قصة قصيرة : بكاء ملك
...............................................................
زكية خيرهم الشنقيطي
................................
عند خروجي من العمل في مساء يفترش القلق على جنبات خطواتي المتثاقلة من شدة التعب. غاضبا حزينا حتى الثمالة. أسير متخبطا في المجهول وأفكاري تبحر مصارعة أمواج الإستياء التي أغرقت روحي في بحر من الأحزان ومازلت أجر جسدي المتهاوي على شطآن أوجاعي المتسكعة في شوارع أسلو ، أمشي بلا هدف ولا أعرف إلى أين؟ ضاعت أحلامي وأملي بين الرياح المجنونة التي رمتني من صحرائي عنوة إلى أحضان البرد والصقيع. لم أكن مستعدا أن أغادر وطني قسرا لأتواجد في وطن جديد بالنسبة لي في كل شيء ولأعمل في مجال التنظيف هذا العمل الشاق على جسدي الذي غادرته سنين الشباب والقوة، فلم ييق منه إلا سنوات أتعبتها الاوجاع لا تتحمل العمل المضني. صراخ المسؤول في وجهي مازال يرن في أذني.
"عندما تكون في العمل عليك أن تركز وتنسى كل شيء. مشاكلك الشخصية لا أريدها أن تزاحمك في عملك. هل فهمت؟ كم مرة قلت لك عندما تنهي من تنظيف المكاتب لا تنسى أن تسقي الزهور وترمي قمامة الأوراق التي تحت درج كل مكتب."
شعرت بالخجل من نفسي، من شاب في سن ابني الاصغر يصرخ في وجهي، لخطأ حصل مني عن سهو بسبب سهري ونهاري الذي يدمن ليلي. لكن لابد من انجاز بحثي العلمي الذي بدأته منذ كنت أعمل في مستشفى ومركز الأبحاث العلمية في وطني. وطني الذي مات فيه الضوء وصلب على جذع ديموقراطية "دموية" من غزو وخلع وشنق واغتصاب بكل الأنواع فخرجنا في ليلة عاصفة ترشف الرعب حيث طرنا وأبحرنا هروبا من القتل عن الهوية، فلا هوية تنفع ولا عقيدة تحميك، الكل مطارد تحت سقف سماء وطن ينزف.
أشعر بالاختناق وكأن اعصارا هب فجأة وعم الفضاء غبارا، أتذكر طلابي في الجامعة وحياتي الهنيئة مع أفراد عائلتي في بيت يحيطه روض من الجيران والأهل والأحباب. انسلخنا عنهم بل انسلخ الكل عن الآخر لننتهي في شرق الأرض ومغاربها و ليغرق بعض منا في مياه البحر ويرتاح. نحن كنا من المحظوظين لنرتاح ونستقر في شقة صغيرة تحيطها صحراء قاحلة من الجيران، لا يسلم عليك أحد ولا يطل عليك أحد، وكأنك نكرة أو أنهم هم النكرة. تلك الشقة التي يحتم علينا مغادرتها بعد سنتين من العقد الموقع من صاحبها، لنبحث من جديد عن شقة أخرى بدون جدوى. مفتاح شقتنا الجديدة ضائع في عتمة اليأس ونحن من غير كلل نتأمل بقعة ضوئية لترشف عنا همّ الانتظار.ألهذه الدرجة قدرنا يقسو علينا، أم نحن الذي بيننا خرابا وأجلسناه كرسي معتوها مليئا بالطرش لا يسمع هدير المياء إلى أن تقيأه الطوفان فصرنا ننعيه بعدما هربنا متنقلين من قارة إلى أخرى ودولة إلى أخرى وها نحن الآن ننتقل من شقة إلى أخرى. ألم يحن الوقت لتستقر أرواحنا من عناء الترحال؟
ضائعا أمشي بين شوارع أسلو ورأسي واحة مليئ بالأسى مفترشا أعماقي الخاوية وخطواتي على أرصفة الغربة تائهة بين الإنسانية والوفاء وبين القلق والجفاء أتعثر باحثا في فضاء تلك المدينة عن أمل يدثر وحشتي الخرساء إلى أن وجدت نفسي داخل حديقة "فروغنر" لأستيقظ فجأة على اخضرار الأشجار وزقزقة العصافير من فوق رؤوس التماثيل الضخمة. توقف تفكيري في تلك اللحظة ولم أعد أرى إلا عظمة مبدع تلك الأجساد الضخمة المصنوعة من البرونز. فجأة تبصر عيني رجلا مسنا يجلس وحيدا وبيده جريدة "الآفتن بوستن" كان ينظر إلى الشمس بابتسامة عاشق أو محب وكأنه يغازلها وأنا في وحدتي ومللي أستهوتني الرغبة للجلوس بقربه والتحدث إليه. توجهت نحو المقعد وجلست بجانبه، التفت إليه بين الفينة والأخرى، لم يعيرني الإنتباه وكأنه غير موجود أو أنا الذي لست موجودا. أخرجت كتابا من حقيبتي أتصفحه لأقتل مللي فإذا بذلك المسن يلتفت إلي ويحيني طالبا أن أعيره الكتاب للحظات. أعطيته الكتاب بفرح، لم أصدق أنني وجدت أحدا يقتل غضبي الذي بداخلي ولو بكلام عابر حول الطقس والشمس وزقزقة الطيور. كنت أنظر إليه وهو يتصفح الكتاب برفق وينظر إلى صورة الغلاف . يهز رأسه، يبتسم ويقرأ عنوان الكتاب بصوت مسموع: " كور فيلوك ، الأسطورة والواقع" هذا الرجل الذي في صورة الغلاف من الذين قادوا دولتنا وعملوا كل جهدهم لكي نصير إلى ما نحن عليه الآن. ثم أضاف بعد لحظات من الصمت، آه على تلك الأيام، يحرك برأسه، " أتذكر ملكنا (أولاف) الذي وقف في طابور مع الركاب ليشتري بطاقة القطار كباقي الشعب. كان حينها إضراب سياسي على البترول. لم يركب سيارته، شارك كبقية افراد الشعب. تصور ....! أذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة. انفجر بالبكاء وجسمه يرجف، اندهشت من حالته ومن غير وعي انفجرت أبكي معه دون أن أدري لم أبكي في تلك اللحظة. فجأة يتوقف عن البكاء وينظر إلي جاحظا عينيه المحمرتين مستغربا.
_ لماذا تبكي؟
فاجأني سؤاله الذي أوقف بكائي. قلت له في ارتباك:
_ أبكي على بكائك.
ابتسم وقال:
_ أنا أبكي عن ملك محبوب عندنا. أبكي عن شهامة عن رجولة عن نزاهة، عن حاكم عادل، عن قائد ظل في قلبنا يعيش حتى الآن.
نظرت إليه وكلي خجل وقلت بحرقة تئن من تحت ضلوعي:
_ أما أنا فأبكي عن أورام في قلبي متراكمة، عن حزن غربتي، عن بلد لا تفارقه الحروب، عن شعارات تتقيؤها المنابر، عن ملك مخلوع عن شعب منتشر في بقاع الأرض ينعي الوطن، عن وطن يرثي شعبا نصفه ميت والنصف الآخر يبحث عن مأوى.
مجموعة قصص " العربان في بلاد القرصان" التي ستصدر قريبا.
www.zakianna.se