قصص وحكايات من زمن جميل فات (9)
...............................................................
|
المساواة |
بقلم: محمد زكريا توفيق
..........................
أنا الآن في مدرسة فاقوس الإبتدائية- الثانوية للبنين. المرحلة الإبتدائية أربع سنوات. تدرس بها اللغة الإنجليزية في السنة الثالثة والرابعة. المرحلة الثانوية كانت خمس سنوات تنقسم إلى علمي وأدبي. بجوار مدرسة البنين، كانت توجد مدرسة البنات.
نحن في أواخر الأربعينات، وأنا لا زلت في المرحلة الإبتدائية. كان يوم استلام الكتب يوم عيد بالنسبة لي. لسبب ما لا أعلمه كنت أعشق الكتب وأهيم وجدا بها. إلى الدرجة التي جعلتني، قبل أن أدخل المدرسة، أذهب لشراء كتاب مطالعة، للفرجة على الصور الموجودة به.
كانت المدرسة تصرف لنا الكتب بالمجان. كذلك الكراريس بكل أنواعها. الكراريس المسطرة، وصفحة وصفحة، وكراريس اللغة الإنجليزية والرسم وأقلام الرصاص والريش وسنون الريش للكتابة بالحبر، والمساطر والأساتيك المكتوب عليها "الحكومة المصرية" أو "وزارة المعارف". وكانت الكراريس مكتوبا على غلافها الخارجي الخلفي، صفحة إرشادات أو جدول الضرب. إرشادات من نوع: "نم مبكرا واستيقظ مبكرا"، أو "اغسل يديك قبل الأكل وبعده"...إلخ.
أحد المدرسين، جاء إلى الفصل في يوم شديد البرودة. فوجد تلميذا يلبس القميص بدون بلوفر أو جاكت. خاطبه برفق: "يا ابني الدنيا برد، وأنت جاي لابس قميص خفيف، بعدين تمرض".
لكن التلميذ، جاء في اليوم التالي بنفس الملابس. هنا غضب المدرس وقال له: "أنا قلت لك تلبس ملابس ثقيلة؟ جاي برضه بالقميص الخفيف؟" أجاب التلميذ: "يا أفندي ليس عندي غير هذا القميص ألبسه".
في اليوم التالي، جاء المدرس بكيس ورق به بلوفر جديد للتلميذ الفقير وأعطاه له بعد التأكد أنه على مقاسه. عندما تردد التلميذ في قبول البلوفر، قال له المدرس: "يا ابني أنا زي والدك". وفعلنا كان المدرس في ذلك الزمن الجميل مثل الوالد للتلميذ.
كان توفيق أفندي مدرس العربي، خطاطا ليس له مثيل. لوحات الخط العربي بكل أشكاله تزين غرف المدرسين وغرفة الناظر. كان يعرف والدي، ولكن لا يعرفني. في يوم من الأيام، تشاجرت مع تلميذ آخر كعادة التلاميذ في هذه السن.
ذهب التلميذ اللئيم ودموعه تنساب مثل دموع التماسيح لكي يشتكي لتوفيق أفندي مدرس الفصل. أحضرني توفيق أفندي وسألني عن إسمي. عندما علم أن والدي هو توفيق أفندي الذي يعمل في بنك التسليف، إذا به يصفعني قائلا: "يا أخي أبوك صاحبي، وأنت طالع ابن كلب لمين؟"
كان الأسلوب المتبع في التعليم والتربية في ذلك الوقت، هو استخدام العقاب والضرب إذا لزم الأمر. أي تربية الأولاد على الخشونة والرجولة والصدق والشجاعة والأمانة وأدب الحوار والإستماع الجيد.
الفكرة هي أن نعرض أولادنا للريح والشمس والمطر والبرد والخطر، حتي يخشوشنوا ويتخلصوا من مظاهر الضعف والليونة في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم ومسلكهم. الهدف هو تكوين شاب قوي مسؤول بدلا من شاب مايع ضعيف.
كانوا يعلمون الأولاد الوطنية والتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد. فلم أعرف أبدا أثناء دراستي كلها أي فرق بين المسلم والقبطي. كنت أجلس بجوار مختار ميخائيل بقطر، الذي أصبح طبيبا فيما بعد، وهاجر إلى كندا في أوائل السبعينات.
كان أفضل المدرسين وأقربهم إلى قلبي، الأستاذ خليل مدرس الرياضة الذي حببني في هذا العلم. والأستاذ متري مدرس اللغة الإنجليزية، الذي كان يحكي لنا عن أمجاد مصر الفرعونية وعرفني بأسطورة إيزيس وأوزوريس.
بالطبع، لا أنسى أفضال أساتذتي الأقباط في الجامعة، الدكتور ملتيادي حنا والدكتور فهمي إبراهيم والدكتور مقار. فمن منا لم يتعلم على أيدي مدرسين أقباط أو يعالج بأيدي أطباء أقباط. ومن من الإخوة الأقباط من لم يفعل نفس الشئ بالنسبة للمدرسين أو الأطباء المسلمين.
كان مدرسي اللغة العربية، يختلفون عن باقي المدرسين. في الملبس والمظهر وأسلوب التدريس. السبب يرجع لاختلاف الخلفية التعليمية لكل منهم. مدرس اللغة العربية غالبا كان تعليمه أزهري أو ديني، أما باقي المدرسين فكانوا خريجي الجامعات المصرية.
لذلك نجد مدرس العربي يلبس الكاكولا أو الجبة والقفطان والعمامة، أو البدلة والطربوش ورباطة العنق. لكن غالبا ما تكون البدلة ضيقة وغير مكوية ورباطة العنق قديمة وكلها بقع وربطتها كبيرة وألوانها غير مناسبة. القميص ناقص زرار أو اثنين ومفتوح من الوسط. والألوان غير متناسقة.
كان مدرس العربي يختلف أسلوبه في التدريس أيضا. فهو يميل إلى الشدة ويستخدم الضرب بالعصا أكثر. يركز على الحفظ والتسميع. أكثر صرامة، يطلب الإحترام الكامل والطاعة العمياء من التلميذ. وهذا هو الأسلوب القديم في التعليم.
وجدني الألفي أفندي، مدرس العربي، أقرأ مجلة البعكوكة الفكاهية أثناء قيامه بشرح أحد الدروس. سألني عن موضوع الدرس، لكنني كنت في واد آخر مع شخصيات البعكوكة، أم سحلول والدكتور مكسوريان والنكت الجديدة.
ثار المدرس ثورة عارمة، وهجم على جريدة البعكوكة كالوحش الكاسر. قام بتمزيقها إربا وإلقائها في سلة المهملات. بعد أن هدأت ثورته، أعطانا درسا في التربية والأدب، ووجوب الإنصات التام والطاعة العمياء، عندما يقوم المدرس بالشرح.
تاريخ الصحافة الفكاهية، يرجع إلى عصر الخديو إسماعيل في القرن التاسع عشر. فقد أصدر يعقوب منوع أول جريدة فكاهية، "أبو نظارة" عام 1876م بمدينة القاهرة. وكانت تكتب باللغة الدارجة والصور الكاريكاتورية. وكانت تقوم بنقد الخديو إسماعيل وسياسته في الإقتراض من الأوروبيين.
ثم أصدر عبد الله النديم في عام 1891م، صحيفة "التنكيت والتبكيت". وهي صحيفة أدبية تهذيبية، تناولت النقد بطريقة ساخرة. وكانت تناهض الإحتلال البريطاني وتدافع عن الفصحى وتدعو للمحافظة عليها. مما تسبب في نفي النديم إلى يافا في فلسطين.
عندما عاد النديم إلى الديار المصرية في عهد الخديو عباس حلمي الثاني عام 1892م، أنشأ جريدة "الأستاذ". وواصل مناهضته للإحتلال البريطاني، مما تسبب في نفيه إلى يافا مرة ثانية.
في مطلع القرن العشرين، صدرت مجلات وصحف فكاهية كثيرة. استقطبت مشاهير الأدباء، أمثال بيرم التونسي وحسين شفيق المصري بأسلوبهما الفكاهي المحبب للقراء.
في عام 1900م، أصدر محمد توفيق مجلة "حمارة منيتي". وفي عام 1907م، أصدر أحمد حافظ عوض مجلة خيال الظل وأدخل فيها الصور الكاريكاتورية. وظهرت أيضا مجلات "السيف" و"السيف والمسامير" للتهكم واستخدام القفشات في نقد الحكم.
ثم ظهرت أشهر المجلات الفكاهية "الكشكول" عام 1921م لصاحبها سليمان فوزي. وهي مجلة سياسية فكاهية. كانت تهاجم الزعيم سعد زغلول وتنتقد سياسة الوفد بالصور الكاريكاتورية والمقالات الفكاهية.
ثم ظهرت مجلات "البغبغان" و"السيف" و"الناس" و"المسامير". وفي عام 1928م، أصدر بديع خيري مجلة فكاهية "ألف صنف"، وفي عام 1930م، صدرت المجلة الفكاهية الأسبوعية "المطرقة"، وكانت لسان حزب الوفد المعارض لحكومة صدقي باشا.
في عام 1934م، أصدر محمود عزت المفتي مجلة "الراديو". تحولت فيما بعد إلى مجلة "البعكوكة"، التي قام الألفي أفندي مدرس العربي بتمزيقها في الفصل.
كانت دار الهلال قد أصدرت مجلت الفكاهة عام 1926م، التي أدمجت في مجلة الإثنين التي كانت تجمع بين الجد والفكاهة. فما أحوجنا اليوم إلى المجلات الفكاهية، لكي تعود البسمة إلى الوجوه الحزينة.
بالنسبة لمجلات الأطفال، أول مجلة أطفال صدرت في مصر كانت عام 1893م بإسم "المدرسة". كانت لا تعدو أن تكون وريقات قليلة تتعلق بالموضوعات المدرسية.
في عام 1952م، أصدرت دار المعارف أعظم وأجمل مجلة أطفال ظهرت في مصر على الإطلاق، مجلة "سندباد". كانت تتميز بالإتقان والجدية، وتلتزم وتكتب بالعربية الفصحى. وكان يرأس تحريرها لمدة عشر سنوات محمد سعيد العريان. ويقوم بالرسم فيها حسين بيكار وموريللي.
صدرت في نفس الوقت مجلة "علي بابا". وهي أقل مستوى وانتشارا من مجلة سندباد. وفي عام 1956م، أصدرت دار الهلال مجلة سمير التي كانت تعتمد على القصص الأجنبية ذات المحتوى الردئ. ثم صدرت في نفس العام، مجلة ميكي التي لا تزال تصدر حتى الآن. والتي لا تناسب موضوعاتها الغريبة، الشخصية المصرية على الإطلاق.
في عام 1977م، صدرت مجلة "صندوق الدنيا"، بالتعاون مع مؤسسة فرانكلين. وفي عام 1983م، صدرت مجلة "المسلم الصغير" عن جمعية الأسرة المسلمة.
المناهج التعليمية والكتب المدرسية، كان يضعها كبار الأدباء وأساتذة التربية والتعليم الكبار أمثال: أحمد أمين وطه حسين وعبد العزيز البشري والمازني والعقاد وأحمد تيمور ومحمود تيمور وغيرهم. وكانت تهدف هذه المناهج إلى التربية السليمة وبث القيم الخلقية وتنمية الروح الوطنية، إلى جانب التعليم والتربية الرياضية.
كانت الكتب المقررة ذات قيمة أدبية وتربوية عالية مثل: كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وكتاب الأخلاق لأحمد أمين، وكتاب أدب الدنيا والدين للماوردي،...إلخ.
كانت البرامج الإذاعية في الراديو منتقاة وهادفة ومسلية في نفس الوقت، مثل: "على بابا والأربعين حرامي" و"قسم وأرزاق ومعروف الإسكافي"، وبرامج "بابا شارو"، "ركن الريف"، وغيرها. .
كانت الأغاني والموسيقى على أعلى مستوى من الرقي والذوق السليم. أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد وغيرهم. وكان لا يجرؤ مطرب أو ملحن أو مؤلف أغاني من الإقتراب من الإذاعة إلا إذا كان مستواه وأداؤه الفني عاليا.
أفلام السينما كانت أيضا هادفة، تسلي وتساعد على التربية السليمة. وكانت البيوت لاتزال تحتفظ بقيمها النبيلة المتوارثة منذ آلاف السنين. وكان رجال الدين، معتدلين في فتاويهم وتفسيراتهم الدينية. لذلك، كان الإنسان المصري في هذا الزمن الجميل، محاصرا بكل ما هو عظيم ونبيل.
بعد امتحان الفترة الأولى في مادة اللغة العربية، سألت أحد التلاميذ عما فعل في الإمتحان. فأجاب بأنه وجد الإمتحان سهلا، مما جعله يجيب على كل الأسئلة. هذا يعني أنني سوف أرسب في هذا الإمتحان، لأنني لم أجب على عدد كاف من الأسئلة يسمح بالنجاح. فماذا أفعل؟
طبعا لكل مشكلة حل. نحن في مثل هذه السن المبكرة، لا نحسب العواقب جيدا، ولا نقدرها حق قدرها. وجاء إبليس اللعين، لكي يوحي إلى بفكرة جهنمية. قمت بتنفيذها على الفور.
انتظرت حتي انتهاء اليوم الدراسي وانصراف التلاميذ، وذهبت إلى غرفة المدرسين. وجدتها خالية، وكراريس الفصل كلها على مكتب مدرس اللغة العربية في انتظار التصحيح ورصد الدرجات.
لم أتردد لحظة واحدة، فقد كان الخوف من الرسوب هو الهاجس المسيطر على عقلي في هذه اللحظة. قمت بحمل كل الكراريس وخرجت بها مهرولا من غرفة المدرسين ومن المدرسة.
ماذا أفعل بالكراريس؟ لا أستطيع أن أذهب بها إلى المنزل. وكان الحل هو "عم عبده بتاع اللب". فهو يشتري الجرائد والكتب القديمة والمجلات لكي يعمل من ورقها قراطيس اللب. ذهبت إلى عم عبده لكي أعرض عليه شراء هذه الكراريس.
تردد الرجل وسألني: "عاوز تبيع الكراريس دي ليه يابني؟" فأجبته لأنها لم تعد لازمة بعد انتهاء الفترة الدراسية. تظاهر بالموافقة وطلب مني الحضور في اليوم التالي لأخذ ثمنها.
في اليوم التالي، وجدت المدرسة في حالة طوارق مثل خلية النحل. الفراشون يجرون هنا وهناك. يدخلون الفصول واحدا بعد الآخر ومعهم مدرس اللغة العربية. أنا فقط دون باقي التلاميذ الذي يعرف ماذا يجري في المدرسة.
بعد ساعة أو ساعتين من بدأ الدراسة، جاء من يطرق باب الفصل. فتح مدرس الحصة الباب، فدخل الناظر ومعه مدرس اللغة العربية وخلفهم "عم عبده بتاع اللب".
كنت أجلس في أول تختة في أول صف بجوار باب الفصل. وقف عم عبده بتاع اللب،بجلبابه البلدي وطربوشه الأحمر الزاهي، وكرشه الممتد أمام وجهي، وأخذ يتفقد التلاميذ مليا واحدا تلو الآخر. ولأن المولى عز وجل أمر بالستر، ولقرب عم عبده الشديد مني، لم يرني. وقال لناظر المدرسة الذي كان يقف متربصا وعيناه يتصاعد منهما الشرر: "لا موش هنا". ثم خرج ليبحث عن اللص في الفصول الباقية.
طبعا أنا لا أريد أن أصف حالتي النفسية للسادة القراء في ذلك الوقت. أعتقد أنني لم أمر في حياتي بموقف رعب مثل هذا. كنت أقول في نفسي: "آه لو كان عم عبده شافني"، كله إلا كده. ظلت هذه الفكرة اللعينة تراودني عدة ليال، لا أستطيع النوم بسببها أو التخلص منها.
الغريب أنني نجحت في الإمتحان وأخذت درجة أعلى من التلميذ الذي قال لي أنه أجاب على كل الأسئلة، وكان السبب في هذه المدلهمة العظمى.
مثل هذه الأمور تحدث بكثرة للأطفال. تحدث في مراحل تكوين براعم "الأنا الأعظم" وفي بداية تشكيل الضمير. لذلك يجب أن نكون حذرين في تعاملنا مع الأطفال. لكي نستطيع مساعدتهم على النمو النفسي السوي والتغلب على هذه المشاكل، دون أن نسبب لهم شروخا أو تشوهات نفسية تلازمهم في الكبر.
وللحديث بقية فإلى اللقاء.
zakariael@att.net