مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 قصص وحكايات من زمن جميل فات (7)
...............................................................

القعدة عالحصيرة والشاى فى الخمسينه -ماأحلاها عيشة الفلاح - طبعا زمان

بقلم: محمد زكريا توفيق
............................


عندما كنت أترك منزلنا وأنا طفل صغير، للذهاب لزيارة والدي في مكان عمله بشونة بنك التسليف الزراعي بمدينة فاقوس، كنت أرى المسافة طويلة والبيوت والمحلات كبيرة مرتفعة والناس طويلة كالعمالقة. كل شئ كان ضخما في الحجم حتى الزمن كان أطول وابطأ.

لاحظت ذلك عندما ذهبت منذ عامين لزيارة هذه الأماكن بدافع الحنين للماضي. لدهشتي الشديدة، وجدت أن كل شئ، كما نقول بالبلدي، مسخوط. الشوارع التي كانت واسعة أصبحت ضيقة. المسافات الطويلة صارت قصيرة. المباني العالية باتت منخفضة. الناس تحولوا إلى أقزام بعد أن كانوا عمالقة. الزمن أيضا قصر واصبح يمر بسرعة شديدة كلما تقدم بنا العمر.

أثناء ذهابي أو عودتي لزيارة الوالد، أقوم بتسلية نفسي بالفرجة على كل شئ أمر به. هذه طوبة أقوم بركلها برجلي لكي أشعر بوجودي. هذا حائط خشن أقوم بتمرير اصبعي على سطحه لمعرفة مقدار خشونته وملمسه. هذه يافطة لمحل مكتوبة بالخط الرقعة، وأخرى مكتوبة بالخط النسخ. ثالثة مكتوبة أي كلام بخط ردئ.

هذه معصرة لعصر السمسم. يُربط فيها رجل مكان البغل لإدارة حجر المعصرة. أمام بابها منطقة غامقة اللون بسبب اختلاط الزيت بتراب الشارع. ابن صاحب المعصرة كان معنا في المدرسة.

قام صاحب المعصرة بشراء مطحن قريب من منزلنا. المطحن مبني على مساحة لا تقل عن الفدان، كان ثمن الشراء ألفين جنيه في ذلك الوقت.

كان هناك شاب أبيض أحمر الوجنتين زائد الوزن في العشرينات، يلبس الجلباب الأبيض المكوي. يضع في أصابعه الخواتم الذهب ويقوم بتصفيف شعره ودهنه بالفازلين. لا أعلم علاقة هذا الشاب بالماكينة، ربما كان يمت بصلة القرابة لصاحبها.

في يوم من الأيام ذهب هذا الشاب إلى الغرفة التي بها ماكينة المطحن. ماكينة المطحن تعمل بالسولار وتنقل الحركة عبر سيور طويلة إلى أماكن الطحن. لسوء حظ هذا الشاب، تعلق طرف جلبابه بأحد السيور.

جذبته الماكينة إليها بشدة. أخذ يقاوم ولكن دون جدوى. وأخيرا، تغلبت الماكينة على الإنسان، وعصرته عصرا، وهو يصرخ بأعلى صوته. لكن صوت الماكينة كان عاليا فلم يسمعه أحد سوى طفل صغير لم يقدر على مساعدته. مشاهد الرعب ليست مقصورة على أفلام هتشكوك فقط.

أحد محلات المانيفاتورة التي أمر بها، كان يملكه رجل له أربع بنات وولد واحد اسمه رشاد. كان الرجل سعيدا بإبنه رشاد هذا إلى درجة الهوس. إذا ذهبت لشراء قطعة قماش، يبادرك بالتحدث عن ابنه الشاب الذي سوف يخلفه في إدارة المحل. ثم يقول لك والفرحة ترتسم على وجهه، أنا غيرت إسم المحل بإسم رشاد، وآخذه معي للتعرف على تجار الجملة،...إلخ.

طبعا الأمور لا تسير كما نحب ونهوى. لكن لها قوانينها الخاصة التي لا تسير في اتجاه الخير دائما. يسميها هيجل "رعب التاريخ"، حيث تقيد الضحايا من البشر، وتقتل ظلما بدم بارد كقرابين في كثير من الأحيان.

في يوم زفاف أخت رشاد هذا، ابن صاحب الدكان. نصب السرادق وجاءت الفرقة الموسيقية والمطربون والراقصات والمدعوون والمأذون والشهود، وذبحت الذبائح وفرق الشربات. بدأت طلقات الأعيرة النارية تسمع من حين إلى حين.

في هذا الجو البهيج، جاء رجل غشيم لم يستخدم البندقية من قبل، وأصر على أن يجامل. طبعا الواحد منا لازم يجامل في الظروف اللي زي دي. صوب البندقية إلى أعلا دون أن يعرف أن قوانين الميكانيكا تقول: "لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار ومضاد له في الإتجاه". قام الغشيم بالضغط على الزناد دون أن يمسك بالبندقية جيدا. وإذا بالبندقية تدور في يده وتأتي إلى صدر رشاد وفي القلب بالتحديد. طبعا الباقي لا يحتاج إلى وصف.

مررت بالدكان بعد هذا الحاث الأليم مباشرة، فكان مغلقا. وظل مغلقا لفترة طويلة. عندما فتح الدكان، لم تعد الأمور إلى سابق عهدها.

اختفت الفرحة والإبتسامة من الشارع كله. كان يدير الدكان أحد العمال في غياب الأب. حينما يظهر الأب المكلوم، كانت تبدو عليه علامات الإحباط الكامل واليأس القاتم. يتعجل الرحيل للحاق بإبنه وولده الوحيد.

بجوار محل المانيفاتورة، أمر بمحل ترزي افرنجي. يملكه الأسطى عبد الفتاح. الأسطي عبد الفتاح ترزي ما في منه. إيديه تتلف في حرير كما يقول المثل الشعبي. لكن فيه عيب واحد. المواعيد. يعطيك ميعاد بعد أسبوع. تذهب لإستلام الملابس في الميعاد فيحلف لك بالطلاق أنها جاهزة على تركيب الزراير، وفي الحقيقة، هو لم يلمس قطعة القماش قط.

ذهب عبد الفتاح هذا مع أخيه الفلاح وصديق ثالث إلى الغيط بالليل لشرب الحشيش. طبعا الغيطان والمراكب أحسن أماكن لشرب الحشيش لأنها بعيدة عن اعين البوليس. جلسوا في عشة في الغيط وأوقدوا الفحم في الدفاية الفخارية أو "الشالية" كما نسميها في الشرقية كعادتهم ليلة الجمعة من كل أسبوع. أخذوا يتبادلون شفط الدخان من غابة الجوزة، واخراج الدخان من المناخير، بعد وضع قطعة الحشيش (التعميرة) فوق فحم الجوزة.

سكون الليل في الغيط لا يشقه سوي نقيق الضفادع وصرير الهوام. الهواء معتدل وعطر زهور البرتقال يهب مع النسيم بين الفينة والأخرى. عبد الفتاح الترزي ورفاقه مختفين في العشة بعيدا عن الأعين وملتحفين بجنح الظلام. السماء تتلألأ بالنجوم في غياب القمر. لا تظهر سوى أضواء خافته من المنازل الريفية في الأفق من بعيد.

فجأة سمعوا صرخة مدوية شقت سكون الليل. "أنا في عرضك يا عم الجلشاني". ثم صمت مطبق كصمت القبور. طبعا أصحابنا الثلاثة ماتوا في جلدهم من الخوف والرعب. أطفأوا الفحم وتجمدوا في مكانهم حتي الصباح.

بعد ثلاثة أيام، وجد الأهالي جثة غريق في الترعة أوقفها الهويس. ذهبت وأنا طفل مع مئات الأطفال لنشاهد الجثة. الرجال بعصي طويلة يحاولون دفع الجثة جانبا حتي يتمكنوا من جذبها واستخراجها من الماء. رائحة العفن والغرق تملأ المكان.

الجلشاني رجل متزوج من سيدة تمتلك أرض زراعية. له ابن كان يعمل مع والدي كمساعد في الشونة. في أحد الليالي، كان الجلشاني يسهر في بيته مع أصحابه لشرب الحشيش. وكانت مجموعة من الأطفال تلعب كعادتها تحت عمود النور القريب من بيت الجلشاني.

خرج الجلشاني غاضبا لطرد الأطفال وشتمهم لكي يلعبوا بعيدا عن داره، لأنه لا يريد شيئا يعكر مزاجه في هذه اللحظة. لكن الأطفال أطفال. بعد فترة، عادوا للعب مرة أخرى تحت عمود النور نفسه ولم يعبأوا بشتيمة الجلشاني لهم.

"امشوا يا ولاد الكلب والله لأموتكم كلكم". فقام طفل بالرد عليه: "أنت اللي ابن كلب". جرى الجلشاني خلف الطفل ومسكه وضربه، ثم أقسم بالطلاق ليذبحنه بالسكين.

بالطبع شرب الحشيش له دخل كبير في اللي حصل. الرجل لم يكن في وعيه. لكن هناك مشكلة. لقد أقسم بالطلاق، فكيف يبر بهذا القسم دون إيذاء الطفل؟

تدخل أهل الخير لإيجاد حل لهذه المشكلة الوعرة. جاء إقتراح يقول، نأتي بالطفل ويمسك الجلشاني السكين بالمقلوب. ثم يمرر السكين على رقبة الطفل. في هذه الحالة يكون قد بر بقسمه ولم يأذ الطفل. وصافي يا لبن، ويا دار ما دخلك شر. ويصبح الكل أحبابا من جديد.

من يستطيع أن يرفض اقتراحا معقولا مثل هذا؟ في الحال تمت الموافقة. وتكون مجلس صلح من أصدقاء والد الطفل وأصدقاء الجلشاني. وجئ بالطفل والسكين. ثم مرت الجوزة بالحشيش كتحية واجبة في مثل هذه المناسبات. دور ثاني وثالث ورابع. الآن حان وقت تنفيذ التمثيلية حتى يبر الجلشاني بقسمه.

جاءوا بالطفل أمام الجلشاني. وأفهموا الطفل أن هذه تمثيلية لا تستدعي الخوف أو القلق. جلس الطفل على ركبتيه ومال برأسه ومد رقبته إلى الأمام. مسك الجلشان السكين. وبسرعة وأمام ذهول الحاضرين، قلب السكين، وبنصلها الحاد قام بذبح الطفل أمام والده وكل الموجودين.

تم القبض على الجلشاني. وباع كل أملاكه وكل أملاك زوجته للصرف على هذه القضية. حكمت المحكمة في النهاية عليه بالسجن سبع سنوات مع الشغل. سبب هذا الحكم المخفف، هو أنه كان تحت تأثير المخدرات أثناء إرتكابه هذا الفعل الشنيع.

خرج الجلشاني من السجن لا يملك شروي نقير. لم يجد سوى الإتجار بالأفيون والحشيش كوسيلة لكسب العيش. كان يتعامل مع تجار خارج المدينة، يأتون لزيارته من حين لآخر لتسليم البضاعة واستلام النقود.

جاء شاب يبدو أنه جديد في الكار لكي يتعامل مع الجلشاني. بعد أن سلم الجلشاني البضاعة، أخبره الجلشاني أن الفلوس سوف تكون جاهزة في الأسبوع المقبل. عندما عاد الشاب، وبعد أن تأكد الجلشاني من أن الشاب يعمل بمفرده وليس له سند أو معين، أخبره أن المبلغ مدفون في الغيط في باطن الأرض خوفا من هجمات البوليس.

أخذ الجلشاني الشاب وذهب به إلى الغيط. وعلى حين غفلة، قام بذبحه وإلقاء جثة في الترعة. هذا هو الشاب الذي صرخ صرخته الأخيرة: "أنا في عرضك يا عم الجلشاني".

لقد رأيت الجلشاني مرارا. كان يسكن في شارع قاطع لشارعنا يبعد عنا مئات الأمتار. جاء مرة يشتكي ابنه لوالدي بصفته رئيسه في العمل. الرجل كان نحيفا قصيرا. يلبس الجلباب البلدي والبالطو والطاقية. في الخمسينات من العمر. وجهه لايعرف الإبتسامة أو أي نوع من الإنفعالات. يقول إبنه عنه أنه أب مثالي وزوج مثالي. فهل هذا ممكن؟

بعد مقتل الشاب في الغيط، لم يثبت على الجلشاني أي شئ. لكن كل البلد علمت بالقصة. فزادت هيبته وخشيه الجميع. وبدأت تستخدمه العائلات الإقطاعية الكبيرة في مسائل الطار والإنتخابات والعمليات القذرة.

كانت مدينة فاقوس في الأربعينات بها عائلات في غاية الثراء والنفوذ. وكانت تتنافس للحصول على العمودية ودخول البرلمان. أحد أطفال هذه العائلات كان معي في الفصل اسمه علاء.

في يوم زفاف أم هذا الطفل على أبيه، كانت هدية الجد عبارة عن 200 فدان وعربية بكار بمفاتيح ذهب. هذا يعطينا فكرة عن مدي ثراء هؤلاء الناس.

كانت أمه تسير للتريض وقت الغسق بفستانها الأبيض المرصع بالجواهر وأمامها خفيران وخلفها خفيران يحملان البنادق. هذا ما رأيته بنفسي. وكان العروسان يسكنان في قصر منيف. محاط بأشجار الزينة المرصعة بالأضواء التي تقاد بالليل. القصر ملحق به حدائق المانجو والبرتقال الكبيرة والمصورة بالأسوار العالية.

ابنهم الصغير كان يحضر إلى المدرسة مع غفير للحراسة وخادم خصوصي يحمل له الحقيبة الجلد. في أول يوم دراسي له، جاء أحد المدرسين ودخل الفصل مناديا بإسمه. وعندما وجده يجلس في الصف الثاني مثل باقي الطلبة، نظر المدرس شذرا إلى أحد تلاميذ الصف الأول في الوسط، وصرخ في التلميذ: "قوم يا ابن الكلب أقعد ورا. تعال يا علاء أقعد هنا". ثم نظر إلى الطفل الذي يجلس بجواره، وتفحصه مليا. عندما وجد أن شكله لا يعجبه، طلب منه هو الآخر أن يجد مكانا خلفيا. وقام بإختيار أنظف وأشيك طفل لكي يجلس بجوار علاء ابن الأكابر.

لم أشعر في حياتي بأن الناس طبقات إلا في ذلك اليوم. كانت باقي الطلبة تلبس نفس اللبس. سراويل متشابهة وأحذية مكعوبة أو صنادل مقطوعة بدون أبزيم، لم تر الورنيش في حياتها.

بعض البنطلونات بحمالات منه فيه، أي من نفس قماش البنطلون. وبعضها بدون حمالة أو حزام. القمصان غير مكوية والبلوفرات إن وجدت مصنوعة باليد بطريقة رديئة من شعر الماعز. الشعر مقصوص وبعضنا يترك مربعا في وسط الرأس للتزين.

ناهيك عن العماص في العيون والدمامل في الوجوه والجروح والخرابيش في البشرة والأرجل، من لعب الكرة في الشارع. الزكام والبربرة في بعض الأحيان. لكن علاء مختلف.

الشكل مثل الملك فاروق وهو صغير. يلبس بدلة كاملة مكوية وحذاء لامع وقميس أبيض ناصع برباطة عنق. الشعر مفرود مثل شعر الخوجات، طويل ممشط مفروق من الجنب ومدهون بالفازلين. والشنطة جلد فاخر والقلم باركر 51 أو شئ من هذا القبيل. أطفال شكلها يفرح ويجبرك على الإحترام.

يدخل مدرس في أول حصة قائلا: "فين علاء؟ كيف حالك يا علاء؟ عامل إيه يا علاء؟". أما الباقي، فأقعد يا ابن الكلب. واسكت يا ابن الكلب. عندما يقوم المدرس بالشرح، لا يشرح إلا لعلاء. وعندما يسأل، لا يسأل إلا علاء. كأن الفصل لا يوجد به أحد سوى علاء هذا.

طبعا هذا لم يكن يشكل أي مشاكل نفسية لنا ونحن صغار. لأننا كنا نشعر أن هؤلاء لا ينتمون إلى جنس الشعب المصري. أولا، كان عددهم قليل جدا. ثانيا، كانوا يسكنون بعيدا عنا. لذلك، الضغوط الإجتماعية لم تكن موجودة.

أما باقي الشعب، فكان يسكن في بيوت متشابهة. مفروشة بنفس الأثاث. نلبس ملابس متشابهة، ونأكل نفس الأكل، ونأخذ نفس المصروف. قرش تعريفة في اليوم أو مافيش. عندما كنت أذهب للإستذكار مع طفل آخر، كان مسكنه وفرش بيته لا يختلف عن مسكننا بالمرة. هم لا يملكون سيارة، ونحن أيضا لا نملك سيارة. هم يمتلكون راديو فيليبس قديم، ونحن كذلك. السرير بتاعهم نحاسي عليه ناموسية، ونحن كذلك.

لذلك لم يكن هناك حقدا طبقيا داخل الشارع الواحد أو الأسرة الواحدة. بعكس الموجود حاليا. فإنك تجد بسبب تفاوت الدخل وفلوس البترول، هذا الحقد الطبقي داخل الأسرة الواحدة. هذا يعيش عيشة الملوك، وأخوه يموت من الجوع أو يكاد يجد قوت يومه.

أحد هؤلاء الأكابر، كان عمدة منطقة كبيرة من المدينة. وصار يعمل بالسياسة. قصره المنيف يشغي بالحركة مثل خلية النحل. الوقت وقت انتخابات. وهو يقوم بترشيح نفسه في كل دورة للبرلمان.

كان من عادة هؤلاء المرشحين أن يقوموا بدس العيون والبصاصين وسط الخصوم لمعرفة خطط المنافسين والأعداء. كانت كل الطرق القانونية وغير القانونية تستخدم كوسيلة للفوز في الإنتخابات. أسهلها القتل والخطف. الصراع هنا صراع من أجل القوة والسلطة بعد أن تأمنت الثروة. إذا اقترنت الثروة بالسلطة، فحدث ولا حرج.

جاءت الأخبار بأن أحد الخفر كان يتسلل إلى موقع الخصوم من حين لآخر. بعد مراقبته والتأكد من صحة هذه المعلومة، تمت مساءلته. أنكر في بادئ الأمر. لكن مع ضغط الإستجواب والأسئلة والشهود، اضطر إلى الإعتراف. ووضح أن هناك شيئا يدبر في الخفاء.

كانت العائلة المنافسة تنوي خوض الإنتخابات والنجاح فيها بأي ثمن. فقررت التخلص من منافسها القوي الشرس بطل قصتنا. كانت الخطة، قيام الجلشاني والغفير بقتل الثري والغدر به على حين غفلة نظير مبلغ كبير من المال. تم الإتفاق، وتسلم الجلشاني مقدم الأتعاب (العربون) ووضعه في جيب البالطو الداخلي.

الثري بطل قصتنا كان له أعداء كثر. وكان من الممكن أن يهدر دمه بين القبائل دون معرفة القاتل إذا نجحت الخطة. بالطبع لن يشك أحد في الغفير أو الجلشاني، لأنهما كانا من رجاله الأوفياء.

قيد الغفير من يديه ورجليه وألقي في مخزن للغلال حتي ينظر في أمره. بعد ذلك، تم استدعاء الجلشاني على عجل بجحة تنفيذ مهمة من المهام القذرة لصالح الثري.

جاء الجلشاني بسرعة. فوجد نفسه داخل مجلس من الرجال أشبه بهيئة محلفين، يجلس وسطهم الثري. الغضب بادي علي وجهه، يتطاير الشرر من عينيه. بهت الجلشاني وتوجس خيفة، لكنه ظل رابض الجأش، لا تبدو على وجهه أية من علامات الخوف أو القلق.

تجاهل الثري الجلشاني تماما ووجه كلامه إلى رجاله وهيئة المحلفين قائلا: "ما رأيكم يا رجال فيمن يخون العيش والملح، فماذا يستحق؟" أجابوا كلهم في صوت واحد: "القتل طبعا". إمتقع وجه الجلشاني واصابت حلقه غصة، لا يستطيع معها بلع ريقه.

ثم توجه الثري إلى الجلشاني وسأله نفس السؤال: "ما رأيك يا جلشاني فيمن يخون العيش والملح؟" أجاب الجلشاني بتردد وصوت خافت وهو يبلع ريقه: "أيوه مظبوط". فبادره الثري: "إيه إللي مظبوط. عايز أسمع منك" أجاب الجلشاني: "الخاين يستاهل القتل".

بصق الثري في وجه الجشاني ونعته بالخائن. ثم عاتبه بغلظة، على إنخراطه في مؤامرة لقتله نظير مبلغ من المال. أنكر الجلشاني بشدة وحلف بالطلاق أنه برئ مما نسب إليه. وأن هذه مكيده من أعدائه بسبب إخلاصه وتفانيه في خدمة الثري.

حينئذ، قام أحد رجال الثري بتفتيش الجلشاني، ولسوء حظه، وجدوا مقدم الأتعاب لا يزال في الجيب الداخلي للبالطو الذي يلبسه.

عندما لم يستطع الجلشاني تبرير وجود هذا المبلغ في جيبه. انهار وجثا على ركبتيه وانحني لكي يقبل قدمي الثري ويطلب العفو والغفران. لكن الثري لم يرحمه وأمر أتباعه بقتله. صرخ الجلشاني قائلا: "أنا في عرضك يا سعادة البيه". وهي نفس الصرخة التي صرخها الشاب ضحيته في الغيط في منتصف الليل.

بسرعة، قيد الجلشاني من يديه ورجليه. ووضعت كمامه على فمه لكي لا يصرخ. واقتيد إلى الغيط في الليل حيث كانت تنتظره حفرة عميقة. ألقي الجلشاني في الحفرة وأهيل عليه التراب لكي يدفن حيا. وفي نفس الوقت، تم خنق الخفير وإلقاء جثه في الترعة، لكي تطفو بعد ثلاثة أيام.

تفقد الأهل والابن الجلشاني. أخذوا يبحثون عنه في كل مكان. لكن لا حس ولا خبر. بعد شهر من إختفائه، جاءت الأخبار تصف ما حدث بالضبط. عرف المكان المدفون فيه الجلشاني. فذهب الإبن لكي يبلغ البوليس.

جاء أحد ضباط البوليس ومجموعة من العساكر إلى المكان المدفون فيه الجلشاني، وبدأوا الحفر. اقترب أحد رجال الثري من ضابط البوليس، ونصحه بالعودة سالما لزوجته وعياله. حينئذ، أمر الضابط العساكر بردم ما حفروه، وكتب في تقريره، إن الحفر لم يثمر عن شئ.

جن جنون الإبن وأقسم على الأخذ بالثأر. ظل يبحث عن مسدس. وقام بالفعل بشراء مسدس من تجار السلاح ووضعه أمانة عند والدي. قام والدي بوضعه المسدس على رف علوي في دولاب الملابس. عندما رأتني والدتي ألعب بالمسدس، أصابها الفزع وطلبت من والدى أن يعيده إلى صاحبه، وقد كان.

كان المسدس صغير في حجم كف الرجل البالغ، "نيكل" معدني اللون فارغ من الرصاصات. وبعد أن عاد إلى صاحبه، لم يستخدم أبدا. فلم يكن الابن شريرا مثل والده. بعد ذلك، طلب الابن نقل عمله إلى القاهرة ونسى الموضع برمته.

لكنني لم أنس هذه القصة التي كانت تتداول في كل البيوت في نهاية الأربعينات في مدينتنا. ليس الرعب موجودا فقط في القصص والروايات الأدبية، ولكن الحياة أيضا مليئة بالرعب والقسوة. التي يسميها هيجل برعب التاريخ.

وللحديث بقية فإلى اللقاء.

zakariael@att.net


06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية