم نر المذابح في مدن الدولة الممتدة على كامل المنطقة العربية حالياً.
2. هل يخطر ببال أحد انه يمكن للشعب البريطاني الاحتفال بجان دارك قدّيسة الفرنسيين وهل من الممكن ان يحتفل الفرنسيين ببطل المانيا وموحّدها بيسمارك او ببطل ايطاليا غاريبالدي. مقابل ذلك تجد العالم العربي كله من محيطه الى خليجه يحتفل بصلاح الدين الايوبي وطارق بن زياد وموسى بن نصير ويعتبرهم ابطاله القوميين ولا يسأل عن عرقهم ان كانوا اكراداً او أمازيغ او عرب.
ما سبق عينة بسيطة من الابطال ويحتاج الامر الى مجلدات لكتابة سيرة ابطال الامة ، علمائها ، ادباءها وفنانيها قديماً وحديثاً ، هؤلاء الذين لا يفكر احد في دينهم او عرقهم او طائفتهم.
أبطالنا اليوم هم مواطنينا العاديين الذين يرفضون التفرقة بين أبناء الشعب الواحد ، الذين يدركون ان تراثنا حضاري وان اجدادنا عاشوا معاً واقتسموا لقمة العيش معاً، أصابهم العدل وأصابهم الظلم بالتساوي، قاتلوا معاً وضحوا معاً وماتوا معاً فالعدو لم يفرق بين مسيحي ومسلم في القدس اثناء مجازر الحملات الصليبية الاولى ولم يفرق بينهم اثناء الحملة الصليبية الثانية (اسرائيل). والطيران الاسرائيلي لم يفرق بين اطفال المسيحيين واطفال المسلمين في بحر البقر وقانا وغيرها.
وعندما ذبح الاستعمار الفرنسي تسعة وعشرين الف متظاهر مدني في مدينة سطيف في يوم واحد هو 8 مايو عام 1945 في الجزائر لم يفرّق بين عربي وامازيغي فكلهم بالنسبة له سواء.
في ماضي عراقنا قتل التتار أهلنا من الشيعة والسنة ، وفي حاضره يقتل أهلنا من الشيعة والسنة على حد سواء.
مهما بلغ حجم الهجوم على لحمتنا الوطنية ففي النهاية ستنتصر قيمنا الحضارية وتسامحنا ومحبتنا ، وهذا أقوى أسلحتنا في تحقيق الانتصار على أعدائنا.
ملاحظة: تم تغيير اسماء المهندسين الثلاثة تغييراً بسيطاً