مصرنا


مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الامريكية عن المركز الامريكى للنشر الالكترونى .. والاراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
رئيس التحرير : غريب المنسى .. مدير التحرير : مسعد غنيم
............................................................................................................................................................

 
 

 قادمة إليكم من الوطن إلى المنفى
...............................................................

 بقلم : زكية خيرهم
.............................

( إن الكاتب من لحظة حمله القلم يدخل في منفى ) فانسان جوف " ناقد فرنسي ، مؤلف كتاب "تقنيات النص الروائي

في السادسةِ من عمري كنت صديقةً لأبي ، أقضي معه وقتًا طويلاً، أصلّي معه صلاةَ التراويحِ، بينما كان كلُّ من في المنزلِ نيامًا. يمدُّني بكتابٍ ويقولُ: "اقرئي هذه الصّفحةَ"، ثم يشرحُ لي ما قرأتُ عليه. أجدُ متعةً في الاستماعِ إليه وهو يشرحُ أبياتًا من ألفيّةِ ابن مالك أو من كتابِ الأمثالِ العربية وسواها من كتبٍ كانت لديه. ينتهي من الشرح فيطلبُ مني أن أكتبَ ما استوعبتُ في تلك اللحظة. أسرع إلى ذلك مستمتعةً وأنا أخطُّ على الورق كلماتٍ تعبّرُ عمّا سمعتُ أو قرأْت، وفي الوقتِ ذاته أطرحُ تساؤلاتٍ وأناقشُها معه عندما أقرأُ عليهِ ما كتبت .

كانت أسئلتي تحرجُهُ أحيانًا، فيحاول إقناعي بشتى السبل المتوفرة لديه وهي كثيرة. أحسُّهُ أحيانًا يتحدّثُ بعصبيّةٍ وكأنَّهُ يريدُني أن أتقبّلَ كافة مقولاته دونَما جدال ، ولكن عقلي يرفض ذلك لأنّي لم أكن أجد منطقا وحقيقة مقنعة في غالبية ما يقول . وجدْتُ نفسي غيرَ قادرةٍ على مناقشتِهِ وعلى الإدلاءِ برأيي ما دام كلامي معارضًا. أستمعُ إليهِ، أهزُّ رأسي مظهرةً إعجابًا أو استحسانًا لكلامٍ عليَّ الأخذُ به كأنه وحي منّزل ، ورغم ذلك أخذْتُ من أبي قيمًا وأخلاقًا حملتُها معي إلى وطني الثاني ..
وجدتُني، في كتاباتي، متأثّرًة بإسلوبه كمن يلقي خطابًا أو عظةً، في حينِ أنّي لا أريدُ أن أعظَ أحدًا بقَدْرِ ما أريدُ أن أعبّرَ عمّا في داخلي بطريقتي أنا لا بطريقتِهِ هو. أريدُ أن أفهمَ الأمورَ وأقتنعَ بها بمنطقٍ سليمٍ وليس تحتَ وُطْأةِ ترهيبٍ أو ترغيب. أن أقول: أوافقُكَ في هذه وأعارضُكَ في تلك. وكيف لي أن أفعلَ ذلك؟! فهو أبي، ربُّ الأسرةِ وقاضٍ ومحاضرٌ في كلّيّةِ الشّريعةِ وكلامُه لا بُدَّ أن يُطاع..

وجدتني مقيّدةً بممنوعٍ ومسموح،بناسخ ومنسوخ ، بقال فلان ونقضه علان، أخنقُ في داخلي أفكارًا أريد أن أخرجَها بطريقتي، أن أكتبَ شيئًا وأستنبطُ أشياءَ من تفكيري الخاص وليس نقلا عن فلان بن فلان بن فلان، أن أبدعَ شيئًا ما قولاً وفعلاً ، من ذاتي التي بدأت تنمو أسرع من عمري ، أن يكونَ لي أسلوبي الخاص بعيدا عن استنساخ والدي في صياغتِهِ وتراكيبه خاصة أن مقومات ذلك بدأت تنمو عندي وتتمرد على ما يحاول أن يفرضه عليّ ، وربما تمرد ذاتي على ( أن كل فتاة بأبيها معجبة ) . الوالدان في بؤرة العين وأعماق القلب ولكن لماذا نستنسخهم إذا كنا قادرين على التميز والإبداع المختلف . الإبداعُ قبل أن يكونَ سلوكًا فهو موهبةٌ من مواهبَ مستترةٍ تحتَ الرّماد، إِن وجدَتْ فرصةَ التنميةِ والممارسةِ لكانت حاضرةً عندَ كلِّ فرد في مجال من المجالات ، لذلك كانت موهبتي تنمو بقدر تمردي على استنساخ الأب .

