الجوع بين الماركسية والاسلام
...............................................................
| |
كارل ماركس | |
بقلم: زهير كمال
..................
انبيك علياً لو جئت اليوم لحاربك ..... الداعون اليك وسموك شيوعياً(مظفر النواب) وقال ماركس : الدين افيون الشعوب. فهل ينطبق قوله هذا على الدين الاسلامي ؟
لم يكن القرن التاسع عشر قرناً هادئاً في اوروبا فقد حفل بآلاف الانتفاضات الصغيرة في كافة ربوعها وامتدت من أقصى الشرق حيث شهدت روسيا القيصرية انتفاضات الفلاحين ضد الاقطاع وحتى اقصى الغرب متوجةً بكومونة باريس عام 1871 التي رأى فيها ماركس تطبيقاً لنظرياته في ثورة البروليتاريا.
كان الجوع الناتج عن الاستغلال والفساد هو المحرك الاساسي لهذه الانتفاضات ، بالرغم من كون الحكومات الاوروبية في منتهى الغنى والقوة بعد أن احكمت استعمارها لكل العالم ، فبريطانيا العظمى مثلاً كانت الشمس لا تغيب عن مستعمراتها، لأن الله يعلم ان الانجليز يمارسون شروراً عظيمة في الظلام ، قالوها على سبيل التندر ولكنهم اثبتوا ذلك فعلاً عندما اجبروا على التخلي عن مستعمراتهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين ، وتركوا مشاكل مستعصية على الحل مثل فلسطين وكشمير وغيرها كثير.
كان ماركس صاحب الفلسفة المادية ينظر باستغراب الى الجماهير الغفيرة تتردد على دور العبادة لتجد بعض الاسى والتعزي وهي تشعر بالعجز امام غول الرأسمالية والاستغلال . يريد منها الثورة على اوضاعها، لا ان تتحملها وتصبر عليها، فعلاقات الانتاج وخاصة في القطاع الصناعي تميل بشكل حاد لصالح اقلية من الاغنياء وتضطر الاغلبية للعيش ظروفاً في غاية القسوة. تلك الاوضاع دفعت كثيراً من الفلاسفة المتنورين للتفكير بطرق الخلاص ، ولكن ماركس كان اكثرهم تطرفاً في تبنّيه لصراع الطبقات وانحيازه المطلق للعمال الذين لن يخسروا في حالة الثورة على اوضاعهم المهينة سوى قيودهم . كان يحلم بمجتمع مثالي خال من الاستغلال يبذل الفرد فيه طاقته وياخذ منه حاجته.
ولكن تطبيق نظريات ماركس على ارض الواقع كان مخالفاً لأحلامه الوردية ففي اول دولة تعلن صراحة تبني فلسفته وهي روسيا ، التي كانت مجتمعاً فلاحياً بسيطاً مقارنة بغرب القارة الصناعي. اصبحت الدولة هي صاحب العمل الوحيد، وبدون طموح لمستقبل افضل ومع تفشي البيروقراطية بدأ الكسل يدب في افراد المجتمع، وبدأت الدولة كأي رأسمالي يريد الحفاظ على مصالحه تزيد من اجهزة الرقابة على الافراد، وادى ذلك الى الاحباط والخوف. وليس افضل من رواية (1984 لجورج اورويل) لوصف هذا المجتمع البائس ودولته البوليسية.
ربما كان تأثير افكار ماركس على غرب القارة اكبر من تاثيره على شرقها، فقد تبنت هذه الدول قوانين اجتماعية ساعدت على تغيير تركيبة المجتمع لصالح الطبقة الوسطى ، وجاءت هذه التغييرات عبر نضال مستمر للطبقات العاملة وخوف الطبقات الحاكمة من البعبع السوفييتي الذي ادى الى تنازلها التدريجي عن مكتسباتها، اضافة الى قبول كل طبقات المجتمع الاحتكام الى صندوق الاقتراع والاذعان لنتائجه. وفي الوقت الحاضر يدفع الاغنياء ضرائب كبيرة على دخولهم للدولة التي تقوم بتوزيعها على المحتاجين من ابناء الشعب. وهذا شيء جيد للشعوب الاوروبية التي جاعت وتعذبت وحفلت بتاريخ دموي ولكن ليس كل ما يلمع ذهباً! اذا كنا لا نريد اغماض اعيننا ووضع رأسنا في التراب مثل النعامة.
ما يؤسف له ان دخل الشركات الاوروبية التي تدفع ضرائب كبيرة لحكوماتها ناتج في معظمه عن عمليات نهب منظمة لثروات القسم الجنوبي من الكرة الارضية اضافة الى بيع السلع المصنعة باسعار ذات ارباح خيالية ومن بينها بالطبع الاسلحة ليستمر اهل الجنوب بقتل بعضهم البعض والتلهي بصراعاتهم التي لا معنى لها او لحل المشاكل المستعصية التي تركها الاستعمار الاوروبي لهم .
فهل العدالة النسبية كافية للمجتمع الانساني؟ !
لو اطل ماركس هذه الايام لهاله حجم الجوعى في العالم فحسب احصائيات الامم المتحدة بلغ مليار نسمة يتركزون في جنوب الكرة الارضية. والمأساة ان عدد الجوعى يزداد مع الزمن . فقد انضم الى قائمة الجوعى 200 مليون نسمة في عام واحد وذلك بسبب ازمات الراسمالية وعلاقات الانتاج الناتجة عن العولمة احدث مظاهر الامبريالية.
يحصل هذا في الوقت الذي استبشرت الانسانية خيراً بتحسن وسائل انتاج الغذاء مع التقدم العلمي مثل الميكنة الزراعية واستعمال البذور المحسنة ووسائل الري الحديثة والتي ساعدت في مضاعفة الانتاج الزراعي عدة مرات وساعدت في تقلص نسبة عدد الفلاحين الى عدد السكان في دول العالم الاول الى حد مذهل ، ففي الولايات المتحدة مثلاً تبلغ هذه النسبة 3 في المائة من عدد السكان الكلي وهم قادرون على اطعام سكان الكرة الارضية.
ومع كل هذا التقدم : واحد من كل سبعة من سكان الكرة الارضية، ومعظمهم في جنوبها ، يعاني من الجوع وينتج عن ذلك:
الموت من الجوع كل عام 90 مليون نسمة، اي بمعدل 25000 انسان كل يوم. وهذا الوضع سيدفع ماركس قطعاً الى تغيير شعاره الشهير من : (يا عمال العالم اتحدوا) الى (يا سكان الجنوب اتحدوا) وليس هناك في المدى المنظور حل جذري لمشكلة الجوع الا بتغيير كثير من المفاهيم الانسانية اليس غريباً ان تنزل آخر رسالة سماوية في أفقر منطقة من العالم !
ففي بدايات القرن السابع كان عدد سكان الكوكب يقارب 200 مليون نسمة.
تركز معظمهم على سواحل البحار في الصين والهند، وتحديداً في احواض الأنهار الخصبة، كذلك في احواض انهار النيل ودجلة والفرات. وفي هذه التجمعات كانت بداية الحضارة الانسانية. ومع هذا فقد نزلت الرسالة السماوية على قبائل رحل مشكلتهم الاساسية في الحياة هي تدبير لقمة العيش والصراع من اجل البقاء على قيد الحياة، كانوا كمن ينحت في الصخر للحصول على الرزق بعكس هؤلاء الذين يعيشون في المناطق الخصبة التي توفر لهم الارض والمياه انواع مختلفة من الطعام الوفير.
الحكمة الإلهية تقول لنا أن الفقر ليس عيباً، فالمسألة تتعلق بقدرات الفرد ونشاطه. ولكن العيب هو تقصير المجموع في حق الفرد، في معرفة ان فرد في المجتمع يعاني من الجوع ولا احد يهتم ويقوم بعمل شيء حيال ذلك. والقرآن الكريم يحتوي على آيات كثيرة عن الفقر والجوع والاملاق .
اما الرسول الكريم (ص) فقد ربط الكفر والفقر معاً في حديثه الشريف الذي يدعو فيه ربه ( اني اعوذ بك من الكفر والفقر ). ولكن اهم حديث للرسول الكريم على الاطلاق قوله (ص) (ليس المؤمن من بات شبعان وجاره طاوٍ). وكثير من كتب الحديث تصف هذا الحديث بانه ضعيف وغير مسند الخ وذلك لخوف وعاظ السلاطين من انعكاس مفهوم هذا الحديث على اولياء نعمتهم... ولكن الحديثين السابقين جزء اساسي من الدعوة المحمدية ويتماشيان مع مفاهيمها.
