قصص وحكايات من زمن جميل فات (5)
...............................................................
|
الله .. ماأحلى الرجوع الى الماضى الجميل |
بقلم: محمد زكريا توفيق
..........................
مدينة فاقوس التي كنا نعيش فيها تقع في أطراف شرق الدلتا. تبعد عن مدينة الزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية، مسافة 30 كيلومتر تقريبا. معظم سكانها من التجار والموظفين المغتربين. بها مدرسة ابتدائية وثانوية، تستوعب أعدادا كبيرة من الأولاد. بجوارها مدرسة أخرى للبنات.
شوارع المدينة والطرق المؤدية إليها، كلها ترابية غير مرصوفة. تقوم البلدية بكنسها ورشها بعربات الرش مرتين في اليوم، في الصباح ووقت العصر. الكناسون يلبسون الجلاليب ويحملون مقاطف ومقشات. كل منها عبارة عن يد خشبية طويلة تنتهي بقنو نخلة.
القنو هو مجموعة الأفرع الكثيرة التي تحمل البلح في النخلة. جاء في شعر امرؤ القيس وهو يصف شَعر حبيبته الأسود الفاحم الغزير: "وفرع يغشى المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل". وهذا قول لا يجرؤ اليوم أحد منا على استخدامه في الغزل. وإلا كانت النتيجة الضرب بالقنو.
رش الشوارع والطرقات، يمنع الأتربة من التطاير في الهواء والدخول إلى المنازل والمحلات. عربية الرش، عبارة عن خزان كبير محمول على عجلتين مثل عجلات العربات الكارو، يجره بغل. به فتحة علوية لملئه بالماء، وأنبوبتين خلفيتين في وضع أفقي، مثقوبتين للرش.
يجلس السائق أعلى الخزان ويتحكم في تدفق مياة الرش. في فصل الصيف، تجد الأطفال تجري خلف عربات الرش لترطب جسمها بالماء البارد. توجد في أماكن متفرقة من المدينة، حنفيات مياة ضخمة بخراطيم طويلة لتزويد عربات الرش بالمياة اللازمة.
أثناء ذهابي للمدرسة في الصباح الباكر، أرى أصحاب المحلات والقهاوي البلدي، بعد كنس ومسح محلاتهم، يقومون برش الماء أمامها أيضا. الشوارع كانت نظيفة، والقلوب والضمائر أيضا كانت نظيفة.
على اليمين، كنت أمر بدكان "الوزيري" للخردوات. أخوه الصغير "سعيد" كان معي في المدرسة واستشهد في حرب 1967م. أمامه، كان يوجد محل "الباشا" لبيع وكي الطرابيش.
صناعة الطرابيش كانت مزدهرة في ذلك الوقت، ثم صارت تحتضر بعد قيام الثورة. احد أولاد "الباشا" كان زميلا لي في المدرسة، ثم أصبح صيدليا فيما بعد. لولا مجانية التعليم الجامعي في عصر جمال عبد الناصر، لما كان لمثلي أو لمثل هؤلاء أي أمل في دخول الجامعة.
الطربوش كلمة فارسية من مقطعين تعني غطاء الرأس. الإسم بالإنجليزية "fez"، يعني مدينة فاس في المغرب. لأن الطرابيش كانت تصنع في أول الأمر بمدينة فاس. ضباط الجيش في عصر محمد علي كانت تلبس الطرابيش. أول طربوش صنع في مصر كان عام 1825م.
الطربوش الأحمر، كان بالنسبة للمصريين رمزا وطنيا. شأنه شأن العلم الأخضر ذو الهلال والثلاثة نجوم. لكن في تركيا، قام كمال أتاتورك بإلغاء الطربوش والنقاب في يوم واحد. على أنهما رمزان للتخلف.
في عام 1952م، مع قيام الثورة، تم إلغاء الطربوش والألقاب، "الأفندي" و"البيه" و"الباشا". لا يباع الطربوش في مصر حاليا إلا في الأماكن السياحية وخان الخليلي. أما الألقاب فقد عادت ثانية ولكن بشكل غير رسمي.
أواصل السير إلى المدرسة، فأجد بعد مدة محل الخواجة كركور نيشان للأحذية. يليه محل الصباغ للخردوات. ثم محل بقالة يوناني كبير. بعد ذلك، ميدان فسيح، ثم السكة الحديد. يليها كوبري على ترعة صغيرة، ولوحة خشبية كبيرة للإعلانات تنبئ عن الفيلم المعروض هذا الإسبوع.
