مفهوم السلطة في العالم العربي ج 3
| |
سلفا كير | |
بقلم : زهير كمال
....................
من منا لا يحب بلاده ؟ ربما لا يتعرّض عموم الناس للاختبار ومعرفة جواب عملي على هذا السؤال طيلة حياتهم ، وللبعض خاصة في المناطق الساخنة كل يوم يصلح ان يكون اختباراً . ربما تقرأ مقالاً في جريدة او تتصفح موقعاً يتعرض لوطنك او ابناءه فتغضب ، او تتألم بصمت ولهؤلاء الذين انعم الله عليهم واستطاعوا السفر الى الخارج ، ربما يرون منظراً جميلاً فيتحسرون ان وطنهم يخلو منه ، وربما يرون منظراً سيئاً فيحمدون الله ان بلادهم لا تزال بخير ، اما هؤلاء الذين يركبون قوارب الموت او يتسربون عبر الحدود هرباً من بلادهم بحثاً عن فرصة عمل شريف سيظل لسان حالهم يردد مع ابي فراس الحمداني .بلادي وان جارت عليّ عزيزة واهلي وان ضنّوا عليّ كرامالانسان دائماً يتمنى الخير والعزة والتقدم لوطنه الذي يعيش فيه او هاجر منه.
واقصى خيار هو ان يضحي الانسان بحياته من اجل الوطن كما فعل المقاومون في بلادنا على مر التاريخ فاينما حللت في هذا الوطن العربي الكبير تجد مقابر الشهداء في كل ركن منه، اكبر دليل على مدى حب الناس لوطنها ومدى استعداد الأغلبية من البسطاء للتضحية القصوى ، وهذه الصفة لن تتغير مع الزمن موضوعنا ليس عن هؤلاء العظام الذين لا يبخلون بحياتهم من اجل الوطن ، بل عن قلة من الافراد قلّما تتعرض لاختبار نوايا ، وسؤالنا لو تعرض احدهم لموقف يستدعي التضحية ، فهل يضحي بنفسه من اجل وطنه ام يضحي بوطنه من اجل نفسه؟
حاكمنا العربي بدأ عهده بخطبة عصماء تعطيك الانطباع بأنه طيب او تجعلك تفكر : هذا رجل يحب بلاده ويتمنى الخير لها وسيرفع من مستواها وسيقضي على الفقر وسيحقق العدل للجميع ، ولن يكون مثل سلفه الذي افقر البلاد والعباد وقزّم الوطن وقلل من قيمته ، دعونا نتفاءل خيراً بالحاكم الجديد ، ولنعطه الفرصة ليبدأ برنامج الاصلاح الذي يتكلم عنه.
يفاجأ مواطنوه ان الوعود التي قطعها على نفسه تتلاشى شيئاً فشيئاً مع الزمن حتى تتبخر نهائياً ويرجع الوضع الى ما كان عليه قبل وصوله الى السلطة ، بل اسوأ ، فالاستبداد والتسلط والقمع اصبح مقنناً ( اي بقانون) .
قلّما يتغير الدستور في دول العالم التي تحترم نفسها ، ولكن العالم العربي شهد في معظم دوله تغييراً سريعاً للدستور يصب في مصلحة طرف واحد من اطراف التعاقد وهو الحاكم الذي يملك السلاح والمال والاعلام، ولكن ما دام حاكمنا يحمل خاتماً مطاطياً في يده يسميه البعض مجلس نواب او امة فان هذا العقد الاجتماعي ( على علاّته) اصبح لا يساوي قيمة الحبر المكتوب به .