والحديث السابق عن الجار يبين ان المسألة أخطر مما نتصور في موضوع الجوع فإغلاق العينين للنوم مع وجود جار جائع يعني إغلاق الضمير، وقطعاً لا يوجد مؤمن بلا ضمير. والحديث أيضاً لم يحدد معرفة المؤمن او عدم معرفته بحالة الجار ! ستكون قمة المآسي لو كنت تعرف ان جارك الذي يسكن جانبك جائع ولا تفعل شيئاً !
(الجار) لا يعني الساكن في البيت المجاور لبيتك، كما يتخيل البعض، بل هو كل فرد يسكن الدولة ، بغض النظر عن عرقه ودينه، ويتطلب ذلك من المؤمن من اجل الحفاظ على ايمانه ان يضع آليات معينة تنوب عنه في معرفة الجار الجائع، ومن هذه الآليات إختيار او فرض الحاكم الصالح ومراقبة أداءه !
الحاكم الصالح في ايامنا هذه هي الحكومة التي ترعى مصالح اضعف وافقر فرد في شعبها ولا تتركه يواجه مصاعب الحياة وتحدياتها لوحده . ويراقبها مجلس نيابي منتخب ديمقراطياً يكون عين الشعب الساهرة على اداء الحكومة وسلطة قضائية يتساوى امامها الحاكم والمحكوم. اضافة الى صحافة حرة تفضح اي تلاعب من افراد السلطة الحاكمة .
فهل تنطبق هذه المفاهيم الواردة في الحديث على اوضاع (دولنا) الحالية ؟
فهمها الخليفة عمر بن الخطاب، اول مؤسس للدولة الاسلامية ، وعبر عن ذلك مراراً في حديثه عن مسؤوليته عن ضياع الجمل على شاطىء الفرات. كانت عيناه مليئة بالدموع وهو يجري مهرولاً حاملاً الطعام للأطفال الجياع وأمهم بعد ان سمع صراخهم في احدى جولاته التفقدية في ليل المدينة ووجدها تضع حصى في ماء القدر بدل الطعام علّ النوم يغالبهم في الانتظار. ولحاكم مثله دموع الخوف من جسامة المسؤولية التي يحملها وعدم قدرته على تنفيذ ما حمّله له المؤمنون ليناموا مرتاحي البال والضمير.
أما آخر خليفة منتخب، علي بن ابي طالب، فقد صرح قائلاً: لو كان الجوع رجلاً لقتلته!
بينما ينطلق ماركس من معالجة سوء توزيع المال والاستغلال الناتج عن ذلك فان الاسلام ينطلق من نظرة فلسفية في غاية العمق والبساطة وهي الاساس : العلاقة بين الانسان والمال عندما يولد فانه لا يحضر معه مالاً لهذه الحياة ، وفي حياته يستعمل المال المكتسب وعندما يموت فانه لا يأخذ معه شيئاً . ( كان الدكتور عبد الوهاب المسيري يكثر من ترديد عبارة مادة استعمالية، رحم الله هذا المناضل الفذ ) وبسبب عدم الملكية الدائمة للمال فان من حق الذين لا يملكونه ان يحصلوا على جزء من مال الله ! ومن هنا جاءت الزكاة لتميز الاسلام عن غيره من الاديان السماوية والارضية.
فكافة الاديان تحتوي على فروض الصلاة والصيام والحج بطرق مختلفة ولكن الاسلام هو الدين الوحيد الذي يحتوي على ركن مادي ويتدخل في توزيع الثروة . غرابة الامر ان معظم الذين ارتدوا بعد وفاة الرسول كان بسبب الزكاة فقد قبلوا بكل ما جاء به الدين وهذا يثبت طبيعة النفس البشرية التي تحب المال وكنزه كما جاء في ايات قرآنية كثيرة.
الزكاة هي ضريبة يدفعها المسلم للخزينة العامة للدولة وتظهر له كانها صدقة عن ماله فيدفعها عن طيب خاطر، ولكنه مجبر على دفعها في الواقع، كما ظهر مباشرة بعد تكون الدولة الاسلامية في عهد الخليفة عمر بتأسيس ديوان الجباية الذي يحتوي على اسماء كل المكلفين بالدفع، وهكذا تعرف الدولة من المتخلف عن الدفع كل عام ويقوم الجباة بمطالبته بها. ومن يرغب في الاطلاع على اسماء الافراد المكلفين بدفع الزكاة وكذلك اسماء من يستحقون العطاء الشهري قبل الف واربعمائة عام يمكنه قراءتها في تاريخ دمشق لابن عساكر المنقول بالنص عن الديوان الاصلي ايام عمر ( اوردت في كتاب اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب الصادر عن الدار العربية للعلوم والنشر- بيروت لمحة كافية عن الدواوين وانواعها ونشأتها، لمن يريد الاطلاع) كما ان حديث الرسول (ص) السابق عن الجار يعتبر في نظري من اخطر احاديثه ، فان اخطر تصريح لعمر هو: ان عطاء (راتب) راعٍ في جبال صنعاء البعيدة عن العاصمة الاف الكيلومترات يجب ان يصله بدون ان يجشم نفسه مشقة السفر الى صنعاء للحصول عليه.
هذا القول يلخص مفاهيم الدولة الاسلامية ولمن تنحاز، مدى تنظيمها وكفاءتها .
انحياز الدين المطلق لطبقة الفقراء والغلابة يتجلى بوضوح في قول عمر ( يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق ). وهذا الانحياز هو الراسخ في العقل الجمعي للاغلبية من فقراء هذا العالم. ماذا سيكون موقف عمر لو اطل وشاهد الجوع والتسول في عواصمنا وعدم قدرة الناس على تحصيل لقمة العيش! وكأنها وصية لمن سيخلفه، قوله (لو اقبلت في امري ما ادبرت لأخذت فضول الاغنياء ووزعتها على الفقراء) ، والفضول هي الزيادة عن الحد ، فكم تبلغ هذه الزيادة القابلة للتوزيع من ثروة الاغنياء.
للاسف لم يتسن تطبيق هذه الوصية الهامة لمؤسس الدولة بفعل اغتصاب السلطة الشرعية من قبل الامويين وتوريثها.
يكتفي فيلسوف المادية ماركس بالعدالة على هذه الارض ويتوسع الاسلام اكثر من ذلك:
بخلق التوازن بين الروح والمادة وان شرط الحصول على عدالة السماء هو مساهمتك في تحقيق العدالة على هذه الارض وتصل الى وصف الرسول كلمة الحق عند السلطان الجائر الى انها اعظم الجهاد.
لم يرى ماركس من الاسلام سوى الصورة التي تقدمها الدولة العثمانية وكانت تمر في مرحلة الاحتضار الطويل (الرجل المريض) . فكان له العذر في تعميم نظرته على الاديان كلها وقوله انه افيون الشعوب.
اطلاق هذه الصفة على الدين الاسلامي لن يضر جوهر الدين في شيء.
مجرد رأي لفيلسوف لم يطلع ما فيه الكفاية على كنه الدين وجوهره ، ويمكن ان نضيف ماركس المادي الى قائمة الشيوخ الذين لا يعرفون من الدين سوى طقوسه.
قمة المأساة استعمال الدين كأفيون او مخدر وهذا ما يفعله حكامنا الحاليين وبدون استثناء احد منهم ! في اغفال جوهر الدين واقتصاره على الطقوس والمظاهر والطاعة لولي الامر وفي اجهزة القمع لتخويف الجماهير ودفعها لحالة اليأس والتقوقع عبر اقناعها ان بؤسها وجوعها هو قدرها المحتم .
وأخيراً ارتبطت كلمة الشيوعية بمعانٍ سيئة لاسباب كثيرة ولهذا ساردد مع امير الشعراء احمد شوقي : وفي بيتين من الشعر وبعبقرية متناهية يلخص جوهر الاسلام ورسالته :
والدين يسر والخلافة بيعة *** والأمر شورى والحقوق قضاء
الإشتراكيون أنت إمامهم *** لولا دعاوى القوم والغلواء
واختتم المقال بمظفر النواب:
قتلتنا الردة يا مولاي كما قتلتك بجرح في الغرّة
06/11/2014