أمام لوحة الإعلانات في الجهة المقابلة، رجل صعيدي أسمر عجوز بشنب ضخم أبيض وطاقية وجلباب بلدي. يجلس في الشارع على الأرض، وأمامه مقطف به ثلاث خيارات مروبية وباذنجانة معطوبة وبرتقالة أو إثنين ضرب فيهما العفن. معه فردة شراب قديمة، يقوم ببلها بفمه وتلميع بضاعته حتي تروق للشارين.
أستمر في السير وسط الزحام. محلات كثيرة، بقالة وخردوات وصيدلية وفكهانية...الخ، على اليمين وعلى اليسار، إلى أن أصل للمدرسة.
عندما تمطر السماء، تتحول الشوارع إلى برك ومستنقعات. الأرض طينية لا تتشرب المياة بسهولة. أسير بحذر وبطء ومعي شنطة المدرسة، كمن يسير على الحبل لحفظ توازنه. بين الفينة والأخرى، أجد قوالب طوب مرصوصة لمرور المشاة. وضعها فاعلي الخير في الأماكن الموحلة، أو حيث تتجمع المياة بغزارة.
عند العودة من المدرسة، أسلك طريقا مختلفا وأبتعد عن الزحام وسط البلد. أسير بجانب ترعة صغيرة على الشمال. على اليمين أجد فيلات متراصة بطول الترعة. لم أر فيها ساكن بإستثناء مرة واحدة.
رأيت في أحدها شابة في غاية الحسن والجمال والدلال. تقف في أحد البلكونات وتتحدث إلى رجل يقف في الحديقة. يبدو أن هذه الفيلات كانت مملوكة لأناس تعيش في القاهرة، وتأتي لهذه الفيلات للراحة والإستجمام في أوقات الفراغ والصيف.
في آخر هذه الفيلات وقبل الوصول إلى الترعة الكبيرة في المواجهة، يوجد منزل كبير لأحد الأثرياء. له أولاد كبار وأراضي وأطيان كثيرة. الرجل كان مريضا يعيش في هذا المنزل بمفرده. أحضر له أولاده سيدة أرملة متوسطة السن لخدمته ورعاية شؤونة من طبخ وغسل ملابس وتنظيف المنزل، إلخ.
السيدة كانت تعيش في منزل قديم أمام المنزل الذي نسكن فيه وسط المدينة. وكان الأهالي يطلقون عليها إسم "كشكاية"، نسبة لطبق الكشك المصنوع من الدقيق الأبيض واللبن. ربما بسبب بياضها وحمرة وجنتيها وقامتها الفارهة. يبدو أنها من أصل تركي، أو من سلالة المماليك التي حكمت مصر سابقا.
كان لها أولاد كبار. أحدهم كان يعمل في القاهرة، وآخر متزوج والثالث شاب والرابع طفل صغير يعيش مع أخيه الأكبر. ابنها الصغير عندما كان يأتي لزيارة والدته، كان يلعب معنا في الشارع.
أخذني أحد المرات وأدخلني معه منزل الثري، وكان يبحث وقتها عن والدته. المنزل عبارة عن بهو كبير تتفرع منه عدة غرف، وينتهي من الخلف بحديقة صغيرة مهملة.
في يوم من الأيام، تفقدت هذه السيدة ابنها الصغير فلم تجده. حينما مالت الشمس نحو المغيب، جن جنون السيدة، فأخذت تجري وتسأل في كل مكان. إلى أن وجدته يستحم في الترعة الكبيرة التي تسمى "المشروع".
بحثت عن ملابسه، فوجدتها على الشاطئ. لكي تعطيه درسا لا ينسى، أخذت ملابسه وعادت بها إلى منزلها وتركته عاريا على الشاطئ. لم يجد الإبن مكانا يأوى إليه وهو في هذا الوضع البائس سوى مصلية كانت بالقرب منه.
جاء شيخ كبير ليصلي، فوجد الصبي عاري في المصلية، وقبل أن يسأل عن حقيقة ما حدث، أخذت الظنون تلعب برأسه. فصرخ في الغلام وجرى وراءه وهو يقذفه بالطوب. الغلام يجري عاريا والشيخ يجري خلفه والناس تضحك ضحكا هستيريا. إلى أن عاد الغلام إلى منزله.
