مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 شوبنهور فيلسوف التشاؤم

 

شوبنهور

 

بقلم: محمد زكريا توفيق
............................


ولد شوبنهور في دانزج عام 1788م، جزء من بولندا حاليا. من أسرة ثرية تعمل بالتجارة. كانت تعده أسرته للعمل بالتجارة، لكنه لم يكن شغوفا بالأعمال التجارية، وفضل الذهاب للجامعة. مات والده منتحرا على الأرجح عام 1805م، وتوفيت جدته وهي مصابة بالجنون.

ورث شوبنهور عن أبيه طباعه، وعن أمه ذكاءها. فقد كانت كاتبة قصة مشهورة في ذلك الوقت. كان دائم النزاع مع والدته بسبب تصرفاتها المتحررة بعد وفاة زوجها والد شوبنهور. بعد مشاجرة مع أمه، خاصمها ولم يرها لمدة أربعة وعشرين عاما. حرمانه من عطف الأم ربما كان السبب في كرهه للمرأة ونظرته التشاؤمية للحياة.

في عام 1820م، بدأ شوبنهور في تدريس الفلسفة في جامعة برلين.كان يحرص على أن تقع محاضراته في نفس الوقت الذي يلقي فيه الفيلسوف العظيم هيجل محاضراته في نفس الجامعة. لقد كان شوبنهور معارضا شرسا لفلسفة هيجل. عندما وجد أن عدد الطلبة التي سجلت في مادته لا يزيد على الخمسة، ترك شوبنهور الجامعة والتدريس معا، ولم يعد لهما بقية حياته.

في عام 1831م، انتشر وباء الكوليرا في برلين. فر شوبنهور بحياته لكي يستقر بصفة نهائية في فرانكفور عام 1833م. عاش يعمل وحيدا فريدا بدون زوجة أو ولد. كان أول الفلاسفة الغربيين الذين أعلنوا إلحادهم على الملأ. تأثر بالفلسفة الشرقية وخصوصا فلسفة بوذا.

عندما ألف كتابه "العالم كارادة وفكرة"، أرسله للناشر الذي علق عليه بقوله: "إن هذا الكتاب ليس مجرد سرد لأفكار وآراء قديمة، لكنه بناء شامخ متماسك من الآراء الأصلية، والبيان الواضح. ولا يخلو من الجمال. على الرغم من عنف أسلوبه، إنه كتاب سيكون في المستقبل مصدرا وموردا لمئة كتاب".

مع ذلك، كتاب شوبنهور هذا لم يلق رواجاً او اهتماما. فقد كان العالم فقيراً ومتعباً ولا حاجة به لقراءة كتب عن فقره وتعبه. بعد ستة عشر عاماً من طبع الكتاب أبلغ شوبنهور أن جزءاً من نسخة بيعت بالجملة ورقاً تالفاً ليستخدم في لف البضائع.

كان الفيلسوف كانط يفرق بين العالم كما نراه نحن ونحسه، وبين العالم الحقيقي. العالم كما نحسه، أسماه كانط "العالم الظاهري" (phenomenal world). والعالم الحقيقي أسماه "العالم كما هو" (noumenal world)، أي المستقل عن تأثير العقل.

لكي نوضح الفرق، نفترض أن هناك صياد سمك وجد أن الأسماك التي تقع في شبكته لا يقل عرضها أو سمكها عن خمسة سنتيمترات. هنا يفترض الصياد أن البحر ليست به أسماك صغيرة. هل هذه معلومات صحيحة؟

لا، هذه المعلومات غير صحيحة، إذا كان قطر فتحات الشبكة خمسة سنتيمترات. المشكلة هنا ليست في البحر، وإنما في الشبكة. الشبكة تمثل مخ الإنسان بما به من خلايا عصبية وكهرباء وكيمياء. شبكة المخ هذه تحاول اصطياد المعلومات من العالم الخارجي، الذي يمثله البحر في قصة الصياد.

بالطبع عملية اصطياد المعلومات ليست بريئة وخالية من تأثير الزمن والمكان، التي يفرضها العقل لكي يرتب بها هذه المعلومات. بالنسبة لكانط، المعلومات الحقيقية موجودة، ولكننا لا نعرفها بالضبط.

شوبنهور يتفق مع كانط في تقسيم العالم إلى ظاهري وحقيقي. لكن شوبنهور يختلف مع كانط في أن العالم الحقيقي، يمكن معرفة شيئا منه. أي أننا يمكننا معرفة جزءا من الحقيقة.

يقول شوبنهور أننا يمكننا تصور الأشياء المتماسكة مثل "كوب" أو "كلب" أو "شجرة". ندرك هذه الأشياء بموقعها في الزمان والمكان. لكن نظارة الزمان والمكان هي شبكة الصياد في المثال السابق. وإذا ألغينا عاملي الزمان والمكان، ألغينا معهما خصوصية هذه الأشياء.

ثم يضيف شوبنهور، أن العالم الحقيقي ليست به أيضا علل سببية كما نعرفها. لأن العلل السببية من خواص العالم الظاهري فقط. العالم الحقيقي، البحر في قصة الصياد، ليس شئ خارجي عن تجاربنا ومعلوماتنا. إنما هو داخل العالم الظاهري الذي نعرفه ويختفي بين طيات نسيجه.

كما أنني أستطيع مراقبة جسدي من الخارج، أستطيع أيضا الإحساس بما يدور داخله. وقد أرى رؤيا تتحقق. وقد أتذكر صديقا، فإذا به يطلبني في التليفون بعد دقائق. هذه الأشياء لا تعتمد على الحواس الخمس. لكنها تعطينا فكرة عن وجود هذا العالم الحقيقي الذي لا نستطيع إدراكه بالحواس.

إحساسنا بالعالم الحقيقي يعتمد على الشخص نفسه، على الإرادة. أي أن معرفتنا بالعالم الظاهري تعتمد على الحواس، ومعرفتنا بالعالم الحقيقي تعتمد على ما أسماه شوبنهور بالإرادة (will).

لدينا الآن عالمان. عالم الحواس (ندركه بالحواس)، وعالم الإرادة (ندركه بالإحساس الداخلي). عالم الإرادة، هو البحر الواسع في قصة الصياد والشبكة. هو الضوء الذي لا تراه العين، والصوت الذي لا تسمعه الأذن. هو بمثابة طاقة عمياء غير موجهة. وما العالم الظاهري إلا مظهر فقط من مظاهر عالم الإرادة.

عالم الإرادة هذا، كطاقة عمياء، هو عالم رهيب. عندما ننظر حولنا، لا نرى سوى البؤس والشقاء وصراع الإنسان والحيوان والنبات من أجل البقاء.

ما الذي يجعل رجلا مثل هشام طلعت يضحي بمستقبله الإجتماعي والسياسي والإقتصادي في سبيل قصة غرامية فاشلة؟ ما الذي يجعل رجل السياسة يكذب وينافق ويرتشي وهو في غنى عن كل هذا؟

يخبرنا شوبنهور أن هذا بسبب، عالم الإرادة، فهو وراء هذه القوى الخفية التي تسبب كل الشرور. هذه القوى تطلب فقط المزيد. ومن هنا جاءت فكرة "الهي" (ID) عند سيجماند فرويد. "الهي" عند فرويد تعادل "الإرادة" عند شوبنهور. وقد كتب فرويد يوما يقول: "نحن بدون قصد، نسبح في ميناء فلسفة شوبنهور".

يخبرنا البريطاني ريتشارد دوكنز في كتابه الهام "الجين الأناني" عام 1976م، أن الهدف من الحياة بالنسبة لكل الكائنات هو شئ واحد فقط: الحفاظ على الجينات وانتقالها من جيل إلى جيل. الأحياء تولد وتموت، لكن الجينات ثابتة لا تموت. وهي أفكار لا تبعد كثيرا عن فكرة "الإرادة" عند شوبنهور.

"الإرادة" عند شوبنهور هي قوى عمياء طاغية ماكرة. قد تخفي الغرض الحقيقي من أعمالها. وبمعنى آخر، العقل البشري مهيأ لكي يخدع نفسه، ويخدع نظرته للعالم.

إذا نظرنا إلى ما يحدث في هذا العالم، نجد أن الحياة لا تعبأ بسعادة الإنسان وراحته. الهدف هو الإنجاب والإنتقال إلى جيل جديد فقط. سلاحف جنوب المحيط الهادي كبيرة الحجم، تموت بالمئات عندما تصطدم بالصخور أثناء العواصف في محاولاتها للخروج للشاطئ لكي تضع بيضها.

نوع من الفراشات، تخرج من الشرنقة، وجهازها التناسلي مكتمل النمو، وكذلك جهازها الهضمي. تقوم بالتناسل ووضع البيض. لكن الطبيعة نسيت أن تعطيها فم تأكل به. وسرعان ما تموت جوعا. فهل هناك قسوة أكثر من ذلك؟

الإنسان بعد سن الثامنة عشر، يبدأ في العد التنازلي. بعد فترة الشباب، أي فترة الحيوية والتناسل، لا فائده منه وليذهب إلى الجحيم كما يقول شوبنهور، فيهرم ويموت.

بعد ذلك، هل يمكن أن يكون الإنسان متفائلا؟ نظرة واحدة إلى صحف الصباح، أو سماع نشرات الأخبار، بما فيها من حواث قتل بالجملة وكوارث طبيعية يقتل فيها مئات الألوف وأمراض وأوبئة وجوع، إلخ. هل يمكن أن يتفاءل الإنسان وسط هذا الكم الهائل من البؤس والشقاء؟ لذلك يسمى شوبنهور فيلسوف التشاؤم.

يرى شوبنهور أن الحلول التي جاءت بها الأديان، مثل البوذية والمسيحية مثلا، هي حلول خيالية لا تزال تخدم "الإرادة". لكن شوبنهور يخبرنا ألا نيأس، لأنه هناك حل. صحيح كل الحضارات عبارة عن عملية تهذيب للجنس والعنف، إلا أنها لا تزال أسيرة "الإرادة".

الطريقة الوحيدة للتخلص من عبودية "الإرادة" عند شوبنهور هي الموسيقى. لكن الموسيقى أنواع. بالطبع لم يقصد شوبنهور الموسيقى الشبابية. من نوع "بوس الواوا" و "خليها تاكلك". كل أنواع الموسيقى التصويرية أو العاطفية أو أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب لا تصلح لهذا الغرض. حتي السمفونية السادسة لبيتهوفن، التي تصور الريف والأبقار في المراعى، لا تصلح.

فقط الموسيقى بدون كلمات وبدون تصور، أي الموسيقى التأملية التي تشبه الموسيقى الباروكية، هي التي تصلح للهرب من سلطة "الإرادة". موسيقى باخ وفيفالدي وغيرهم من الحقبة الباروكية. هذه الموسيقى تجعلك تهرب من هذا العالم إلى النقاء والصفاء والنيرفانا. هدف يجاهد في تحقيقة أفلاطون وبوذا والصوفيون.

فلسفة شوبنهور كان لها تأثير عميق على الحركة الثقافية في أوروبا وبخاصة ألمانيا. نيتشة وسيجماند فرويد وتوماس مان، لا يمكن فهمهم إلا عن طريق شوبنهور. إلا أن نيتشة وجد الموسيقى الباروكية لا تزال تداعب الشعور. ومن ثم لا تصلح. لأنها تصبح تحت تأثير "الإرادة". فما رأيك في موسيقى فاجنر؟

أمضى شوبنهور البقية الباقية من حياته في فرانكفورت. أبى أن يسخر قلمه للكسب، وكان يقتدي بسقراط الذي كان يرفض أجرا من تلاميذه. عاش الثلاثين سنة الأخيرة من حياته بلا صديق سوى كلبه "أتمان".

تجاهلته الجامعات وتجاهلت كتبه. قال عنه نيتشه: "لا شئ أساء للجامعة والعلماء أكثر من مخالفة شوبنهور لهم". أقبل المثقفون من محامين وأطباء وتجار على قراءة كتبه. لأنهم وجدوا فيه فيلسوفا يقدم لهم دراسة وافية عن ظواهر الحياة الحقيقية، لا الميتافيزيقا.

بعد إنتشار حالة اليأس في أوروبا عام 1815م، بسبب آثار الحرب وانتشار الفقر والكفاح من أجل البقاء والدعوة للنظم الإشتراكية. كل هذا ساعد شوبنهور ورفعه إلى ذروة المجد والشهرة.

عندما بلغ الثانية والسبعين من العمر، وفي يوم من أيام عام 1860م، كان يجلس وحده يتناول طعام الإفطار، وكان يبدو في وافر الصحة والعافية، وجدته ربة الدار جالسا ميتا. هذه قصة حياة شوبنهور وفلسفته. أحد عظماء الفكر في عالمنا الحديث.

zakariael@att.net
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية