الساعات الأخيرة لنظام قديم
| |
المرشد | |
بقلم: زهير كمال
..................
في الولايات المتحدة، تمثل وفاة أحد أعضاء المحكمة العليا، وهي أعلى سلطة تشريعية في البلاد، فرصة للرئيس لكي يرشح أحد القضاة الذين يمثلون وجهة نظر حزبه وتوجهاته السياسية والاقتصادية، يخضع المرشح الى تدقيق مجلس الشيوخ المنتخب من قبل الشعب، يصادق على الترشيح أو يرفضه، وقد رفض مجلس الشيوخ العديد من المرشحين لهذا المنصب الحساس الذي سيشغله صاحبه مدى الحياة، أحيانا يكون الرئيس متأكداً من رفض المجلس لمرشحه، بخاصة إن كانت الأغلبية من الحزب المضاد، فيحتال على الموضوع بتعيين العضو أثناء إجازة المجلس . الغاية من ترديد هذا الموضوع تبيان أهمية الدور الذي يلعبه عضو المحكمة العليا فتوجهاته الفكرية ونظرته الى الحياة تحدد كيفية تحليله للقضايا وتفسيره للقوانين ثم وضع قوانين جديدة تواكب مرحلة التطور التي وصل اليها المجتمع.
هذه حالة مثالية في الفصل بين السلطات، الى حد قدرة المحكمة العليا على عزل رئيس الدولة وفي نفس الوقت التكامل بينها الى حد رفض مجلس الشيوخ ترشيحات الرئيس.
في الحالة المصرية يقوم الرئيس بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وهذا ليس نظاماً مثالياً، إذ يخلو من التدقيق والرقابة ، ولكن يمكن أن يكون سليماً في الحالات العادية ، إذ على الرئيس استشارة القضاة واستمزاج آرائهم وتعيين من يرونه صالحاً بينهم. ولا يختلف اثنان أن منصب القاضي على مر الزمن وفي كل المجتمعات هو منصب لأصحاب العلم المحايدين ، صفوة المجتمع وضميره الحي.
ولكن في حالة رئيس فاسد مثل مبارك تهمه مصالحه الشخصية قبل مصلحة الوطن، فمن نتوقع أن يضع في هذه المناصب الحساسة؟ ألا يبحث عن قضاة يضمن ولاءهم له كشخص؟ كان لابد من البحث عن أسباب منطقية خلف قرارات المحكمة الدستورية العليا في مصر، والتي من بينها قرارات تؤدي الى حل مجلس الشعب وإلغاء قانون العزل السياسي الذي أقره مجلس الشعب.
وكما رأينا في المثال الأمريكي، وغيره من الدول فإن القوانين الموجودة يمكن تفسيرها وتأويلها وليّها حسب الطلب. ولهذا فعلينا البحث عن الأشخاص قبل أن نبحث عن سلامة القوانين وتطبيقها.
عيّن حسني مبارك المستشار فاروق سلطان رئيساً للمحكمة الدستورية العليا في عام 2009 ، وصل فاروق سلطان الى رتبة مقدم في القوات المسلحة وبعد خروجه منها عينه وزير العدل السابق ممدوح مرعي رئيساً لمحكمة جنوب القاهرة ثم استحدث له منصب مساعد أول الوزير للمحاكم المتخصصة وقد تولى هذين المنصبين الهامين خلال شهرين فقط ليتم تعيينه بعدها مباشرة مستشاراً في المحكمة الدستورية ثم رئيساً لها. وقد لاقى تعيينه انتقادات واسعة من قبل العديد من القضاة والمحامين، فالعرف والتقاليد المصرية تقتضي تعيين أقدم مستشاري المحكمة في هذا المنصب.
لا يحتاج الأمر الى ذكاء لإدراك أن مبارك عيّن صديقه الحميم في هذا المنصب الهام ليخدمه بأمانة، وقد فعل، ففي انتخابات مجلس الشعب في العام 2010 صرح المستشار الأمين أنها انتخابات نزيهة خلاف إجماع العالم على عكس ذلك.
لم يفهم ساسة مصر الجدد المحاضرة التي ألقاها المستشار رفعت قبل نطقه بالحكم على مبارك، كانت بياناً سياسياً بامتياز لا علاقة له بحيثيات الحكم، قال لهم: النيابة التابعة للنظام السابق لم تزودني بالأدلة الضرورية كما ينبغي لمحاكمة المتهمين ولكن سأحكم على النظام ممثلاً برئيسه.
أنا هنا أدين النظام ومؤسساته كلها وممارساته عندما أدين الرئيس.
ويصرح ساسة مصر الجدد على اختلاف اتجاهاتهم أنهم يحترمون قرارات المحكمة الدستورية!
ببساطة شديدة يتركون لرجال النظام القديم إملاء نهجهم المضاد للثورة والتغيير. فهل يعقل مثلاً تمرير قانون العزل السياسي الذي يضر أصدقاءهم وأعضاء مجموعتهم الفاسدة؟ عمل كهذا يغاير المنطق وهو كمن يعتقد أن لإبليس أملاً في الجنة.