بعد هذه الحادثة بعدة شهور، في أحد أيام الصيف، سمعت هرج ومرج في الشارع. خرجت لكي أستطلع الأمر، فوجدت الناس تجري نحو الترعة الكبيرة. ماذا حدث؟ سمعت الناس تقول "غريق غريق".
حيث أنني لم أر غريقا من قبل، ذهبت لكي أشاهده. عندما وصلت إلى الترعة بالقرب من شونة بنك التسليف التي يعمل بها والدي، وجدت الناس تكتظ على شاطئي الترعة. كان وقت العصر والشمس بدأت تميل نحو المغيب، والنهر يفيض حتى أقصاه. النسيم يداعب سطحه اللامع، فيرتجف بأمواج دقيقة مخملية.
عندما اقتربت، ويالهول ما رأيت. وجدت السيدة أم الطفل الذي ألعب معه، جثة هامدة ملقاة على الشاطئ بعد إنتشالها من النهر. عارية منتفخة لونها وردي متآكل أطرافها. رائحة الموت تملأ المكان. الناس تبحث عن شئ أو جرائد لكي تلقيها فوقها. أحد أبنائها يهيل على رأسه التراب ويلطم وجهه كأنه المسؤول عما حدث لوالدته. الناس تحتضنه وتحاول منعه.
أصبت بصدمة كبيرة لرؤيتي هذا المنظر البشع. كانت هناك غصة في حلقي وفقدان كامل للشهية لعدة أيام. لا أستطيع النوم ليالي متوالية. لم أكن قد شاهت وشممت وعرفت شكل القتيل من قبل وفي مثل هذه الحالة.
كان الموت قبل ذلك بالنسبة لي مجرد حدث سينمائي يحدث مثل باقي أحداث الفيلم. لكن هذه المرة، ها أنا أراه حدثا حقيقيا أمامي. فيا لجلال ورهبة الموت.
الشائعات تقول بأن السيدة أخطأت، وغلطت غلطة عمرها، عندما قبلت الزواج من الثري العليل. أولاد الثري لم يقبلوا بالطبع أحدا يشاركهم الميراث، ويقاسمهم هذه الأطيان وحدائق المانجو ومئات الأفدنة. فضلا عن كونها من عامة الشعب فلا يجب أن تختلط الأجناس.
بالطبع قيد الحادث ضد مجهول. النصيحة وصلت بسرعة لأولادها لكي يلزموا الصمت. القوانين خيوط عنكبوت، يمزقها القوي ويتلعثم فيها الضعيف.
بعد منزل هذا الثري، وأنا في طريقي من المدرسة عائدا إلى البيت، أمر بكوبري صغير، ثم كوبري أكبر أمام السينما الصيفية. يليه مزلقان السكة الحديد، ثم كوبري ثالث. المدينة كان بها مالا يقل عن سبعة كباري نهرية.
على شاطئي الترع ترتص أشجار البونسيانا بزهورها الحمراء التي تتوقد وتلتهب تحت أشعة الشمس طوال فصل الصيف. السماء زرقاء صافية يشوبها قليل من الغمام الأبيض الناصع. مناظر خلابة تأخذ الألباب. لا تجدها في سويسرا ولا في أجمل بلاد أوروبا أو أمريكا. فماذا حدث لنا؟ ومن المسؤول عن اختفاء الجمال من حياتنا؟
كنت أمر في طريقي بفرقة المطافي. أجدهم يقومون بغسل خراطيمهم ونشرها في الشمس. ثم يقومون بتلميع آلاتهم الموسيقية النحاسية وتعليقها على الحائط. لقد كانت فرق المطافي في هذا الزمن الجميل، تحترف العزف الموسيقي إلى جانب عملها الرسمي في إطفاء الحرائق.
هذا شئ منطقي، لأن الحرائق لا تحدث كل يوم. تؤجر فرقة المطافي بأسعار زهيدة لإحياء الأفراح والليالي الملاح. وكانت تقوم بعزف الموسيقى في أكشاك في الحدائق العامة، وتسير في المهرجانات في الأعياد والمناسبات الوطنية بملابسها الرسمية.
مررت برجل عجوز نحيف يلبس الجلباب والطاقية ويجلس على الرصيف أمام أحد المحلات. يقوم بخرط قطع خشبية وتحويلها إلى تحف فنية غاية في الجمال والرقة. يصنع منها أرجل كراسي أو عنق أرجيلة أو أجزاء من شبابيك الأرابسك.
كل أدواته عبارة عن قوس ووتر وأزميل. يضع الأزميل بين أصابع رجليه، ويقوم بربط الوتر حول القطعة الخشبية. ويحرك القوس مجيئة وذهابا فتدور قطعة الخشب مع حركة الوتر. وبيده الأخري يتحكم في الزاوية التي يقابل بها الأزميل القطعة الخشبية وهي تدور.
مهارة وقدرة خارقة على الإبداع. فقدناها عندما انفصلنا عن العمل الذي نقوم به. العمل أصبح لدينا عملية أكل عيش وفهلوة. المطلوب بذل أقل مجهود والحصول على أعلى أجر. لم يعد العمل وسيلة لتحقيق الذات والرقي بالنفس كما كان في الماضي.
الجسد يفنى، وتبقى أعمالنا. إذا غرست شجرة، فالشجرة تنمو وتثمر. ومن ثمارها يأكل الناس والطير وباقي المخلوقات. من زهورها ينتشر العطر، ومن أوراقها يأتي الأكسوجين ليملأ صدورنا بالحياة. من بذورها تنمو شجرات وشجرات. عمل مثل غرس شجرة قد يبدو لنا أنه عمل بسيط، لكنه في الواقع عمل خالد لا ينتهي.
العمل بالنسبة لقدماء المصريين، كان حالة روحية من التعبد والتصوف والرهبنة. لا يعرفها إلا الفنان وكل من يحب عمله ويتفانى فيه. لذلك بنيت الأهرامات والمعابد والتماثيل الرائعة.
أما العمل اليوم، فهو مجرد وظيفة من الساعة كذا إلى الساعة كذا. لا وقت للتفكير والإبتكار . أرواحنا وعقولنا منفصلة عن العمل الذي نقوم به. أصبحنا متفرجين نشاهد أجسامنا وهي تعمل، لكن أرواحنا وعقولنا بعيدة. لذلك نجد أن المنتج هو أيضا صار جسدا بدون روح.
كانت حوائط بعض المباني في طريقي مكتوبا عليها شعارات باللونين الأحمر والأزرق لنصرة فلسطين. تشيد بأبطال مصر الذين تطوعوا للقتال في جانب الشعب الفلسطيني. أمثال البطل أحمد عبد العزيز والضبع الأسود، اللواء سيد طه.
البطل أحمد عبد العزيز، كان من كبار ضباط الجيش المصري. عندما رأى تلكؤ الحكام العرب في نصرة اخوانهم الفلسطينيين عام 1948م، استقال من الجيش المصري هو ومجموعة من رجاله. وذهبوا لمقاومة القوات الصهيونية. استشهد على أرض فلسطين في عملية طائشة.
بعد استشهاد أحمد عبد العزيز، كانت قرية عراق المنشية تخوض معاركا ضد العصابات الصهيونية، توسعت إلى الفالوجة. نسجت بعد هذه المعارك هالات أسطورية على مقاتلين مصريين أمثال اللواء سيد طه، وهو صعيدي من أسوان. عرف عنه الصلابة والمشاعر العروبية الدافقة.
كان يلقب بضبع الفالوجا أو الضبع الأسود لسمرة بشرته النحاسية. الذي أطلق لقب الضبع الأسود على سيد طه، هو اسحق رابين. لأن طه تسبب في قتل الكثيرين من عصابات الصهاينة، وحافظ على قواته أثناء حصار الفالوجة الطويل.
أستمر في السير نحو منزلي، فيمر بي شيخ ضعيف النظر يتحسس طريقه بصعوبة بمساعة عكاز. كان له ابن شاب في غاية الدماثة والأخلاق. بعد حصوله على الشهادة الجامعية، ذهب لقضاء فترة التجنيد.
أثناء عودة الإبن لزيارة والده الشيخ، أغراه بعض الأصدقاء بالركوب فوق سطح القطار. الكباري العلوية التي يمر تحتها القطار تأتي على حين غفلة ودون سابق انذار. ويشاء القدر أن يقسو على هذا الشيخ المسكين دون رحمة. فيفجع في إبنه وسنده الوحيد، ويموت الإبن هذه الميتة البشعة. وتستمر بنا الحياة بحلوها ومرها.
وللحديث بقية
zakariael@att.net