لو كان حكامنا مثقفون لأجمعت انهم قرأوا كتاب الامير ولقلت انهم تتلمذوا على ايدي ميكافيللي في كيفية الوصول الى السلطة وفي كيفية الاحتفاظ بها ، ولكنهم للاسف ليسوا كذلك ، وانما يطبقون المثل المصري القائل ( اتمسكن لما تتمكن ) ، وهو مثل يدل على قمة الانتهازية التي يتمتع بها الحاكم العربي وقد طبّقه حرفياً. ولنأخذ مثلاً استولى عمر البشير على السلطة في السودان في 30 يونيو 1989 بعد قيامه بانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً والتي كان يرأسها الصادق المهدي وسمى انقلابه ب ( ثورة الانقاذ ) ولم يعرف حتى هذه اللحظة انقاذ ماذا او ممن، التهمة الجاهزة دائماً عند العسكر هي الفوضى التي تعم البلاد ، لن يهضم العسكر في بلادنا معنى الحياة الديمقراطية ولن يعطي اعداء الامة الفرصة لتجذير الحكم الديمقراطي ومفاهيمه ، وربما كان المهدي غير كفؤ لتولي السلطة في البلاد ولكن الجماهير ستكتشف ذلك وتقوم بتغييره في دورة انتخابات قادمة .
(الحكم الديمقراطي جاء عبر انتفاضة ابريل 1985 التي استطاعت التخلص من دكتاتور آخر اسمه جعفر النميري . وآن الاوان للمثقفين لدراسة وتحليل هذه الانتفاضة العظيمة والتعلم من دروسها فربما ستكون مثالاً يحتذى به في العديد من الاقطار العربية التي ستنضج ظروفها الموضوعية عاجلاً ام آجلاً!) لتثبيت اقدامه في الحكم استعمل البشير الجبهة الاسلامية القومية التي يرأسها الدكتور حسن الترابي ، كثير من الطغاة يستعمل الدين والحركات الاسلامية كجسر ( كوبري) ليتمكن من السلطة ، وبعد ذلك يتخلّص منها لانها تمثل عبئاً عليه ، وفي رواية اخرى ان الترابي هو الذي قام بالانقلاب على الديمقراطية مستعملاً العسكر ليفرض رؤيته ( الاسلامية ) للحكم ، علماً ان الرجل قد فشل في الحصول على مقعد في المجلس النيابي الذي تلا الانتفاضة ، على كل حال الترابي اليوم يعض اصابعه ندماً على ما اقترفت يداه بحق الديمقراطية ، فما يجري في السودان اليوم من مصائب انما يقع على كاهله، والرجل اليوم نزيل شبه دائم في معتقلات البشير ! هذا يعطي الدرس لكافة المثقفين، على كافة اتجاهاتهم، انه لا بديل عن الديمقراطية وان لا يثقوا في العسكر ابداً.
السودان اليوم مثل واضح على الدولة الفاشلة ويرجع السبب الى الدكتاتورية العسكرية التي لم تستطع التعامل مع المؤامرات الخارجية بذكاء وحكمة ، وهدف هذه المؤامرات تفتيت السودان الى دويلات صغيرة تستطيع الدول والشركات الكبرى استغلال ثرواتها بثمن بخس ، وقد التقت مصالح هذه الشركات مع الحركات التبشيرية النشطة في الجنوب وسأختصر هنا بعض المفاصل والنقاط الهامة في المسيرة السودانية ومستقبله المحزن.
1. سقطت طائرة الدكتور جون جارانج في 30 يوليو 2005 ، من المعروف ان الطائرات هي آمن وسيلة مواصلات في العالم ، ولكنها بالنسبة للقادة والزعماء هي اسرع طريق الى العالم الآخر.
وبموت الدكتور جارانج انتهى الامل ببقاء السودان موحداً فقد كان وجوده صمام الامان للوحدة ، وذلك لايمانه العميق بأن فقراء الجنوب لا يختلفون عن فقراء الشمال فالمعاناة واحدة والاسباب واحدة والحل الامثل يجب ان يكون للجميع .
2. ثارت ازمة دارفور ووقفت الدولة وجيشها الى جانب فئة من السكان ضد اخرى وهذا يتم كثيراً في الدول الدكتاتورية التي تخضع لمزاجية الرئيس.
3. تم توجيه تهم كثيرة على المستوى الدولي لاول مرة الى رئيس دولة وهو ما زال في السلطة ، والهدف واضح شل تفكير الخصم لتمرير المخططات الجهنمية ضد السودان وشعبه.
4. حان موعد انتخابات رئاسة الجمهورية في شهر ابريل 2010 ورشح البشير نفسه من ضمن عدد كبير منهم ياسر عرمان مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان ( شركاء البشير في الحكم)، في هذه اللحظة كان على البشير ان يتوقف ويسأل نفسه ان كان يحب السودان او يحب نفسه اكثر! لو كان يحب السودان لتنازل لياسر عرمان وبهذا يحافظ على وحدة السودان ويغير قواعد اللعبة. ولكن سرعان ما سحب عرمان ترشيحه ، تغلّب جناح الانفصاليين في الحركة فهم لا يريدون توريط انفسهم في سياسات الشمال واستفتاء الانفصال على الابواب في بداية 2011
5. كانت حجة عرمان ، وغيره من المرشحين، للانسحاب هو توظيف الدولة السودانية امكانياتها لانجاح مرشحها البشير مما يعني تزوير الانتخابات.
6. بعد الانتخابات وحدوث تزوير واسع لصالح البشير اقرت به كل فئات المعارضة السودانية ، كان اغرب تصريح يقر بنزاهتها عكس الجميع هو تصريح القس جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة السابق ، كارتر لا يعنيه شمال السودان بل عينه على الجائزة الكبرى دولة الجنوب المسيحية المستقلة التي تسمح لحركات التبشير بالعمل بحرية تماماً. ( التبشير = تبعية للغرب )
7. يبدو ان التهم لم تقعد البشير عن الحركة فتم توجية تهمة الابادة الحماعية له وهي تهمة في منتهى الخطورة ، لو كانت العدالة الدولية معصوبة العينين فعلاً لتم توجيه هذه التهمة الى جورج بوش وتوني بلير والعائلة السعودية لما اقترفته ايديهم بحق العراق، اما اذا اردنا توجيه تهمة مماثلة لتهمة البشير ، اي بسبب مسائل داخلية محضة ، فانه يمكن توجيه تهمة الابادة الجماعية لحسني مبارك في مقتل 1300 مصري في غرق عبارة السلام وفي اصابة 11 – 13 مليون مصري بامراض وبائية وفي السماح للمواد المسرطنة في الزراعة لتقليل نسبة الذكاء في الاطفال والمواليد الجدد وهذه اخطر تهمة يمكن ان توجه لرجل فهو يتدخل في المستقبل ويدمره ( لم نخرج من الحدود المصرية بعد) .
بعد هذا الموجز البسيط لنسأل انفسنا !
أ. ايهما اهم مستقبل البشير ام مستقبل السودان؟
ب. ماذا قدمنا لاهل الجنوب ليرفضوا الانفصال؟ للاسف الذبح والتقتيل وتدمير القرى طيلة حكم الدكتاتوريات قصيرة النظر التي حكمت الخرطوم. واليوم هناك عائد من دخل البترول يعتقدون انهم اولى به بدل ارساله للخرطوم وحكومتها الفاسدة ، وللتذكير فقط فعلى ضفاف البحر الاحمر المقابلة نجد اوضاعاً مشابهة مع العرب الاقحاح سكان جنوب اليمن فقد كفروا بالوحدة وتسليم السلطة لدكتاتور فاسد سرق حتى قوت يومهم !
بقيت أشهر على انفصال الجنوب وهي الخطوة الاولى في تفتيت السودان ويعيد التاريخ نفسه فقد تم تقسيم سوريا الطبيعية في اوئل القرن الماضي واليوم يتم تقسيم السودان الطبيعي على مرآى ومسمع العالم العربي الذي سيعض اصابع الندم انه لم يفعل شيئاً للاجيال القادمة بل يقدم لها مصيراً مجهولاً ومحفوفاً بالمخاطر!
اليوم في عصر المعلومات لا حجة لأحد فالجميع يعرف ولكن الجميع مصاب بالشلل تماماً مثل البشير!