أما إذا دققنا في شرعية السلطات الثلاث في مصر فإن السلطة التنفيذية الممثلة في المجلس العسكري إنما هي سلطة مؤقتة باعتراف أصحابه، والسلطة القضائية الممثلة بالمحكمة الدستورية ورئيسها قد تم تعيينها من رئيس فاسد صدر عليه حكم قضائي وعلامات استفهام كبيرة تدور حول شرعيتها. والسلطة الوحيدة التي يمكن القول إنها تتمتع بالشرعية إنما هي مجلس الشعب المنتخب من قبل المصريين في أول انتخابات نزيهة عرفتها مصر منذ عقود.
فهل يدرك القائمون على مجلس الشعب أهمية السلطة التي في يدهم والتي تعطيهم إياها الشرعية الثورية؟ لم يحدث حتى الآن ، وعندما يقرر رئيسه ورؤساء الكتل البرلمانية فيه عقد اجتماع للمجلس في أي مكان في مصر وربما من الأنسب أن يكون ميدان التحرير، فإنما يقومون بتثبيت شرعية المجلس ووجوده كممثل لإحدى السلطات الثلاث، وهناك دائماً لحظات تاريخية دقيقة على من يتولى سلطة ما أن يتحمل مسؤولية وجوده فيها.
وعلى عكس ما يفترض من وقوف المجلس العسكري بصفته سلطة تنفيذية مؤقتة على الحياد بين السلطتين، التقط قرارات المحكمة الدستورية وأصدر قرارات تتصف بعصبية مطلقة هدفها تثبيت سلطاته مستقبلاً وذلك لنزع سلطات الرئيس المنتخب الذي كان معروفاً لديهم بعد ساعات قليلة من انتهاء الاقتراع.
لابد من الاعتراف أن إعلان الإخوان المسلمين لنتائج الانتخابات مباشرة والمشاركة في اعتصامات الميادين قد فوّت الفرصة على المجلس العسكري وأزلامه في المحكمة الدستورية على تزويرها.
ما فعله المجلس العسكري كان مثيراً للسخرية فقد نشروا شائعة موت مبارك ، علّ ذلك يفض اعتصام الميادين مستغلين إحدى صفات الشخصية المصرية التي تتميز بطيبة القلب والتسامح ، لكن الرجل خيب أملهم!
وكذلك أخروا إعلان النتائج ثلاثة أيام إضافية بحجة كمية الطعون المقدمة من المرشحين، متجاهلين أن وجود طعون 13 مرشحاً في الجولة الأولى لم تؤخر الإعلان دقيقة واحدة. وذلك بهدف السماح لشفيق بإعلان فوزه ، وكان إعلان (قضاة من أجل مصر) فوز المرشح محمد مرسي بمثابة الضربة القاضية لأي تزوير محتمل.
كانت قرارات المجلس العسكري التي عزز بها سلطاته من أجل الحفاظ على مستقبل مضمون لأفراده وخوفاً من تعرضهم للمساءلة على ما جنت أيديهم من قتل المتظاهرين وكذلك الثروات التي جمعوها بطرق غير مشروعة هي آخر معركة يخوضها.
يغيب عن ذهن هؤلاء أن توليفة وجود مجلس عسكري ورئيس واجهة تصلح في كل بلاد العالم إلا في مصر.
ما أطلق عليه (Military Junta ( كان صالحاً في كثير من دول أمريكا الجنوبية والى فترة قريبة في تركيا وهو موجود الآن في الجزائر. ولكن مصر لا يوجد فيها إلا فرعون واحد دائماً ، وهذه أيضاً إحدى الصفات المميزة للشخصية المصرية.
ولعل انتصار السادات على كل رجال سلفه، الذين سيطروا على الجيش وكل مرافق الدولة، بقوة المنصب فقط هي أنصع دليل على تفرد الشخصية المصرية وارتباطها الحميم برأس العائلة.أما أولى معارك الرئيس مرسي الناجحة فستكون بإقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان وتعيين ضباط جدد في هذه المناصب الهامة من خارج المجلس العسكري. وبغير ذلك لن يتحقق أي تقدم اقتصادي في الدولة ولن يتم القضاء على الفساد.
ومصر لا تتحمل رأسين أبداً.
أتمنى على الرئيس الجديد أن يحافظ على الجبهة التي جمعها قبل إعلان النتيجة وأن يضيف اليها كافة القوى النشطة في مصر. وقبل ذلك الإحساس بقوة المنصب وبالقدرات التي يمنحها له والتي يعززها ثوار الميادين الذين بحت أصواتهم وهم يسقطون حكم العسكر كل دقيقة.
مصر اليوم فيها روح جديدة لم تتوافر لها منذ قرون وهي قادرة على صنع المعجزات لو أحسنت إدارتها وهو ما كانت تفتقده وما كانت تطالب به بصبر وثبات فقد طالت معاناة الجماهير وعذاباتها ولم يعد بإمكانها تحمل أكثر من ذلك.