| | | | بؤس ثقافة العسكر
بقلم: زهير كمال ..................
معظم الإنتصارات العسكرية الكبرى في التاريخ تمّت على أيدي عسكريين غير محترفين، الاحتراف العسكري يقتل الخيال ويفقد صاحبه القدرة على الخروج عن النمط . تدريبات الإنضباط المتكررة التي يقوم بها العسكر لا تنظّم اجسادهم فحسب، بل تعمل على تنظيم عقولهم ايضاً بجعلها اكثر قبولاً لتلقّي الأوامر والطاعة. ولا يعني هذا ان عملية الانضباط سيئة بل هي ضرورية لنجاح العمل الجماعي، فالمطلوب في نهاية المطاف تكوين خلية نحل يعرف كل عامل فيها دوره وحدوده ولكن احد مساوئها الفرعية تضاؤل جموح الخيال لدى الافراد مع الوقت.
بعض الامثلة لتوضيح الفكرة: كانت نتائج الحروب بين أمبراطوريتي الساسان والروم متكافئة، تارةً تغلب الروم وتارةً الساسان، ولكن في الحروب الاسلامية ضد الامبراطوريتين كانت نتيجة معظم المعارك لصالح الجيوش الإسلامية، رغم وجود فارق شاسع في العدد والعتاد والإمداد والتدريب وفي بيئة جغرافية مجهولة. نلاحظ هنا ان كل قادة الجيوش الإسلامية كانوا رجالاً غير محترفين. خالد بن الوليد وابو عبيدة الجراح وعقبة بن نافع ومحمد بن مسلم الثقفي وغيرهم سجلوا أسماءهم في التاريخ ولم يكن أحد منهم قد دخل جيشاً من قبل. في العصر الحديث، كان الانتصار دائماً حليف المثقف الثوري الذي يضطر لقيادة جيش وخوض معارك رغم انه ليس عسكرياً محترفاً. في روسيا، أسس تروتسكي جيشاً جديداً اسماه الجيش الاحمر، حارب الجيوش القيصرية البيضاء وانتصر عليها. نقل جيشه بالقطار عبر روسيا وفاجأ عدوه باستمرار. في الصين، قام ماو تسي تونج بمسيرة طويلة في ريف الصين، انتصر في نهايتها على جيوش الكومنتانج وأسس دولة الصين الحديثة. في فييتنام انتصر هوشي منه وجياب( الذي أصبح فيما بعد جنرالاً) على جيوش دولتي فرنسا وامريكا. في كوبا انتصر كاسترو وجيفارا على باتيستا وأسسوا دولة كوبا الحديثة. كما أن جورج واشنطن وغاريبالدي وسيمون بوليفار لم يكن لهم علاقة بالاحتراف العسكري. أمثلة قليلة على رجال غير محترفين، ورغم فارق الامكانات، حققوا أهدافهم وانتصروا . وقد يقول قائل ان القضايا التي قاتل من أجلها هؤلاء هي قضايا عادلة، ولكن ما أكثر القضايا العادلة التي هزمت لأسباب كثيرة منها عدم الإصرار على النصر وقصر النفس وانعدام الخيال في توحيد الجهود وتوظيف الامكانات البسيطة المتاحة. على قلتهم، فان العسكريين المحترفين الذين أحدثوا فرقاً في حياة شعوبهم، لم يكن خروجهم عن النمط المألوف لأسباب ذاتية محضة فقط وانما لوجود مثقف بجانبهم طوّر استعدادهم الطبيعي وأدخل عامل الخيال الى جانب العسكرية المنضبطة. لا أجد سوى مثلين: في حالة الجنرال ديغول الذي أعطى المستعمرات استقلالها ورفض الهيمنة الامريكية ثم انفصل عن الناتو في مرحلة لاحقة وبشّر بالوحدة الاوروبية، ارتبط بصداقة حميمة مع أندريه مالرو الكاتب اليساري المعروف. الجانب الانساني وسعة الخيال والأفكار التقدمية التي تمتع بها مالرو انتقل جزء منها الى ديغول. وقد عينه ديغول وزيراً للثقافة في احد المراحل. في حالة جمال عبد الناصر الذي حول انقلاب 23 يوليو الى ثورة وقضى على الإقطاع وتحول الى الاشتراكية فيما بعد ودعم استقلال ووحدة العرب، وترأس دول عدم الانحياز، ارتبط بصداقة حميمة مع محمد حسنين هيكل الصحفي والكاتب واسع الإطلاع، وقد عينه عبد الناصر وزيراً للثقافة في احدى المراحل. ربما كان تأثير هيكل على عبد الناصر اكثر مما نتصور. لا يحتاج الأمر لاستعراض ملفات العسكر العرب ، فالوقائع على الارض خير شاهد على عجزهم الكامل، كان نجاحهم الوحيد السير الى الخلف فقط. ولكن لا بأس من استعراض الوافد الجديد الى الحكم في الوطن العربي وهو المجلس العسكري المصري: بدأ بدون لون او طعم او رائحة وقابل للإنضغاط. لكنه يحاول الآن صياغة مستقبل مصر بدون اي ذرة خيال. ادهى من ذلك، يحاول تقزيم الثورة ثم تصفيتها لاحقاً لترجع الأمور كما كانت عليه سابقاً. وبعكس الجيش التونسي الذي أيد الثورة ولم يتدخل في شؤون البلاد، ثم ترك المدنيين يدبّرون شؤونهم، قفز المجلس العسكري في مصر على السلطة بعد تخلّي مبارك عن منصبه، او ربما كان الأمر ترتيبات اللحظة الاخيرة قبل ان تفلت زمام الأمور من الطبقات الحاكمة، ومن خلفها، فمصر أثمن من ترك ثورتها تنتصر لتغيّر مستقبل المنطقة. كانت الخطة واضحة: لامتصاص غضب الجماهير الهادرة وارجاعها الى بيوتها، فلنعطهم رأس مبارك! الحق ان منظر الثورة المصرية كان رهيباً، اعتصامات الميادين على مدار الساعة ومظاهرات قدّر البعض عددها بعشرين مليونا في أحد أيام الجمعة امتدت الى كل المدن، عكست رغبة مصر في تغيير مسارها بعد وصولها الى طريق مسدود في عهد مبارك. في نظر المجلس العسكري، الثورة المصرية هي مجرد مظاهرات غاضبة تخالف النظام والإستقرار والأمن. ظهرت هذه النظرة في التشكيلات الوزارية المختلفة وتطوّر التنازلات التي لا تتم الا بالضغط. تكشّف بعد الثورة كمّ هائل من الفساد، وحجم هذا الفساد يجعل كل المجتمع يشعر بالخجل لما كان يجري، تشابه تماماً الشعور بعد حدوث الهزيمة، فالفرد كمواطن ليس له دخل في حدوثها، سلّم اموره للدولة التي من المفترض ان تحميه، فاذا حدثت، يشعر المجتمع كله بالاحباط واليأس ويبدأ البحث عن المسبّبات علّه يستطيع تخطّي الوضع المؤلم. حجم الفساد المكتشف يضع أفراد المجلس العسكري في وضع حرج: اذا كانوا لا يعلمون، فهذه مصيبة وتعني انهم لا يقومون بواجباتهم فمناصبهم واستخباراتهم تقدم لهم المعلومات عن العمولات والصفقات المريبة وطريقة صرف المعونة الامريكية. اذا كانوا يعلمون وغضّوا النظر فإن هذا يصنفهم بحكم المشارك. والحقيقة انهم جزء من النظام واستفادوا من الفساد الذي انتشر في جسد النظام كله، ان لم يكونوا كلهم فبعضهم وخاصة من هم في الفئات العليا في المسؤولية. الغريب ان احداً لم يطلب منهم اقرارات الذمة المالية حتى الآن! وكأنهم خارج دائرة المحاسبة. بدلاً من الشعور بالخجل لما اقترفت أيديهم ركبوا الموجة واخذوا يوجهون التحيات لثورة 25 يناير، مستغلين بعض ضعاف النفوس من مثقفي الطبقة الوسطى الذين طرحوا شعار الجيش والشعب ايد واحدة بدلاً من طرح شعار الجيش يد الشعب وعمل هذا على تشويش الثورة وتمييع أهدافها. كل مشاكل شعوبنا سببها مثقفي الطبقة الوسطى، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية. مثلاً تنظيم الاخوان المسلمين الذي يعتبر أكبر وأقدم تنظيم سياسي في مصر. تصرّفت هذه المجموعة، وما تزال، بشكل مثير للشفقة، أحياناً تقوم بعمل سياسي وأحياناً اخرى تقول انها لا تهتم بالحاضر. في التعامل مع ثورة 25 يناير ظهر التخبّط الواضح في كل أفعالهم، بعد انفجار الثورة كان عليهم ان يضعوا في اعتبارهم دفعها دائماً خطوات صغيرة الى الأمام، فلن ننكر عليهم ان نضالاتهم وتصدّيهم لنظام مبارك كان ضمن العوامل التي أدت لنضج الظروف الموضوعية لقيام الثورة. كان عليهم تقييم الفرصة التاريخية التي اتاحتها الثورة وتحديد الهدف النهائي وكيفية الوصول اليه وحساب تأثير كل موقف على الوضع العام . لم يحدث هذا، بل رجعوا خطوة الى الخلف بقبول التفاوض مع عمر سليمان، ثم أظهروا ندمهم لاحقاً. لحظة تخلّي الرئيس مبارك عن سلطاته كانت لحظة مفصلية في تاريخ مصر وكان على الاخوان الوقوف بحزم ضد المجلس العسكري. كان عليهم إثارة موضوع تسليم السلطات الى رئيس المحكمة الدستورية العليا والطلب الى الجيش العودة الى ثكناته مع شكرهم الجزيل على دعمهم الثورة. موقف كهذا يعني خطوة صغيرة الى الامام في مسيرة الثورة يحفّز باقي القوى على تبنّيه ويضع الاخوان في مركز القيادة . كان طبيعياً اتخاذ موقف مضاد من المجلس العسكري، فالاخوان كانوا من أكثر التجمعات السياسية التي اكتوت بحكم العسكر. لم يحدث بل تركوا السفينة تسير في البحر المتلاطم وتركوا عسكر النظام السابق يمسكون الدفة ويسيطرون على الوضع شيئاً فشيئاً. شكلوا حزباً جديداً والمفترض انه الواجهة الحضارية لتنظيمهم، بقبوله لكافة اطياف الشعب في صفوفه وخاصةً المسيحيين والنساء، لم يعطوه الفرصة للنمو واستمروا في نشاطاتهم وكأنه غير موجود. كانت نتيجة أفكارهم التقليدية ومواقفهم وافعالهم وثبوت عدم صلاحيتهم لتولّي السلطة ، تفكير الخارجية الامريكية بفتح حوار معهم. هلّل الكثيرون منهم لهذا الحدث الجلل، لا يدرك هؤلاء ان هذا ليس وساماً بل هي قبلة موتهم. في هذا الوطن العربي، من اقصى اليمين الى الوسط الى اقصى اليسار، من الاخوان المسلمين في مصر الى الحزب الشيوعي في تونس، كل أحزاب المعارضة التي شكلتها الطبقة الوسطى في كل البلاد العربية غير مؤهلة لتولي السلطة. ولعل اكبر مثل صارخ على ذلك، عدم استطاعة أحزاب اللقاء المشترك في اليمن القفز فوق تسعة كيلومترات مربعة تبقت للنظام القديم بعد شارع السبعين في صنعاء، ليس بفضل جهودهم بل بفضل تضحيات الشعب اليمني الصابر، ولا استطيع التكهن اذا كانوا بانتظار قدوم صاحبها الغائب من الرياض لتسليمهم مفاتيح السلطة. ستسير قافلة الثورة العربية والمؤمّل ان الشباب العربي الذي قام بالثورة يستطيع تجميع قواه وتكوين أطر جديدة تمكنه من استلام السلطة وتغيير حالة الفراغ السياسي الكاملة في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا وباقي الدول ، فالتغيير قادم لا محالة.
06/11/2014
مصرنا ©
| | | |
| | | | |
|
|