أجلسُ إلى ورقةٍ أشاركُها أفكاري، همومي وأحزاني وأفراحي، تستقبلُها بصدرٍ رَحْبٍ، وقلبي يزفُّ لها أحلامًا وأمنياتٍ بغدٍ أفضلّ في قصّةٍ أو قصيدةٍ أو مقالة ..
في داخلي أفكارٌ أريدُ التعبير عنها ، إيصالَها لمن حولي، وآراءُ في موضوعاتٍ إنسانيةٍ وفكرية، لكنّني مقيّدةٌ بممنوعٍ ومسموح . أشعرُ باختناقٍ في البيتِ وفي المدرسةِ، مما يجعلُني أتساءل: هل أسيرُ عكسَ السّير؟ هل أسبحُ ضدَّ التّيّار؟ هل أنا على خطأٍ والآخرون على صواب؟أم أنا على صواب والآخرون على خطأ؟. أحسسْتُ بغربةٍ في البيتِ وفي المدرسة، بين الجيرانِ والأهلِ والأحباب. كان هذا منفاي الأوّلُ الحقيقي .

أمي تنهرُني: لماذا أنتِ منعزلةٌ عنّا في البيت؟ جاءت الجاراتُ لزيارتنا، هيّا استقبليهِنَّ ثم اجلسي معنا قليلاً. لم تعودي طفلةً، لقد كَبُرْتِ وعليكِ أن تتعلّمي حسنَ الضّيافةِ وآدابَ المجاملة . ماذا أفعل وجلوسي معهن يضايقُني ويستفزّ خلايا عقلي وجسدي . ألتزمُ الصّمتَ في بعضالأحيان في حضرتهِنَّ، ولا أُضْطَرُّ للحديثِ معهُنَّ إلاّ بعدَ نظرةٍ حادّةٍ من أمّي. أذكرُ إحداهنَّ تقول: "إن شرفَ البناتِ مثلُ السّاعةِ الثمينة، لا بدَّ أن نبذلَ جهدَنا ونحافظَ على تلكَ السّاعة، وبعدَ عرسهِنَّ لن تكونَ هناكَ مشكلة، نكونُ تخلّصنا من مسؤولياتهِنَّ ، ودخلن ضمن مسؤوليات العريس الزوج ". جحظَتْ عَيْنَايَ، ودونما تفكيرٍ في ترتيبِ جملٍ لائقةٍ ومهذبة، أدليْتُ برأيٍ لم يحظَ بإعجابهِنَّ، وخصوصًا أمّي التي نهرَتْني. وقفْتُ، وبسرعةٍ ولّيْتُ هاربةً إلى غرفتي ونعالهاٌ يلاحقُني. أغلقْتُ غرفتي ممتعضةً من كلامهِنّ. أفكّرُ في خادمةِ إحدى الجاراتِ، طُرِدَتْ من البيتِ بحجّةِ أنّها حملَتْ من صاحبِ البيتِ (سيِّدِها)، لكي تَرِثَ بعضًا من أموالِهم الطّائلة. أتخيّلُها تبكي وصرّةُ ملابسِها بيدِها، والأطفالُ يرشقونَها بالحجارةِ ويبصُقُون عليها. مخلوقةٌ دخلَتْ بيتًا وأفسدَتْهُ، وأفسدَتْ ربَّ أسرةٍ محترمة ، ألا يقولون معتقدين أن المرأة ناقصة عقل ودين...يا إلهي هل هناك طريق أسرع من ذلك لجنون حقيقي يوصلك للعصفورية كما يقول اللبنانيون .

