تداعيات نظرية التطور لداروين (2)
...............................................................
| |
داروين | |
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
في كتابه أصل الأنواع، لم يتعرض داروين لتطور الإنسان مباشرة. لكن مدوناته المبكرة يتضح منها أن موضوع تطور الإنسان، كان يشغل باله. وعندما أتم كتابه "سلالة الإنسان" ، لم يجرؤ على نشره إلا في عام 1871م، أي بعد نشر كتاب أصل الأنواع ب 12 عام.
جاء في كتاب داروين "سلالة الإنسان": إن الشواهد القوية تحتم علينا القول بأن الإنسان ينحدر من سلالة أدنى في سلم التطور. هذا بالرغم من عدم عثورنا على الحلقة المفقودة التي تثبت ذلك. الإنسان ما هو إلا نوع آخر من الحيوانات، شئنا أم أبينا.
بذلك لا تختلف طبيعة الإنسان عن طبيعة الحيوان. فأي فروق خلقية أو بيولوجية يمكنها أن تميزنا عن باقي الحيوانات؟ وما هو تأثير فكرة داروين الخطرة على حياتنا وأخلاقياتنا.
يرى البعض داروين كأعظم عقلية ثورية في تاريخ البشرية، ويرى آخرون أن داروين هو أحد ثلاثة، قاموا بتدمير ونسف الإعتقاد بعظمة الإنسان وكبريائه ومكانه المميز على سطح هذه الأرض.
أما الثلاثة المشار إليهم فهم: الأول هو العالم الإيطالي "جاليليو جاليلي" الذي أثبت بتلسكوبه المتواضع، عندما رصد أقمار الكوكب جوبيتر من أعلى برج بيزا المائل، أن الكرة الأرضية ليست مركز الكون كما كنا نعتقد سابقا. إنما هي مجرد كوكب صغير يدور مثل باقي الكواكب حول الشمس.
ويأتي داروين بنظريته، ليثبت أننا مجرد حيوانات لا أكثر ولا أقل. أما ثالث الثلاثة، فهو "سيجماند فرويد"، الذي يقول أننا حيوانات مريضة نفسيا نحتاج إلى علاج. أنظر إلى صفحات الحوادث في الصحف اليومية. وانظر إلى ما نفعله بالبيئة. أو إلى ما يفعلة الإسرائليون بالشعب الفلسطيني الأعزل. أو إلى ما يفعله حكامنا بنا. ألا يدل ذلك على أننا نحتاج إلى علاج نفساني؟
بالنسبة لعلاقتنا بعالم الحيوان، كتب داروين في كتابه "سلالة الإنسان" ما معناه: "هناك شئ يجمع الإنسان والحيوانات العليا، مثل القرود والغوريلا. كلنا لنا نفس الحواس، ونفس البديهة، ونفس الشعور، ونفس الإحساس والعواطف التي تظهر الغضب والإنفعالات.
نحن والحيوانات العليا، نشترك في صفات الخداع والإنتقام والدعابة. الحيوانات تحب وتكره، وتشعر أيضا بالنشوة وتمارس حب الإستطلاع. تختار هي أيضا بين الخيارات المختلفة، وتستخدم ذاكرتها، وتحلم وتتخيل أشياء غير موجودة .
يرتقى الفرد منها داخل مجتمعه من مرتبة دنيا إلى مرتبة عليا. وتصاب بعض أفرادها بالغرور والجنون وحب السلطة، مثلنا تماما ولكن بدرجات متفاوته، أقل منا بالطبع نحن البشر."
يعترف دارون بأن الحيوانات ليس لها وعي بالذات أو القدرة على الكلام بطلاقة والقراءة والكتابة كالإنسان. كما أنها ليس لها دين أو كتاب مقدس. لذلك، تنجو من هذا الكم الهائل من الخرافات التي تسمم العقل البشري وتقف حجر عثرة في سبيل تقدمه ورقيه.
أنظر كم دين وكم فرقة وكم مذهب، ظهرت وسوف تظهر في التاريخ الإنساني عبر العصور. كم عددها؟ مئات الألوف؟ أكثر أو أقل؟ كل منها يجزم ويحلف أتباعه ومريدوه بالطلاق أن دينهم هو الصح والباقي ركش. مستعدون أن يضحي كل منهم في سبيل هذا الدين القويم بحياته وعياله وأمواله.
هل معقول أن تكون كل هذه الأديان، التي يعض عليها أتباعها بالنواجز، مبنية على عقيدة حقيقية؟ بالرغم من تعارضها مع نفسها وتعارض بعضها البض، وعدم منطقيتها، وما بها من أساطير وخرافات تخالف العقل والعلم؟ أم كلها أوهام لا توجد إلا في عقولنا المريضة؟
الأديان عند داروين، عبارة عن أوهام، صدقناها وآمنا بها بسبب الخوف من الموت وطمعا في الخلود. تبيع لنا الوهم وتعدنا بالجنة والحور العين، وترهبنا بالنار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت.
الأديان كما يعتقد داروين، لا توجد إلا في عقولنا فقط. مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. مثل الدائرة والخط المستقيم وكل القوانين. هي أيضا لا توجد في الطبيعة، ولكن من إنتاج العقل البشري ليس إلا.
أنظر إلى الحروب التي قامت بسبب الأديان، وملايين الأبرياء التي قتلت بإسم الرب الغفور الرحيم. أنظر إلى ما يقترفة الإسرائيليون من بشاعة لتحقيق وعد الرب بأرض الميعاد. وإلى ما تفعله العقيدة العمياء بالعقل البشري وقدرة الإنسان على التفكير.
أنظر إلى ما يفعله الدعاة الجدد بنسائنا وعقول شعوبنا. مما جعلها غير صالحة للبحث والإبتكار، وغير قابلة للحضارة والحياة الحرة الكريمة، وغير قادرة على الثورة على الظلم والإستبداد.
الحيوانات تحس أيضا بالجمال والموسيقى، ولها قدرة على فعل الخير والأعمال الأخلاقية. قرود الشمبانزي والبابون تقوم ببعض الأعمال البطولية لإنقاذ رفاقها في حالة الخطر.
لا تتصارع ذكور الحيوانات مع بعضها حتى الموت طلبا للأنثى، وإنما تتصارع لاختيار الأقوى فقط. حتى تأتى الذرية قوية. الثعابين، لا تستخدم أنيابها السامة في الصراع بين الذكور.
المهزوم يترك الساحة ويذهب لحال سبيله دون أن ينقض عليه المنتصر ويقتله كما نفعل نحن. الحيوانات لا تقتل إلا طلبا للطعام أو دفاعا عن النفس. الحيوانات هي أيضا لها أخلاقياتها.
لذلك ينتهي داروين إلى النتيجة التي تجعله يفضل أن يكون من سلالة قرد شجاع، على أن ينتمي إلى جنس بشري يؤمن بالخرافة والكذب. يقدم الأضاحي والقرابين لآلهة خفية غير موجودة. يستعبد المرأة، ويجد متعة غريبة في تعذيب أعدائه من البشر ومخالفيه في الرأي. يسفك الدماء، ويمتلئ قلبه بالقسوة والحقد والغل على أقرانه وأبناء جنسه.
الحضارات، كما يقول داروين، لا تأتي وليدة الصدفة وعوامل الاختيار الطبيعي. إنما تأتي عن طريق القيم الخلقية التي يدعمها إستخدام العقل.
مبدأ الاختيار الطبيعي والصراع من أجل البقاء، يعملان فقط داخل المجتمعات المكتظة الغير مستقرة وأثناء الأزمات الإجتماعية والإقتصادية.
الأمهر في القيادة يتفادى حوادث الطريق وينجو بحياته. الأقدر على الإدارة والعمل المنظم يحتفظ بوظيفته ويصعد إلى مراتب أعلى داخل الشركة. وهكذا.
ربما هذا ما كانت تعنيه إدارة الرئيس الأمريكي السابق "جورج دبليو بوش" بمفهوم "الفوضى الخلاقة". الفوضى وعدم الإستقرار، يجعلان عوامل الاختيار الطبيعي والصراع من أجل البقاء يعملان على إظهار الأفضل في القيادة والإدارة، وفي نظم الحكم، السياسية والإقتصادية. المجتمعات الراكدة الآسنة المستقرة، مثل العالم العربي اليوم، لا تنتج تقدما أو حضارة.
الرجل, كما هو الحال بالنسبة لباقي الحيوانات, يتنافس على الأنثى. حاجة الإناث لذكر واحد, الأقوى فى هذه الحالة, يخلق بين الذكور العنف والصراع. التنافس بين ذكور الحيوانات للحصول على الأنثى كان معروفا لدى علماء الكائنات الحية فى عصر دارون.
هذا التنافس يمكن تفسيره فى ضوء نظرية التطور بدون مشقة. إذا تنافس ذكران من الكباش, فالمنتصر الأقوى ذو الجمجمة الأكبر والأصلب, هو الذى سوف يفوز بالإناث.
من ثم، ينتقل كبر وصلابة الجمجمة إلى الجيل التالي. قد تظهر نتوءات فى الجباة, نتيجة هذا التناطح, تتطور بمرور الوقت إلى قرون, كما هو الحال فى كباش اليوم.
لكن دارون يتساءل عما تفعله الإناث أثناء هذا التناطح. هل هن ببساطة يقمن بالإنتظار فى هدوء لكى يطئهن الكبش المنتصر؟ هذا الإنتظار الهادئ قد يروق كتاب الروايات الرومانسية.
لكن داروين يجد أن هذا الوضع يعتبر مشكلة, من وجهة نظر نظرية التطور, بالنسبة للإناث التى يتجنبها الذكر المنتصر. أما حواء، فقد حلت هذه المشكلة بالكوافير والميكاب والكعب العالي، لإغراء الرجل ولفت نظره.
الذيل, يعتبر عبئ كبير على ذكر الطاووس. الإناث تعيش بدونه ولا تحتاجه. هذا الذيل يستهلك جزءا كبيرا من غذاء الذكر اليومي. كما أنه يعوق الحركة أثناء الهرب من الثعالب والجوارح الأخرى. بالرغم من ذلك, فذكر الطاووس لايزال له هذا الذيل الجميل الرائع, الذى يتجدد, عندما يسقط الريش القديم فى نهاية كل العام.
أثناء موسم التزاوج, تتجمع ذكور الطاووس فى مجموعات. ثم تقوم بالصراخ للفت نظر وجذب الإناث إليها. حينما تظهر أنثى وتقترب من المجموعة, تقوم الذكور بفرد ذيولها فى إستعراض خلاب. بينما تقوم الأنثى بتفقد وتقييم كل طائر حسب حجم وألوان وجودة ذيله.
إذا وجدت الأنثى الذيل المنشود, وراقها وأعجبت به كل الإعجاب, سمحت لصاحبه بوصالها. هل إختيار الأنثى مبني على الناحية الجمالية؟ أى انها تختار الأجمل. أم إختيارها إختيار عملي؟ أى الأكبر والأزهى ألوانا.
هذا السؤال لم يجبه دارون. ولكنه يفسر إخيار الأنثى، بأنه هو السبب فى إستمرار الذيول الكبيرة والجميلة, وإختفاء الذيول الصغيرة والقبيحة، مع مرور الزمن بالنسبة للطاووس.
وجد العلماء أيضا أن الأنثى تلعب دورا كبيرا فى إختيارها للذكر, بالنسبة لحيوانات كثيرة بجانب الطاووس. فمثلا الدجاجات يفضلن الديوك ذوات العرف الكبير الأحمر. سمك السرتيل, الذى يعيش فى أنهار أمريكا, تفضل الأنثى الذكر طويل الذيل. في عالم الحشرات, أنثى صرار الليل, تميل إلى الذكور الأعلى صوتا والأكثر تعقيدا فى صريرها الليلي.
وحيث أن هذه الظواهر وراثية, لذلك فإن الإختيار الجنسي يكون عاملا كبيرا من عوامل التطور، بالنسبة لهذه المخلوقات. الطاووس الذكر منتوف الذيل أو صغيره، لن يجد الأنثى التى تختاره. من ثم، سوف ينقرض وتبقى الطواويس كبيرة الذيل فقط بين الذكور.
يفرق داروين بين مفهوم "الاختيار الطبيعي" ومفهوم "الاختيار الجنسي. بالنسبة للجنس البشري، الإختيار الجنسي أكثر أهمية، ويلعب دورا أكبر من الإختيار الطبيعي في حياتنا. لولا الإختيار الجنسي، لما كان بيننا أغبياء ضعفاء البنية. ولما وجدنا من يقوم بتدمير البيئة، أو من يقدم الولاء والنفاق لحاكم مستبد وهو يعلم أن هذا سوف يدمر مجتمعه ووطنه.
الاختيار الطبيعي وحده، كان كفيلا بالتخلص من هؤلاء. لكن الخيار الجنسي يسمح للضعفاء والأغبياء بالتكاثر والاستمرار. المرأة تختار من بين الذكور، الأكثر مالا وسلطة لا الأصح بدنا والأفضل عقلا. تختار صاحب الملايين، وتفضله على الفقير المكافح الذكي صاحب الخلق. لذلك يكثر بيننا الضعفاء الأغبياء والمنافقين.
وللحديث بقية.
zakariael@att.net