| | | | كنوت سيرجع ...............................................................
قصة: زكية خيرهم ......................
في صمت خجول تقمعه لعنة مكتومة، يشابك أصابع يديه بعصبية ونظرات مبعثرة ظامئة لا يرويها إلا ذلك الطوفان الساكن في مخيلته. تسجنه رغبات من جشع وغضب مفتعل تعبر عن وقاحة لرغبة مجهولة. أما شقيقه فقد صعقه الخبر،بروح يحيطها الوحل خوفا على أخ مجنون مقبل على الضياع. لست مجبرا أن أقنعك بشيء، هذه رغبتي. يقف شقيقه بعد أن كان متجمدا في مكانه، كمن يعود إلى الحياة بعد موت مؤقت. هل هي نزوة أم شذوذ أم نشوة تستر رغبات الجوع المتوحش بداخلك؟ أمجنون أنت؟ إنها " شر..." جفناها لا تعرف النعاس مطلقا. تستنشق الحشيش و (تأكل) المخدرات. يدخلون عليها في غرف مظلمة تفعل كما تؤمر وإن صرخت أو تمنعت تُداس تحت أحذيتهم أو تطعن بسكاكينهم.. سافرت معها إلى بانكوك لتستمتع بها هي وغيِِرها وليس لتقترن بها. ألم تجد هنا ولا واحدة تتزوج بها؟
_ اسمع يا (أولاف). هنا كلهن أنانيات، يحبن الجلوس في المقاهي والسهر بالبارات والعمل خارج البيت والتمرد على الرجال. لا يتزوجن إلا إذا كانت صفقتهن الزوجية مربحة. للأسف ليست عندنا نساء في البلد. عندنا أشباه رجال ويا ليتهن كن رجالا يتصفن بذرة واحدة من صفات الرجولة. _ قطعا أنت لست طبيعيا. _ بل أنت ليس طبيعيا. أيعجبك ما تفعله (إنجفيل) هل أنت مبسوط من سلوكها؟ دائما غائبة عن البيت وكأنه ليس لها بيت ولا عائلة. اجتماعات .. لقاءات ... سفر ... _ لسنا الآن بصدد (إنجفيل) وما تفعله إنجفيل. دعنا نفكر في حل لهذه الواقعة التي ستنزلها علينا. . _ أية واقعة؟ اسمع يا أخي هذه حياتي وأنا حر فيها. لا أريد أن أكون خادما مطيعا للمرأة التي ستعيش معي. لا أريد أن تنقلب موازيني كرجل. أحمل الأطفال وآخذهم إلى الروضة وأطبخ وأغسل وأكوي وأسمع هراء زوجتي ومغامراتها مع مسؤوليها كما تفعل زوجتك.
_ أنت لا تحب (إنجفيل) منذ تزوجتها وأنت تكرهها. _ أنا لا أكرهها شخصيا ولكن أمقت سلوكها المستهجن وعدم اهتمامها بك وبشؤون البيت. _ من فضلك يا أخي تريث قليلا قبل أن تحضر (تي)، سيسخر منا سكان (هاوجسون). إنهم يعرفون جيدا من هن تلك النساء. نساء لا تغادر السرير أجسادهن جامدة كالثلج، يكتب عليها سرب من الرجال تاريخهم الملطخ بالقذارة والأوساخ. اسمع يا (كنوت)، هل تذكر (أوسا) ما زالت تحبك. _ (أوسا) تزوجت مرتين ولها أولاد من زوجيها السابقين، وأنا لست مستعدا لأربي أولادا ليسوا من صلبي. _ ماذا عن (هايدي) إنها معجبة بك.
_ هايدي ممرضة وشغلها دائما بالليل، وأنا أحب زوجتي أن تكون في هذا الوقت بالذات بجانبي. _ ماذا عن (فيجديس) إنها امرأة طيبة وبسيطة من النوع الذي تحبه. _ من (فيجديس) آه تذكرتها. مستحيل إنها مدمنة على الكحول والدخان وأنا لست مستعدا لنفقات جانبية أنا في غنى عنها. و(كارين) أنسيت كارين النادلة المرحة؟ _ كارين التي تشتغل في مطعم (كوبرفيك)،هل تستخف بي؟إنها أطول وأضخم مني كالدب منبعجة الكرش وصوتها خشن. أنا لا أريد أن أتزوج رجلا. أفهمت؟ سافر (كنوت) إلى بانكوك وأحضر (تي)، فكانت له زوجة مطيعة وربة بيت مدبرة، وجارية مؤنسة، تشتغل داخل البيت وخارجه، كانت له نساء كثيرات في امرأة واحدة. في نهاية كل شهر تأتي له بأجرة عملها، فيعطيها من تلك الأجرة خمس مائة كرون لتشتري بها حاجياتها الخاصة، فكانت ترسلها خفية لأهلها المعدومين في بانكوك. _ حبيبتي (تي) إننا نحتاج إلى شراء بيت أكبر. إن أردنا أن نصير عائلة. لذلك أريد أن تشدي همتك وتضعي يدي في يدك لكي نوفر أكثر. _ كيف؟ فأنا أشتغل من الفجر حتى المساء. _ أعرف هذا يا جميلتي، أريدك أن ... أعني أريد أن أسعدك، نشتري بيتا ونسافر بلدانا كثيرة هل تفهمين ماذا أقصد. _ لا...! لا أفهم ماذا تقصد ولا أريد منك شيئا سوى حبا ووفاء. _ لأنني أحبك أريد أن تقومي بما سآمرك به. وتأكدي إن طاوعتيني سنتمكن أيضا من شراء بيت لأهلك بدلا من ذلك الكوخ الحقير الذي يسكنون فيه. أريدك أن تكوني في قمة أناقتك، إنهم سيدفعون لنا نقودا كثيرة، فقط ما أحتاجه منك أن تلبي لهم طلباتهم.
ارتسم الألم والفزع على محياها. أهذا الذي أحببته ومستعدة أن أضحي بروحي من أجله. اقترب منها، انطلقت هاربة منه مختفية بين ردهات المنزل. كان صامتا ذاهلا من هي حتى ترفض ما أمرتها به. ألم يكن هذا عملك في الأكواخ الوسخة ببانكوك وكنت تتلقين أبخس الأثمان؟ كل واحد منهم سيعطيك عشرات أضعاف ما كنت تحصلين عليه. كانت ترتعش وتبكي وكان هو يراها، جميلة، بعيدة، عنيدة، كافرة. يفور الدم في عروقها، تحمر وجنتاها، تسيل دموعا ساخنة بصمت على خديها. أهذا ما أستحقه منك؟ خلتك أنقذتني من الوحل الذي كنت فيه. وها أنت تجرني إليه مرة ثانية لتغمسني فيه. إنك بعيد عني، كلّ منا في طريق ولو أننا معا. أأنت جامد الأحاسيس لا تسمع صوت ألمي و نشيج بكائي. قطعا أحلم في يقظتي رغم عيني المفتوحتين. لا أرى إلا الظلام يغمرني معك. ظلام في عيني، في قلبي وفي روحي.
ثلاث سنوات مرت و(تي) تبيع جسدها مرات في اليوم. اشترى كنوت منزلا كبيرا وحان الوقت ليفي بوعده ويشتري منزلا لعائلتها ببانكوك. حبيبتي هذه تذكرة سفر لزيارة عائلتك. سألحق بك بعد شهر لكي اوفي بوعدي لك. سافرت على متن طائرة مضطربة تنتحب سماءها الرمادية، ماضيها الذي يتآلف مع حاضرها المبلل بغبار العتمة، يمزقها جحيم الخوف من الآتي، ورغم جحيمها الذي ينبعث من جنبات الخوف، كانت تداري ذلك الماضي والحاضر المتفتت في رحلة الضياع، عيونها المعذبتان تتماوج بين المصالحة والنسيان والتفكير في لقاء أهلها بعد طول الغياب عنهم. يسعدها لقاءهم وإخبارهم بالنبأ السعيد. ستنزع عنهم رداء الفقر والحرمان وتنقذ أختيها الصغيرتين من اختناق الهواء وقذارة المجتمع. وأخيرا تخلصت من تلك الليالي اليائسة المغمورة بالخدش الأليم وهمسات ممسوخة بلعنة القدر. أتشرب محنتي وحدي وأنفاسي متجمدة. علي أن أنسى الماضي الآن وأفكر في أهلي ، كل شيء يهون لإنقاذهم من مستنقع الفقر.
وصلت (تي) إلى أهلها حاملة لهم خبر الفرج الذي سيحل عليهم حين وصول زوجها من النرويج. مر شهر وشهران تنتظر زوجها ليأتي إليها، ويشتري بيتا لأهلها. تلتها شهور طويلة من الانتظار، لم تسمع عنه شيئا. بكت بصمت، بمرارة وألم على الأيام التي قضتها معه واهبة له نفسها وروحها بكل إيثار. أيام وليالي طويلة تنتظره بلهفة وشوق ليشتري البيت لأهلها كما وعد. لابد أن يأتي لقد قال لي ذلك. (كنوت) لا يكذب إنه نورويجي والنرويجيون لا يكذبون. ظلت تمتم مع نفسها عبارات متقطعة تنساب من بين شقوق الذهول والأسى. عبارات مختنقة، تصغي لكلمات ذكرياتها. أجهشت بالبكاء وهاجس يهوي على مشارف الخوف ورعشة عمياء تنفض روحها التي سهرت الليالي اليائسة في صمت تنتظر. لليال تتأججت في سماء خوفها سهرا مع النجوم.
ذاكرتها توقفت عن ترتيب الجمل. عذبتها المسافات وساعات الإنتظار، في تلك الليالي حيث يفر منها النوم ويتركها نهب الجروح. هل لعب بمشاعري ورحل عني إلى الأبد؟ لن أتصل به، لن أسأل عنه، سأعصر قلبي وأخنقه لكي لا يكن له فيه ذرة حب . إن رجع سأقابله بجفاء، سأسمع إلى اعتذاره في صمت . لا، لن أفعل ذلك. إنني أحبه رغم كل ما فعل بي. كيف للحبيب أن يكون قاسيا. إن اتصل بي سأقبل اعتذاره. ثلاث سنوات مرت و(كنوت) لم يظهر. أدركت أنها لابد أن تتوقف عن الإنتظار وأن تقفل باب قلبها بمفتاح من حديد وتحجب روحها بعباية من النسيان. راحت تركض بين شوارع بانكوك ودموعها ملتهبة تجري في عينيها. كنوت سيرجع ... كنوت لا يكذب.
كاتبة وروائية مغربية مقيمة في النرويج ghaliawin11@yahoo.com
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|