انطباعات حول رواية ( حاج كومبو ستيلا )
...............................................................
بقلم: زكية خيرهم
...........................
للروائي البرازيلي العالمي باولو كويلهو
" الحياة سفر والإنسان في قطارها يسير، يختار الطريق مكتشفا دواخل نفسه الإنسانية وأسرار روحها."
ورواية " حاج كومبوستيلا" تتحدث عن ذلك السفر الذي يمر به الإنسان ويخرج منه بنتيجة وتجربة. من خلال الرواية نستدل على إرادة الكاتب نفسه إزاء تجربة السفر حيث يجب أن يكون الإنسان قادرا على خوض التجربة التي تمنحها له الحياة وأن يتبع هدفه ليحقق حلمه ويصل إلى ذروة النجاح من غير يأس أو إحباط وتراجع. هي نفس فلسفة باولو في روايته هذه وأيضا في روايته " الخيميائي " ، التي ترجمت في طبعة عربية بعنوان " ساحر الصحراء " ، إذ يقول:
" وعندما تريد شيئا ما فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك" ، ألا يذكّر هذا بقول الشاعر التونسي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
وسبب هذا التصور هو أن الروائي باولو نفسه ، قال في لقاء معه عن المكونات الأساسية لروافده الأدبية ، أنه تأثر بالشاعر اللبناني المهجري جبران خليل جبران ، وأنه كتب واحدا من كتبه متأثرا بكتاب جبران ( النبي ) ومراسلاته مع السيدة ماري هاسكل التي كان يعيش معها قصة حب أفلاطونية، علّمته ماذا يستطيع الحب أن يصنع . الإرادة القوية والتفكير العميق واكتشاف الذات ومواصلة السير وتحمل المتاعب والألم والضربات القاسية مع الصبر هي كلها من عوامل النصر والوصول إلى ذروة النجاح واطمئنان الروح. "رحلة سان جاك دي كومبوستيلا" تحمل القارئ سهوا وتزحف به بعيدا ليبحر داخل إنسانيته واكتشاف أسرار روحها ، لأن الجهل بالذات هو جهل بالطبيعة الإنسانية وقوانينها ، و معرفة الذات هي المنفد الأول لفهم الذات، وهذا ما كان يسعى إليه بطرس دليل الروائي فرحلته تلك تعكس رحلة وتجربة كل إنسان، فهي مليئة بالمشاق والإخفاقات اللامتناهية . هناك من يظن أن الإعاقة تكمن في الجسد وفي الواقع الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الفكر والسلوك ، وأفضل مثال قصة "هيلن كيلر" التي انتصرت على العمى والصمم والخرس ، ومن يتخيل حتى هذه اللحظة أن عميد الأدب العربي الدكتور المرحوم طه حسين كان كفيفا من صغره، ورغم هذه الإعاقة مكنته إرادته القوية من إثراء المكتبة العربية بأهم الكتب الأدبية والنقدية ، فالرغبة العارمة هي سر النجاح لدخول عالم من خلال المحاولة ثم المحاولة ، إذ يقول سقراط : ما نحن إلا ما نفعله مرارا وتكرارا.
إستطاع باولو بقدرة فائقة أن يجعل القارئ يقترب من نفسه ويتجرد من الخوف بما فيه الموت الذي يلتهم الإنسان ويكبله بأساور الرعب من العالم الآخر. من خلال روايته يستشف القارئ أن العالم ليس هو المال أو القوة بل أسمى من ذلك، إنه الشرف والعلاقات الإنسانية. وكانت رحلة الحج إلى سانتياجو دي كومبوستيلا ، رحلة النور و الاكتشاف ولقاء الأصدقاء وبلوغ الهدف، وهذا ما يحتاجه الإنسان في الحياة وهو حج الإنسان في حياته منذ ولادته إلى وفاته. لكن فلسفة الكاتب في روايته تجعل القارئ يتساءل: كيف السبيل إلى الحج والوصول إلى الهدف؟ الهدف يحتم على الإنسان أن ينتبه إلى الطريق لأنه يرشدنا إلى الوسيلة المثالية " حتى لو كانت الرغبة فقط هي رغبة في الترحال" كما ورد في رواية الخيميائي.
ينطلق الروائي في مسيرة طويلة يبحث عن سيفه الذي فقده لحظة كان يُقدّم إليه. مغامرة نحو المجهول ممارسا عنفه وقسوته أحيانا ومحتضنا وحدته أحيانا أخرى متوسدا مسافات من الصمت والانفعال والتفكير والحوار أحيانا مع مرشده بطرس الذي كان يساعد الروائي باولو بتنويره إلى الطريق الصحيح عبر تمارين وطقوس "رام" ، وهي ممارسات بسيطة تساعد الإنسان على اكتشاف طريقة خاصة به مبنية على الصرامة والمحبة والرحمة وتمدّه بالطاقة والشجاعة والتنوير الذي يصله بالحقيقة. إنها رحلة أسطورية لتجارب روحية كثيرة، تتمثل في اكتشاف معان جديدة للحب والورع والموت والألم. نجد باولو يحدو مسعى معاصرا لحكمة القدماء . رحلة أصبحت بداية لتجربة حقيقية يتعلم فيها الإنسان طبيعة الحقيقة عبر بساطة الحياة التي تتكرر لدى الإنسان ليحاول من جديد رحلة أخرى للبحث عن تلك المعرفة ، وبقدرة الكاتب وموهبته الأدبية يجعل القارئ يعيش سيره و معاناته و جنونه ومعاني حياته.
رواية "حاج كومبوستيلا" لها مكانة خاصة ضمن أعمال الكاتب باولو كولهو، فهي محطة متميزة في حياته . إنها تجربته الحقيقية عن رحلة سامية وصادقة أرتقت إلى المصالحة مع الذات عبر إشراق خاص ، فقد كانت الطريق الذي يسلكه الإنسان في حياته للوصول إلى أطمئنان الروح والرجوع إلى خالقها ، وهنا نلاحظ فلسفة باولو العميقة : كل يسير على طريقه الخاص به، المهم هو أن الطريق بحد ذاتها إكتشاف للنفس من خلال السفر والسعي والوصول سواء كان حج المرء إلى الشرق أو إلى الغرب فرغم اختلاف الطرق إلا أن الهدف واحد. هذا ما يلمسه القارئ في الروايتين" الخيميائي" و "حاج كومبوستيلا" فالوصول غير مربوط بزمن معين أو سن أو نسل أو عرق أو مذهب ، وإنما يقوم ويتحقق بالكفاح والمواظبة وقوة الإيمان والاستمرار. في رواية "الخيميائي"
يقول الكاتب:
( على أية حال إن كل شخص على الأرض يلعب دائما الدور الرئيس في سيرة العالم وهو لا يدري )
ومن ذلك نستطيع أن نجعل من الأزمة فرصة ومن الفرصة تاريخ يدون كما دون الراعي تجربته ووصوله حتى وإن كان راعيا للغنم .. فالحب كما تعلمه من إمرأة الصحراء لا يمكن أبدا أن يبعد إنسانا عن أسطورته الشخصية. لذلك لا أستغرب شغفي وشغف آلاف من القراء بأعمال هذا الكاتب الكبير، ما زلت تحت تأثير رحلته التي أخذتني معه إلى الحج لأحج معه وأكتشف أيضا ذلك السر لكنني لن أعلن عنه ، وهذا هو سبب انتشار أعماله الروائية إذ وزعت رواياته ما يزيد عن 75 مليون نسخة ، وترجمت روايته " الخيميائي " إلى 62 لغة وباعت وحدها 30 مليون نسخة في 150 بلدا . وفي اعتراف جريء قال في ندوة عقدت له في القاهرة في عام 2005 : ( ذهبت ثلاث مرات لمصحة عقلية لأنني كنت مختلفا والناس من حولي وعلى رأسهم أفراد أسرتي ظنّوا أنني مجنون ، ودخلت السجن ثلاث مرات خلال الحكم الديكتاتوري في البرازيل ، وهي خبرات لا يمكن أن نستغني عنها في حياتنا وأعتبرها نياشين على روحي ).
..........................
( كاتبة مغربية مقيمة في أوسلو – النرويج )
ghaliawin11@yahoo.com