تزوير في صور رسمية
...............................................................
| |
مبارك الصغير | |
بقلم: زهير كمال
.................
عندما وصلت الدعوة لحضور بدء المفاوضات بين محمود عباس ( بصفته الشخصية ) وبين اسرائيل ، فكّر حسني مبارك : والله ، فرصة ثمينة لتقديم ابني جمال الى المجتمع الدولي ، رغم قصر الوقت بين تبليغ الدعوة وبدأ الحفلة ولكن لابد مما ليس منه بد.
في الطائرة التي أقلتهم الى واشنطن سأل جمال ابوه الذي يعتبر خبيراً في الشؤون الدولية نظراً لطول المدة التي قضاها في الحكم ، قرابة ثلاثين عاماً مر عليه فيها خمسة رؤساء امريكان
- تفتكر يا بابا في بوادر حل هذه المرة؟
اعتدل حسني في جلسته ، ابتسم قليلاً وقال :
- انت سمعت النكتة عن ياسر عرفات لما قابل ربنا وسأله امتى المشكلة الفلسطينية حتلاقي حل !
ضحك جمال من نكتة ابيه ، الذي استمر قائلاً
- المشكلة دي لا يمكن تـنحل ، الاتنين أعند من بعض، وبعدين في حاجة الناس مش فاهماها . انت فاكر لما السادات قال ان 99 % من اوراق الحل بايد امريكا، الله يرحمه ، كان غلطان والحقيقة 100% من اوراق الحل بيد اسرائيل ، بس احسن الواحد ما يتكلمش عن الموضوع ، الناس حتزعل قوي ، اذا كان السادات قالها قاموا اغتالوه ، حيعملوا ايه لو الواحد قالها !
كان جمال يسمع كلام والده ويحاول استيعاب الدروس القيّمة الناتجة عن الخبرة ، وأي خبرة !
يوم الاحتفال ببدء المفاوضات والقاء خطب الدول المشاركة ، كان حسني يقدّم ابنه جمال لكل فرد يقابله، لم يتم احصاء العدد بالدقة ولكنه كان كبيراً ، في الطريق الى مكان الاحتفال سأل حسني ابنه
- تعرف فين الحمّام هنا ؟
وجدا الحمام بعد المرور بعدة ممرات في البيت الابيض ، دخل حسني الى الحمام ، ولمح جمال شخصاً يعرفه في بداية الممر ، ذهب اليه لتمضية الوقت ، التفت جمال بعد فترة يتفقد والده فقد تأخرا على موعد بدء الاحتفال، وجد ابوه يكلّم نفسه امام الحائط المواجه لباب الحمام ، ذهب مسرعاً نحو والده الذي سمعه يقول: جمال ابني رئيس لجنة السياسات في الحزب عندنا .
- بابا ، انت بتكلم مين؟
- واحد معرفة ، انا شفته قبل كده
- بابا لازم نلحق الاحتفال، فات خمسة دقايق
نظر جمال خلفه وهما يبتعدان ، لم تكن هناك سوى مرآة كبيرة معلّقة على الجدار امام باب الحمام.
قال لابيه : الخطاب في جيبك اليمين .
توجّه لمكان القاء الخطب ، كان الزعماء الاخرين قد سبقوه قليلاً ، تم التقاط الصورة الرسمية للاحتفال وسارت الامور على ما يرام
بعث بنجامين نتنياهو دعوات الى جميع المدعوين لحضور اوبرا الشحاذ وارفق ملحوظة بسيطة بخط يده ( لتغيير جو التوتر والسياسة ) ، اعتذر الوفد الامريكي لمشاغله .
عنما حضر الجميع الى القاعة قال نتنياهو مبتسماً ومخاطباً عباس على مسمع الجميع : انها فرصة ثمينة لحضور هذه الاوبرا فهذا آخر موسم لها في واشنطن ، وهي معروضة منذ مدة طويلة ، على ما أذكر منذ سبعة عشر عاماً .
فكر عباس : هل يقصد بيبي اتفاقية اوسلو بهذا التاريخ ، كان يبتسم ببلاهة ونظرات نتنياهو المتبسّمة نحوه تبعث برسالة خيل اليه انها تقول : how disgusting !
عندما وصلت صورة المتسابقين الى منصة الخطابة الى المحرر المسؤول في جريدة الاهرام ، تأملها ملياً واخذ يطيل النظر اليها ، احيانا تكون بعض الصور تعبير عن الواقع .
وبدون ان يشعر اغرورقت عيناه بالدموع ، رئيس الجمهورية في مؤخرة الصورة ولا علاقة له بأحد ولا علاقة لأحد به ، يعني مصر كلها كِمالة عدد ، مجرد شاهد زور وعبد المأمور كما يقولون ، تذكر ايام العز عندما كانت مصر لها الكلمة الفصل فيما يدور حولها ويحسب لها الجميع الف حساب وينتظرون رد فعلها ، مرّ شريط الذكريات امامه : ايه يا مصر هجمت عليك 3 دول يحاولون كسر انفك في عام 1956، والنتيجة صمود وانتصار ، طيّرت يا مصر فيها رأسي بريطانيا وفرنسا ، انتبه ليجد دموعه تملأ وجهه ، خرج الى شرفة مكتبه ودخّن بدون انقطاع عدة سجائر( لم يتسنّ معرفة عددها لأن الفراش لم يدخل الشرفة لعدة ايام ) ، كان يحاول النسيان والرجوع الى الواقع . قال في نفسه لا يمكن عرض الصورة بهذه الطريقة فهي اهانة لمصر ، ماذا سيكون رد فعل الناس عليها؟ وبعد تفكير خرج بحل يعبّر عن مصر التي عرفها وأحبها وضع صورة مبارك في المقدمة كما يجب ان تكون، ولن يلاحظ احد ! فرح وهو يرى التحول الجديد
مصر الشابة الفتية في مكانها الصحيح .
عودة الى واشنطن ، انتبه السكرتير الصحفي للبيت الابيض جيبس لصورة الاهرام الجديدة عندما وصلت الى مكتبه نسخة مترجمة منها من ضمن صحف عديدة في العالم تصله وذلك لقياس الرأي العام في العالم،
استشاط غضباً وضرب بيده على المكتب ووقعت نظارته على الارض ، فهذه محاولة دنيئة لسرقة الاضواء من اوباما فهو يعرف ان الناس تهتم بالصور اكثر من القراءة في بلدان العالم الثالث ، يحتاج الرئيس الى حملة العلاقات العامة هذه لتحسين صورته كصانع سلام في العالم وستـنعكس تلقائياً على الناخب الامريكي المتذبذب والذي اهتزت ثقته بالديقراطيين .
اتصل جيبس بالخارجية لكي يقدموا احتجاجاً للخارجية المصرية وبهذه الطريقة يتلاشى أثر الصورة المزوّرة
وصلت الاخبار السارة اثناء اجتماعهم ان التزوير انكشف ، ولهذا فلا داعي لاتخاذ اجراء ، بل بالعكس استفاد اوباما وظهر من هو السيد في هذا العالم.
ردود الفعل على الحدث :
استشاط الجميع غضباً من تزوير الصورة التي قام بها المحرّر بحسن نيّة وكان الغضب موجّهاً نحو الاهرام وطاقمها خاصّة والاعلام العربي عامة ، الغريب لم ينتبه احد الى مسبّب المشكلة ، الم يكن بامكانه ان يركض قليلاً ويلحق بباقي الزعماء ، او من الممكن ان يسبقهم ، فهو يعرف قيمة حملة العلاقات العامة واهمية الاعلام والصور ، بدلاً من الاستغراق في فكرة التعريف بابنه جمال .
أطرف التعليقات كانت لعبد الباري عطوان ، بعد اظهاره لتخوفاته من عدم استضافة الفضائيات الغربية لفقدان المصداقية في نظر العالم ، قال ان الرئيس مبارك لا يعلم ولكنها الشلة الفاسدة ، بعض رؤساء التحرير يريدون تسريب خبر معين بنفيه ، آخر مثل كان نفي محمد حسنين هيكل لامكانية تسميم عبدالناصر بتناول فنجان قهوة اعدّه له السادات ، كان يحلف باغلظ الايمان انه لم يفعلها.
محمد فرج مواطن عادي بسيط ينهض قبل موعد الدوام بثلاث ساعات يخصص ساعة منها للوقوف في طابور الحصول على الخبز الساخن من احد الافران في احد احياء القاهرة ، ولما كان محمد يتابع الاخبار دائماً ، كان يأخذ من صديقه صاحب كشك الصحف والمجلات ، جريدة او مجلة يتسلى بها وفي العادة يعطيه احد الاعداد من المرتجع ، ومحمد لا يبالي بتأخير يوم او يومين ، فالمبلغ الذي يدفعه آخر الشهر بسيط جداً ولا يؤثر على ميزانيته .
هذه المرة اعطاه صاحب الكشك عدد الاهرام الذي يحتوي على الصورة المزوّرة ،
قال لجاره عدلي من الطابق الثاني والواقف معه في الطابور وهو يريه الصورة :
شايف الريّس دايماً مشرّفنا ، في الصدارة على طول !
تامل عدلي الصورة وقال : معقول ؟ الصورة دي في البيت الابيض في واشنطن ، انا الفار بدا يلعب في عبّي( اصطلاح شعبي عن الشك) .
نادى عدلي على جرجس الواقف قبل ثلاثة افراد في الطابور ، وجرجس الساكن في الطابق الخامس يقضي وقت فراغه متصفحاً الانترنت .
- جرجس تعالى والنبي ، ايه رأيك في الصورة دي ؟
رد جرجس : يا ريت ! لعبة الاهرام انكشفت والصورة مزورة وأشار الى مكان وقوف مبارك : الريّس كان واقف هنا .
بهت محمد وقال : الحق على اسماعيل ( صاحب الكشك) اللي بيديني صحف فيها تصاوير مزورة
قال عدلي مقلداً عادل امام : يا فضيحة بجلاجل للست ام حناجل
لم يسأله احد من يعني ب ( ام حناجل)
قال جرجس : هم يغشون في العيش وفي اللحمة وفي الفراخ وفي كل حاجة ، مش حايغشوا في صورة !
في مبنى صحيفة الاهرام احضر اسامة سرايا طبيباً نفسياً للمحرر سبب المشكلة وقد ذكر الطبيب ان المحرر مصاب بانفصام الشخصية وهي حالة عامة مصاب بها العديد من المثقفين وهي ناتجة عن العجز الذي يشعرون به ، وهذا الشعور ناتج عن اخفاقات متعددة ومتلاحقة في الحياة العامة ، وفي نهاية التقرير قال الطبيب النفسي : واذا عرف السبب بطل العجب ، وهذه العبارة لم يفهمها مستر سرايا.
ولكن مثل القادة العظام وقف رئيس مجلس الادارة مع المحرر الذي ارتكب التزوير وهاجم مستغرباً كل هذه الحملة السخيفة. كان يفكر انه ما دامت الحكومة تدفع الرواتب وتشتري الجرائد كل يوم لتوزيعها على دوائرها ، لا مشكلة.
في شقته المطلة على النيل ، كان محمد حسنين هيكل يتأمل ما جرى ويتألم بصمت فالاهرام هي ابنته الصغيرة ، بناها طوبة طوبة وجعل منها صحيفة عالمية تماماً مثل نيويورك تايمز ولوموند وبرافدا وآساهي ، وكانت الناس تنتظر اعدادها بفارغ الصبر،
حاول كعادته ان يجد بيت شعر مناسب لهذه المصيبة ، كان الحزن يعتصره ، لم يجد شيئاً سوى:
اللي استحوا ماتوا!