أهلي والجيرانُ والأطفالُ ، يسبُّونَ فتاةً لم تتجاوزِ السّادسةَ عشْرَة، تقومُ بكلِّ أشغالِ البيتِ لعائلةٍ تنيفُ على ثمانيةِ أشخاص. أخذْتُ قلمًا وسكبْتُ غضبي على ورقةٍ مرتعشة. دخلت أمّي الغرفةَ. أمسكَتِ الورقةَ بعصبيّةٍ. وصرخت: من أنتِ؟ كيف تسمحينَ لنفسِكِ حقَّ الدّفاعِ عن فتاةٍ لا تستحي عديمةِ الشّرف؟ أرادوني صورةً طِبْقَ الأصلِ عنهُم في كلِّ شيء. أن أتحدّثَ مثلَهم، وأفكِّرَ مثلَهم. أن أؤيّدَ ما يؤيّدونَ، ولو كان على جانبٍ غير قليلٍ من ظلمٍ وتعسّف، لكنّه في عُرْفِهِم صواب..
غربةٌ تأكلُ أحشائي ، وتشعرني أنني أعيش في عالم غير عالمهم .كلماتي لا بدَّ أن تكون مستقيمة كخُطُواتي وطريقةِ جلوسي وحديثي خاصة أمام الضيوف . كنْتُ أناقشُ أبي في قضايا تمرُّ على يديه في المحكمة، وعن حكمِ النّساء اللواتي يتواجَدْنَ في الماخور. غضبَ وقال: "عَوِّدْ لسانَكَ لفظَ الخيرِ تحظَى به .... إنَّ اللّسانَ بما عُوِّدْتَ يَعْتادُ". الأجدرُ أن تقولي (البيتُ اللا أخلاقي ) وليس تلك التسمية الفاقدة للمعنى والمضمون . أصابني هوسُ المصطلحات. كيفَ السّبيلُ إلى انتقاءِ الأفضلَ لأستعملَها في كتاباتٍ يحبُّ أبي أن يسمعها، فهو يشجّعُني ويضيفُ عليها بيتًا أو حكمةً تُغني موضوعي وتفيدُني في سلوكي أيضا؟

في فصلِ الباكالوريا، روايتانِ مقرّرتانِ: (رجال في الشمس) للروائي الفلسطيني غسان كنفاني و(الخبز الحافي) للروائي المغربي محمد شكري. اشتريْتُ الروايتين ، ولم تكن لديَّ أدنى فكرةٍ عنهما. فتحْتُ الأولى، تصفحتُها ووضعتُها على المقعد. بدأت أقرأ الرواية الثانية فإذا بي أشعرُ بسخونةٍ في وجهي وعرقٍ يتصبّبُ من جسدي. تركتُ الروايةَ بسرعة وكأنّي أقفلُ بابًا على فضيحةٍ بجلاجل. نظرْتُ إلى الأستاذِ بارتباكٍ، وحوّلتُ وجهي إلى السّبورةِ وصمتي على خجلٍ من أمرِه. ماذا سيحصلُ لو وقعت الروايةُ في يدِ أبي؟! حتمًا سيخرجُني من الثانويةِ ويجلسُني في البيت. لم تُتَحْ لِيَ الفرصةُ لقراءةِ الروايةِ إلاّ بعد مرورِ عشرِ سنوات. وجدْتُها صدفةً في مكتبةِ عامّةٍ في أوسلو. خجلي الذي تربّيْتُ عليه يؤرّقُني، لأنّ داخلي المليءَ بالتمرّدِ يرفضُ ذلك ويجدُهُ سدًّا منيعًا يحولُ بيني وبين الإبداعِ في عالمِ الكلمةِ والفكرِ ويعيقُ إيصالَ رسالتي إلى القارىء . أفكارٌ فرديّةٌ وشخصيّةٌ، عامّةٌ وإنسانيةٌ ، تغلي في داخلي على وشكِ الانفجارِ عبْرَ كلماتٍ تعبّرُ عن همومِ النّاس، عن عاداتِهِم وتقاليدِهِم، أفراحِهِم وأحزانِهم، بصدقٍ وشفافيّةٍ من غيرِ تحيّزٍ . من بينِ تلكَ المواضيعِ واحدٌ يشكّلُ الهمّ الأساسي عندي وهو التمييزُ في التعاملِ بين الذكورِ والإناثِ في البيت. وعندما كنتُ أناقشُ ذلك مع أيٍّ فرد من العائلة ألاقي استنفارًا واستهجانًا لرفضي ذلك التمييزِ لأنّهُ في نظرِهِم الأصحُّ والأسلم .كان يدهشُني إلى حدِّ الذهولِ تعاملُ أبي معنا نحنُ البناتِ ومع إخوتي الذكور. أرى تمييزًا مبالغًا فيه. لم يكن يجوزُ لنا نحنُ البناتِ التأخّرُ عن البيتِ بُعَيْدَ السادسةِ مساءً. ولا يجوزُ أن ندرسَ مع شبابٍ في البيت. كان لي صديقٌ كفيفٌ في سنةِ الباكالوريا و من الأوائل، أتمنّى أن أستعدَّ معَهُ للامتحان. رفضَ أبي بينما إخوتي كان يمكنُهم أن يبيتوا خارجَ البيت، وأن يأتوا بصديقاتٍ سائحاتٍ من أوربا تقومُ العائلةُ باستقبالِهِنَّ وإحسانِ ضيافتِهِنَّ، وبعد العشاءِ يصطحبهُنَّ إخوتي وقد لا يعودونَ إلى البيتِ إلاّ بعدَ يومٍِ أو أكثر . فكروا معي هل كانوا معهن في المسجد يتعبدون ويتذكرون الخالق ؟ أقول لأمّي: تستنكرون علينا نحن البناتِ التّأخّرَ في المكتبةِ ساعةً واحدةً، بينما إخوتي يمرحونَ كما يحلو لهم ولا أحدَ يمنعُهُم؟! تصرخُ في وجهي: البنتُ بنت والولدُ ولد. شرفُ البناتِ كالزّجاجِ إن تكسّرَ لا يُصْلَح ، أو كما يقولون في الأفلام المصرية: شرف البنت مثل عود الكبريت، يشتعل مرة واحدة...يا إلهي كيف الوصول إلى العصفورية؟؟. وأتساءلُ في زمنِ المظاهر: أليس كلُّ شيءٍ يُعَدَّلُ بعمليّةٍ تجميليّةٍ لا تستغرقُ إلا دقائق ؟! ومن يسمعُ رأيي؟! أتساءلُ وأسألُ، وأسئلتي تحصدُ الرفضَ ووجوبَ التصويب لأنها خاطئة ومرفوضة من المجتمع .

في الوطنِ الثاني، النرويج، أتيحت لي فرصةٌ أن أكتبَ بحريّةٍ وأعبّرَ عمّا كنتُ أتمنّى أن أقولَ وأنا بين أهلي. وبعد أن كتبُ بالخطِّ العريضِ على الصّفحةِ الأولى في صحيفةٍ رئيسةٍ في النرويج عن مستشفى خاصٍّ قرّرَ إيقافَ عمليّاتِ ترقيعِ العذريّةِ بعدما قررتِ الدولةُ عدم تغطيةِ التكاليف، قرّرتُ أن أكتبَ في الموضوعِ الذي طالما أردْتُ التحدّثَ عنهُ في وطني: العذريّةُ الحقيقيةُ ليست في الجسدِ فحسب، بل في حرية المواطن وشفافية الحاكم وصدقه والقدرة على محاسبته كما يحدث هنا مع أكبر مسؤول حتى لو كان الملك .

روايتي الأولى تتحدّثُ عن مفهومِ الشرف: هل يقتصرُ الشّرفُ على جسدِ المرأةِ أم ثمّةَ ما هو أبعد؟! هل هو (فقط) شيءٌ مؤقتٌ لدى الفتاةِ إلى حينِ زواجِها، وبعد ذلك لا يعودُ ثمّة شرفٌ يُخافُ عليه؟! هل الرجلُ الشرقي/ العربي/ المسلم غبيٌّ إلى درجةٍ أن يدافعَ عن بضعِ قطراتٍ حمراءَ بدلَ أن يكونَ أبًا وأخًا وعمًّا يحملُ على عاتقِهِ مسؤوليةَ التربيةِ الصحيحةِ وتدريبَ الضميرِ على أن يكون حيًّا بدل أن يكونَ ميتًا أو إزدواجيًّا؟

إقامتي في الغربِ، غربةٌ أخرى ومن نوعٍ آخر. غربةُ الوطنِ، والوطنُ الغربةُ في االوقت ذاته. يظلُّ هاجسُ الوطن الأم، بأفراحِهِ وأحزانِهِ، يرافقُني في صبحي والمساء. البعدُ عن الأهلِ والأحبابِ رغمَ الأصدقاءِ الجدد. أجدُ مساحةً كبيرةً من حرّيّةٍ لأكتبَ وأعبّرَ كما أريد. لستُ مقيدة بمُتاحٍ وغيرِ مُتاح. التعاملُ مع الكتابِ النرويجيينَ يقومُ على احترامٍ وتشجيعٍ، لا على حسدٍ وتعطيل. يستقبلونَ كتاباتِكَ بصرفِ النظرِ عن هويّتِكَ وخلفيّتِك. ليس لجنسِكَ أو لونِكَ أو دينِكَ أوطائفتِكَ أو حزبِكَ. يتعرّضُ الناقد لكتاباتِك دونَ أن ينتظرَ منك ثمنًا ، وفي بلادنا غالبية النقد الأدبي يتم ضمن المصالح الشخصية أو ما أسماه بعضهم ( شللية النقد ). يكتبُ الكاتبُ من غيرِ خوفٍ من أنَّهُ يتجاوزُ خطوطًا حمراء، ولا سيّما ثالوثَ المحرّماتِ الأبديّ (الدين والجنس والسياسة)، دونَ أن يكونَ مبتذَلاً بل يظلُّ شامخًا كقامةِ سروة.

الكاتب الغربي، لا أحدَ يقفُ على أصابعِهِ (المحتلّةِ والمختلّةِ) حين يمارسُ الكتابة. لا يقفُ التاريخُ والتّراثُ والمخابراتُ سواطيرَ حادّةً فوق أصابعِهِ حينَ يمارسُ عادةَ التّنفّسِ السّرّيّة . الكلام الخطير الذي يؤدي للسجن عندنا ، يؤدي للافتخار عندهم .حنينُ المبدعِ المهاجرِ إلى وطنٍ يشبهُهُ، وطنٍ من حُلْمٍ يعيش في خيالِهِ .لستُ سعيدةً حين أقولُ إنِّي قادمةٌ من وطنٍ إلى منفىً يشبهُ الوطن. المنفى روحٌ. ليسَ جسدًا أو جغرافيا. وكما قالَ الخليفةُ الرابعُ عليّ: "الفقرُ في الوطنِ غربةٌ، والغنى في المنفى وطن "

الغنى الذي أعني هو الحرّيّة. حريّةُ جسدٍ يتفتّحُ في غيرِ مكانِهِ الأصليِّ كنبتةٍ من جبالِ أطلسَ تُزرعُ على شاطئ البلطيق. كصبّارٍ صحراويٍّ يتفتّحُ بمعجزةٍ في أرضِ الجليدِ والمطر ..

المنفى الحقيقيُّ هو اللّغة: حينَ يكونُ الإنسانُ عاجزًا عن قولِ ما يريد، أو يُجبرُ على قولِ ما لا يريدُ. هذا هو المنفى، بل هذا هو الذُّل .المنفى حينَ يكونُ الإنسانُ بعيدًا عن جسدِهِ المُصادَر. جسدٌ يُعاملُ كَمِلْكِيَّةٍ عامّة. يتدخّلُ فيه الجميعُ ويدخلُهُ الجميعُ كالمراحيضِ العامّةِ أو أعمدةِ النّورِ أو ملاعبِ كرةِ القدم . هناكَ منافٍ أجملُ من كلِّ الأوطان. وأوطانٌ أجملُ من كلِّ المنافي. وعلى قولِ الشّاعرِ الفلسطينيِّ الرّاحل معين بسيسو:(قبرٌ واحدٌ في الوطن أجملُ من كلِّ فنادقِ العالم ).

أعرفُ، كما تعرف إيزابيل أليندي، الروائيةُ التشيليةُ المغتربةُ في أمريكا، أنّ المنفى يمنحُ الملامحَ الوطنيةَ جمالاً لا تستحقُّه، ويغضًّ الطَّرْفَ بدافعِ الحنينِ عن كثيرٍ من مساوئَ تتلاشى. لكن، ليست هذه الطريقةُ الصحيحةُ في بناءِ الإنسان. وإذا عدنا إلى مقولةِ فانسان جوف، نجدُ أنَّ المنفى يتناسلُ ويتعدّد. وإذا ما استمرَتْ أوضاعُ عالمِنا العربيِّ كما هي عليه، أخشى أن يأتي يومٌ تَمَّحِي فيه الحدودُ بين مفهومِ الوطن ومفهومِ المنفى، وسيكونُ لكلِّ واحدٍ منّا، نساءً ورجالاً ،(سرُّه الخطير ) الذي يهرب به إلى منفى هو الوطن وأجمل من الوطن، و إلا لماذا يهربون من أوطاننا إلى أوطان المنفى زرافات ووحدانا...و ألآف يموتون غرقا قبل الوصول إلى المنفى الوطن.

Ghaliawin11@yahoo.com
Zakia khairhoum

كاتبة مغربية مقيمة في النرويج
 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية