مرحلة النضج ونهاية انتظار الحاكم العادل
بقلم: زهير كمال
..................
ما زالت مجتمعاتنا تتوزع بين كفتين كفة فيها الراعي وهو الحاكم الفرد، يعيش كيفما شاء، يفعل ما شاء، يأمر فيطاع، يقرر الحرب والسلام ويقرر مصير شعبه. وكلما طالت مدّته في الحكم يزداد شعوره بأنه ظلّ الله على الأرض بفعل نفاق ماسحي الجوخ وتضاؤل أصحاب المواقف الحرة نتيجة القتل والسجن والتشريد.
وفي الكفة المقابلة الرعية ترجو ان يشعر بها راعيها فيشيع العدل فيها، يعرف مصلحتها فيحاول إنهاضها، تتمنى أن يكون منها لا عليها.
تقيس الشعوب انتماء حاكمها اليها بمقياس بسيط ولكنه صحيح، فاذا مات فقيراً فهو منها، تعتز به وتضعه في سجل الخالدين .
ما يؤسف له ان هذا السجل في تاريخنا لا يحتوي على أسماء كثيرة ففي عصر الخلفاء الراشدين: سجّل ثلاثة حكام أسماءهم دفعة واحدة وفي فترة قصيرة من الزمن، أبو بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب وكانوا من كبار زهاد التاريخ، والزهد منهج حياة وتطبيق فلسفة سامية.
أما عصر الأسرة الأموية فلن نجد سوى حاكم واحد هو عمر بن عبد العزيز، وفي العصر الحديث لا نجد الكثير وربما كان أبرز اثنين: جمال عبدالناصر وهواري بومدين.
في الغالب يميل الميزان نحو كفة الراعي، فمنذ فجر التاريخ تقف أهرامات مصر دليل على شقاء الرعية وعذاباتها، قبور كبيرة وفخمة تحتوي مومياوات ملوك سيبعثون من جديد للحياة وحدهم، بنيت بموت الكثير من أفراد الرعية الذين لن نسمع عنهم فهم ملح الارض.
واليوم تمثّل العشوائيات ومدن الصفيح المنتشرة حول المدن الكبرى في عالمنا العربي دليل استمرار مأساة الرعية ومدى الإهمال والمعاناة الدائمة التي تعيشها.
عبر التاريخ قلّما حظيت الرعية بما تتمناه، تحوّل الموضوع الى حلم جميل، يوماً ما سيأتي حاكم عادل يشيع العدل والرحمة بين الناس وما عليها سوى الصبر على حاكمها ولو كان ظالماً.
كتب الكثيرون عن علاقة الحاكم بالمحكوم وسيظل الموضوع محور اهتمام الباحثين عن سعادة البشرية، وفي تاريخ منطقتنا تولى السلطة عدد كبير من الشخصيات الباهتة التي لا نسمع عنها وليس مهماً لأحد معرفتها او تذكرها، وكان من الممكن أن يضاف حكّامنا الحاليين الى القائمة الطويلة لو بقي حاضرنا استمرار كئيب للماضي وتكرار ممل لأيامه. ولكن عصرنا هذا يختلف عن غيره من العصور فتطوّر البشرية خلال فترة قصيرة لا تتجاوز مائة عام الماضية يعادل او يزيد مجمل التطور البشري منذ فجر التاريخ.
حتى وقت قريب، بدا ان هذا التطور لم يصل الينا، ففي كفة الراعي وجدنا مواكبة العصر في التفنّن في أدوات القمع المختلفة التي تهدف الى الحفاظ على مركز الحاكم (الأمن العام والنظام)، أدوات تبدأ بحزب يرفع شعارات براقة الى إعلام يطبّل ليل نهار بمآثر الحاكم، كرمه، رحمته وحبّه لشعبه الى أجهزة أمن ومخابرات ترهب الرعية وتشلّ تفكيرها.
وفي كفة الرعية، بدا ان الروح قد خبت بفعل وسائل العولمة المختلفة التي تعمل على تفتيت المجتمعات، كل فرد يعمل على حل مشاكله بنفسه مع القناعة بالنصيب وما هو مكتوب.
ثبت ان تحت الرماد نار متأجّجة لا تخبو وساعد على إضرامها عوامل كثيرة من أهمها الإدراك الكامل ان الحاكم الحالي ليس في الكفة الاخرى فحسب بل في واد مختلف، وآخر ما يفكر فيه هو المصلحة العامة.
وصلت الرعية الى مرحلة اليأس فلن يأتي الحاكم العادل لوحده، بل عليها ان تشمّر عن سواعدها والإتيان به بنفسها.
هي مسألة واضحة فالمواطن يقول للحاكم : اذا أردت أن تتولى السلطة وتحكمنا فيجب ان أختارك وسأراقب عملك وسأحاسبك إن قصّرت وسأقيّم أداءك في نهاية المدة المحددة فأمنحك فترة اخرى او أنقل السلطة الى غيرك.
ومن اجل إقرار هذا المبدأ يمكن ان أضحي بحياتي وأموت في سبيل ذلك.
وهذا ملخّص ما تعنيه الثورات العربية وتظهر بشكل بارز وصول المجتمعات العربية الى قمة النضج في حل مسألة الحكم بعد أن تركت للظروف ولأهواء النخب وبعض العائلات ذات الدم الأزرق او بعض الأفراد الذين يستطيعون الوصول الى القمة وفرض أنفسهم على شعوبهم.
من أبرز ملامح الوصول الى مرحلة النضج هي المشاركة الواسعة للنساء في المظاهرات والإعتصامات وبروز قيادات نسائية هامة ومؤثّرة، وظهر الإستعداد للاستشهاد في سبيل عالم جديد مختلف عما ألفناه طيلة التاريخ، ولعل المفارقة الملفتة للنظر ان هذه المشاركة لا علاقة لها بوضع المرأة في المجتمع، فالمشاركة في تونس حيث حصلت المرأة على حقوقها بالقوانين او بنظرة المجتمع اليها هي نفس المشاركة في اليمن والتي فيها إهدار كامل لحقوقها.
ومن علامات مرحلة النضج هو التمرد الذي يصل الى مرحلة حمل السلاح ضد الحاكم كما يحدث في الحالة الليبية.
فقد جرت العادة أن يستعمل الحاكم السلاح ضد كل من يرفع رأسه وإلصاق كل التهم التي يحتويها القاموس، وكان الجميع يقف مذهولاً ولا يحرك ساكناً فشعوبنا يعتريها الخجل ان تفعل شيئاً ضد من يتولى السلطة من ابناءها وتتمثل قول طرفة بن العبد :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنّد
ففي الوقت الذي قامت به شعوبنا بالثورات ضد الاحتلالات الأجنبية وقدّمت التضحيات الكبيرة للتخلص منها كان أقصى رد فعل على ظلم القريب (الحاكم) هو الشكوى منه.
والثورات العربية تعني الانتقال من مرحلة القبيلة الى مرحلة المجتمع.
هذه لحظات تاريخية في تاريخ شعوبنا، لحظات نشهد فيها الصراع بين قوى التغيير والتجديد في المجتمع وقوى الجمود والحفاظ على الوضع القائم، صراع بين قوى الثورة وما تحمله من قيم الطهارة والشفافية والبراءة، وبين الحرس القديم وما يمثّله من فساد ومحسوبية ولصوصية وتخلّي عن القيم والمباديء وتفريط بالشرف والأرض.
في المنطقة الرمادية بين الثوار والحرس القديم طيف عريض يقف فيه مثقفو الطبقة الوسطى وأحزابهم وما أسرع تقلّص عرض الطيف مع الوقت بانضمام مجموعات منهم الى كفّة الثوار التي ترجح بالتدريج.
من المفارقات الطريفة ان البعض منهم يؤيّد الثورات العربية في كل الدول الا دولهم ولو تعمّقوا في التحليل قليلاً لما وجدوا أي فرق في الظروف الموضوعية المؤدّية للثورة.
أما رجال الدين فانهم يميلون في العادة الى الحرس القديم نتيجة للتربية التقليدية التي نشأوا عليها.
وبعض رجال الدين الذين يؤيدون الثورات العربية قد سببوا ضرراً كبيراً لهذه الثورات بعدم الوقوف مع ثورة البحرين، فالظلم لا طائفة له ومن حق أغلبية الشعب ان يحكمهم راع من نفس الطائفة ومع التقدم وتغير القيم داخل المجتمع تصبح الكفاءة هي المعيار ومثل على ذلك ان الولايات المتحدة ذات الاغلبية البروتستانتية قد اختارت رئيساً من الأقلية الكاثوليكية (جون كيندي) بعد مائتي عام من استقلالها. طبعاً مواقف كهذه تدفع أهل البحرين الى حضن الطائفية ولكن لن يؤثر بعض الجهلة على عروبة شعب البحرين وأصالة انتمائهم للأمة.
كوننا لا نعيش وحدنا على الأرض يجعلنا عرضة للآخرين يحاولون الاستفادة من ثوراتنا، ففي الحالة الليبية مثلاً تدخلت القوى الغربية بحجة حماية المدنيين وهم يجرّبون الأجيال الجديدة من أسلحتهم المتطورة ويقومون بالتدمير الممنهج للبنى التحتية في البلد، والهدف واضح فشركاتهم تنتظر نهاية الحرب للحصول على عقود إعادة البناء الضخمة من باب الإعتراف بالجميل.
هذه الشركات التي تحكم الغرب وغيرت معنى الديمقراطية فيه، تستفيد من المآسي والمصائب بل ربما تعمل على تخليقها لتمتص دماء الشعوب بما فيه شعوبها (تضاعفت أسعار المحروقات في الغرب مستغلين العامل النفسي فقط).
قديماً قدّمنا للعالم الكلمة والأديان وغيّرناه وحديثاً بعد نجاح ثوراتنا سنقدم له نموذجاً للديمقراطية الحقيقية وسنغيره من جديد.
فهذا فجرنا قادم!