مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 قصص وحكايات من زمن جميل فات (6)
...............................................................

الفلاح المصرى الأصيل

بقلم: محمد زكريا توفيق
............................

كنا ثلاثة أطفال تتراوح أعمارنا بين العاشرة والحادية عشر. أنا وطفل ثان، أصبح محاميا فيما بعد، ثم عضوا في مجلس الشورى، ثم مجلس الشعب لعدة دورات متتالية، اسمه رفعت. الطفل الثالث اسمه حسين، لا أعلم عنه شيئا منذ الطفولة.

ونحن في طريقنا للمدرسة، قررنا الهرب للتحرر والإنطلاق إلى الحقول، بحجة الإستذكار في الهواء الطلق. لقد اقترب العام الدراسي من نهايته، ولم تعد المدرسة جادة في تسجيل مرات الغياب، والمدرسون يقومون بالمراجة فقط.

بالرغم من أننا لم نستذكر حرفا واحدا أثناء هذه المغامرة. إلا أنني لست نادما على هذا الفعل الطائش. لأنه ترك في نفسي أجمل الذكريات التي يمكن أن يحملها إنسان.

بدأنا بالطريق الزراعي أول البلد. السكة الحديد على اليسار. الحقول الخضر المنبسطة على مدد الشوف على اليمين. الحديث يدور بيننا عن أي شئ سوى المواد الدراسية. الشمس بدأت تعلو وتبتعد عن الأفق. الهواء يحمل الدفء والعبير. رائحة الريف تعبق المكان. الهدوء والصمت الذي يضخمه طنين ذبابة هنا أو نداء عصفور هناك.

الطريق زراعي ترابي، شق بين الحقول. لا تمر عليه في ذلك الوقت عربات كثيرة. تزينه الأشجار من الجانبين. على البعد تري طيور أبوقردان بريشه الأبيض الناصع ومنقاره وأرجله الطويلة البرتقالية. يرفع ويخفض رأسه وهو منشغل بتناول وجبة الصباح.

الشمس ترسل أشعتها الساطعة. النسيم يلطف أبداننا. الكلام والضحك البرئ يشغلنا عن أي شئ آخر. أرى الآن جمال هذه الطيور البيضاء وسط الحقول الخضراء بعين الذاكرة، ممزوجة بتجارب السنين. لكن الأطفال، في هذه السن المبكرة، لا تنبهر بجمال وسحر وهدوء ونقاء الريف. هذا يأتي فيما بعد وبالتدريج.

وجدنا على الطريق، عاملين من عمال التراحيل، يقومون بتعبيد الطريق ورشه بالماء. جلسا للراحة على حجرين مستويين. بادرنا أحدهم بالحديث والسؤال عن سبب تواجدنا في هذا المكان في هذا الوقت بالذات. ثم تطرق الحديث إلى دروس المدرسة والحساب. بادرنا أحدهم في تحد واضح بمسألة قسمة مطولة ثم بأحد الألغاز:
"ما هي الحاجة التي كل ما آخذ منها، تكبر"

أجبته على الفور، هي الحفرة. ارتسمت على وجه الرجل علامة إعجاب واستغراب ظلت تلازمه حتي غادرنا المكان. أنا لا أعرف كيف أتت الإجابة إلى ذهني بهذه السرعة. لقد وهبني الله عقلا تحليليا، ولا أدري هل هذه نعمة أم نقمة. لأنها سببت لي الكثير من المتاعب فيما بعد، سوف أتحدث عنها في حينها.

لا أتقبل أي شئ أو أية معلومة إلا إذا كانت موزونة ومعقولة. أعجب ممن يستطيع أن يصدق أي شئ بسهولة ويسر، دون بذل أي جهد في فحص هذا الشئ منطقيا. ولا أعرف التصديق المبني على التمني، أو الرغبة في فائدة أو الهرب من ألم.

عندما تسير بين الحقول، تكون جزءا من الطبيعة. لكن عندما تنظر من نافذة القطار أو السيارة أو تشاهدة السينما أو التليفزيون أو شاشات الكمبيوتر، تكون أنت شئ، وما تشاهده شئ آخر. أنت ساكن والمناظر تمر أمامك كلوحات متتابعة في براويز مستطيلة.

لكن، عندما تكون في أحضان الطبيعة، تكون أنت جزءا منها. مثل أرضها وحقولها وأشجارها وطيورها ومياهها وسمائها. لم تعد أنت مشاهدا أو مراقبا من الخارج. إنما أنت داخل المشهد نفسه.

خطواتك على الأرض الترابية حقيقية. وضع يدك على جزع شجرة أو مسك عود حطب أو حصاة ملقاة على الأرض حقيقي. تجربة روحية لا تنمحي من عقولنا الواعية بسرعة وبسهولة.

نري الريف مرات ومرات. لكن في كل مرة، بل في كل لحظة، نراه مختلفا فريدا عن اللحظة السابقة أو اللحظة اللاحقة. حسب زاوية ميل الشمس على الأفق. وحسب كثافة الغمام وفصول السنة وعمر الزرع ونوعه. وحسب درجة هبوب الريح أو هطول الأمطار. وحسب موقعك واتجاهك وطولك وعمرك وحالتك ومزاجك النفسي وثقافتك وقدرتك الذهنية.

الأخضر الفضي الجميل لحقول الفول أو الكرنب، يختلف عن الأخضر الزاهي لحقول البرسيم. سنابل القمح الخضراء، تتحول ببطء إلى سنابل ذهبية تبرق وتلمع تحت أشعة الشمس الساطعة وقت الظهيرة. تصطبغ باللون الأرجواني وقت الأصيل، ثم تتحول إلى اللون الرمادي عند الغروب.

أوراق الشجر ترتب نفسها وتتسطح وتتجاور في مواجهة الشمس، لتستقبل أشعتها الذهبية بالأحضان. إنعكاسات الضوء في قنوات الري وقت الظهيرة، تضوي مثل فصوص الماس والفضة على سطح المياة الجارية.

الزهور البرية ونبات ذيل القط تصطف بجانب قنوات الري. تشبه براويز لوحات فنية جميلة غاية في الروعة. هبات النسيم المعطر بزهور البرتقال في نهاية الصيف وبداية الخريف، لها نشوة وأريج ليس له مثيل.

تجمعات طائر أبو قردان بسيقانه الطويلة البرتقالية المائلة للحمرة وريشه الأبيض الناصع، وطيور أبوفصادة والهدهد، تراها هنا وهناك، واقفة على الأرض أو طائرة في السماء. الريف كائن حي، في تغير مستمر مثل النهر. جاء في وصف عمرو بن العاص لمصر:
"درة بيضاء ، إذا هي عنبرة سوداء، إذا هي زبرجدة خضراء. فتعالى الله الفعال لما يشاء".

عندما نكبر، نكون في عجلة من أمرنا. لا وقت للنظر والتأمل والتحدث مع الآخرين. لذلك يمر بنا الوقت بسرعة. ونتعجب أين ذهب عمرنا وهرب منا.

كنا نترك الطريق بين الفينة والأخرى للسير على شريط السكة الحديد بين القضبان. ثم نتسابق بالمشي فوق القضبان نفسها، محاولين حفظ توازن أجسامنا. نرى نصف كلب ميت دهمه القطار على الشريط. عاش كلب ومات ميتة الكلاب في بلادنا. نباتات التين الشوكي تظهر على اليمين واليسار.

قضبان السكة الحديد، نراهما يقتربان من بعضهما كلما امتدا، بالرغم من توازيهما، حتي يتلاقيا في الأفق البعيد. في الواقع لا تقارب هناك ولا تلاقي. هذا بسبب خداع البصر فقط لا غير. فهل هذا خداع، أم تحوير للحقيقة وإظهارها في صورة مختلفة، لكي تساعدنا علي تحديد المسافات؟

لولا هذا الخداع البصري، لما تمكن أجدادنا، وهم يجرون عرايا في الاحراش، من صيد الفريسة. رؤية الحيوان البعيد صغير ،والقريب كبير، تساعدنا في تحديد المسافات. تري كم من الحقائق قمنا بطمسها وتغييرها حتي نستطيع مواصلة هذه الحياة؟

مررنا بقرية صغيرة اسمها البيروم على يمين الطريق. هي بلد أمير القصة العربية يوسف إدريس(1927-1991م)، المفكر والأديب المصري الكبير. الذي قدم للأدب العربي عشرين مجموعة قصصية وخمس روايات وعشر مسرحيات، وترجمت أعماله إلى 24 لغة عالمية.

هو من أشهر الأطباء الذين تركوا مهنة الطب وتفرغوا للأدب. أمثال مصطفى محمود وعلاء الأسواني. ربما يكون العامل المشترك بين الطب والأدب، هو العمل لتخفيف آلام الناس.

تركنا قرية البيروم وسرنا في طريقنا عدة كيلومترات أخرى حتى وصلنا لقرية اسمها الفدادنة. الشمس في السمت والظلال على الأرض تكاد تختفي، والهواء ساكن وحار. لكن بسبب طول المسافة التي مشيناها، عضنا الجوع والعطش بشدة. لم يكن معنا نحن الثلاثة، سوي ثلاثة تعريفة، لا تكفي للعودة بالقطار أو الأوتوبيس.

وجدنا في أحد الحقول، بصل مزروع. اقتلعنا عدة بصلات من جزورها للأكل. ولكن البصل الأخضر لا يشبع ولا يروي ظمأ. عندئذ، قررنا العودة. لكن، ماذا نفعل بالنسبة للجوع والعطش؟ وهنا، اقترح زميلنا رفعت بأن نقوم بإستجداء الطعام.

هل أنت مجنون؟ نشحت مثل الشحاتين؟ فقال ببساطة: أيوه. وأنتم مالكم. أنا الذي سأقوم بالشحاتة. بعد التردد والخوف من أن يقوم الأهالي بتسليمنا للبوليس، وتحت قرص الجوع، وافقنا على شرط أن يقوم صديقنا رفعت بالمهمة.

دخلنا القرية وظللنا نمر بحواريها ومنازلها المبنية من الطمي والمعروشة بالحطب. اتفقنا على أن نختار بيتا معزولا ليس له جيران، تبدو عليه علامات الفقر. بحجة أن الفقراء هم أهل الكرم.

وجدنا أحد البيوت في نهاية القرية يواجه الحقول الخضراء. أمامه بجوار الباب مصطبة طينية مفروشة بالحصر. "أيوه، البيت ده"، صرخ أحدنا. أخذت حسين وتركنا رفعت صاحب الفكرة يقترب من المنزل. أختبأنا خلف جدار بعيد نرقبه ونحن نكاد نموت من الضحك وسخافة الفكرة، متوقعين علقة ساخنة أو ضرب بالشلاليت.

طرق رفعت الباب بشجاعة يحسد عليها. فتحت له فلاحة عجوز. أخذ يكلمها ونحن من بعيد نرقبه ولا ندري ما يدور بينهما. بعد ذلك دخلت السيدة بيتها وتركت صديقنا واقفا بالباب. بعد فترة إنتظار وقلق، أشار لنا صديقنا بيده بالإقتراب.

ماذا حدث يا رفعت؟ قال إجلسوا هنا على الحصيرة فوق المصطبة، السيدة دخلت لتحضر لنا الأكل. ماذا قلت لها؟ قال ببساطة، قلت لها هل يوجد هنا بقال أشتري منه أكل؟

فأجابت السيدة، لا يا ابني لا توجد محلات أكل هنا. ثم بادرته: أنت عاوز تاكل؟ فقال لها: "أيوه، أصلي جوعان". فقالت له، أقعد هنا وأنا أجيبلك أكل. فقال لها: لكن معي اثنين من أصحابي. فقالت وماله. هاتهم معاك وأهلا بيهم، ثم دخلت المنزل.

ظللنا ننتظر، ولا حس ولا خبر. ونحن نقوم بالتهكم والسخرية من صاحب الفكرة. نحن نقول: لا بد أن السيدة ذهبت لكي تستنجد بأقاربها للقبض علينا وتسليمنا للبوليس. وهو يقول: انتظروا إن الله مع الصابرين.

الوقت يمر ببطء شديد وعيوننا على الباب في انتظار السيدة، ولكن السيدة لا تظهر. بعد فترة بدت لنا طويلة جدا، جاءت السيدة العجوز بصينية كبيرة نحاسية، مليئة بالعديد من أنواع الأكل.

طبق بيض كبير مقلي في السمن. وبيض مسلوق وجبنة بيضاء فلاحي. وطبق عسل نحل. وعسل أسود. وطبق قشدة وعيش فلاحي محمص. وبصل أخضر وجبنة قديمة ومخلل. ثم أحضرت قلة ماء باردة عليها غطاء نحاسي، وتركتنا وهي تقول "بالهنا".

هجمنا على الأكل مثل المجانين. كنا نشرب ونأكل بدون مضغ. لم أذق في حياتي أشهى ولا أطعم من هذا الغذاء الآتي إلينا من السماء. لابد أن هذه السيدة هي من الملائكة التي تتحدث عنها الكتب السماوية. كان يكفيها أن تعطينا قطعة خبز وجبن. وسنكون من الشاكرين. لكن أن تحضر لأطفال لا تعرفهم كل ما لديها من طعام، فهذا لم أسمع عنه في حياتي قط.

إنتظرنا أن تظهر السيدة مرة ثانية لكي نشكرها، فلم تظهر. أخذنا نطرق الباب عدة مرات فلم تجب. غادرنا المكان عائدين في نفس الطريق إلى منازلنا. هذه هي المرأة المصرية الأصيلة، وهذا هو الزمن الجميل الذي فقدناه وليته يعود.

وللحديث بقية فإلى اللقاء.


06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية