مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 عالم النمل
...............................................................

بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................


إذا قامت حرب نووية, وكل شئ محتمل سوف يحدث متى توفر لديه الوقت الكافى - قانون مورفي, فإنها لن تبقى ولن تذر. هل تعرفون من سيرث الأرض ومن عليها حينذاك؟ عالم الحشرات ومنها النمل. فهل هم عباد الله الصالحون الذين تحدث عنهم القرآن الكريم؟

ربما نكون فخورين بأنفسنا لأننا قد إكتشفنا الزراعة منذ آلاف السنين. لكننا لسنا أول المزارعين. ففى أعجب فصل من فصول التطور, تحولت مجموعة من النمل إلى مزارعين يقومون بزراعة عش الغراب منذ 50 مليون سنة. ولا يزالون يقومون بهذا العمل الناجح حتى الآن, مع التغلب على مشاكل الآفات التى نعانى نحن منها اليوم. فيجب أن لا نخجل من التعلم من النمل.

بدأ الإنسان فى تهجين وزراعة النباتات منذ 10 آلاف سنة تقريبا. وعندما يقوم بزراعة محاصيل مثل القمح أو العدس, تأتى الحشرات لكى تتغذى عليها كعادتها. فى البداية, لم يكن فى مقدور الإنسان فعل أى شئ سوى الإبتهال إلى الله وطلب العون منه لحماية محصوله. وفى أحيان أخرى كان يأخذ الحشرات إلى المحكمة. فمثلا فى عام 1478م, كانت الحشرات تدمر المحاصيل الزراعية فى ضواحى مدينة بيرن فى سويسرا. فقام الفلاحون بالمدينة بتكليف محام ماهر لكى يذهب إلى المحكمة ويطلب معاقبة الحشرات على فعلها المشين هذا. فى نفس الوقت, قامت المحكمة بتعيين محام آخر للدفاع عن الحشرات. وقام كلا منهما بعرض قضيته بأمانة وصدق. وإستمع الأسقف إلى الطرفين, فقد كانت المحاكم تتبع الكنائس. وبعد فحص الدعوى وسماع الشهود والذى منه, قام الأسقف بالحكم لصالح الفلاحين. معلنا أن الحشرات قد تقمصتها أرواح الشياطين. وأردف قائلا: "نحن هنا ندينهم ونحملهم لعناتنا, ونطلب منهم أن يكونوا مطيعين, ونمنعهم بإسم الآب والإبن والروح القدس, من الإقتراب من الحقول والأرض والنباتات والبذور والثمار. ونسألهم الرحيل."

لم تعبأ الحشرات بالطبع بلعنات الأسقف ولم ترحل. وإستمرت فى أكل المحصول على عادتها. حينئذن, تيقن الأسقف أن الحشرات لا تتقمصها أرواح الشياطين كما كان يعتقد, ولابد أن يكون السبب هو غضب من الله العلى القدير, قد حل بالبلد لمعاقبة الفلاحين بسبب خطاياهم وذنوبهم. وما أن قام الفلاحون الغلابة بالتبرع للكنيسة بما تيسر من القليل الذى تبقى لهم من المحصول المأكول, حتى رحلت الحشرات وذهبت إلى حيث أتت. أو ربما إلى عصاة آخرين.

إعتقد الناس خطأ أن المبيدات الحشرية الكيميائية ومنها ال"دى دى تى" والتوكسافين, تحد من تكاثر الحشرات وتؤدى فى النهاية إلى إبادتها. فدأب الفلاحون على رش محاصيلهم بشكل روتينى منتظم, بدلا من الرش عند الحاجة. وفى نفس الوقت, كان المشتغلون بالصحة العامة يرون فى مبيد ال "دى دى تى" كل الأمل فى السيطرة على الباعوض المسبب للأمراض الفتاكة مثل الملاريا.

ال"دى دى تى" بالتأكيد قد نجح فى الحفاظ على العديد من الأرواح وإنقاذ محاصيل كثيرة فى البداية, لكن العلماء وجدوا أن الذبابة المنزلية لم تعد تموت إذا رشت بمبيد ال"دى دى تى". وكذلك الحال بالنسبة لحشرات أخرى, فقد أصبحت بدورها هى أيضا تقاون نفس المبيد. وفى عام 1992م, وجد أن ما يقرب من 500 نوعا من الحشرات أضحت مقاومة لمادة ال"دى دى تى", والأعداد فى تزايد مستمر. وعندما تبين للفلاحين أن الرش بال"دى دى تى" لا يأتى بالنتيجة المرجوة, كان الجواب هو المزيد من نفس المبيد. وعندما كان المزيد من نفس المبيد لا يفيد, لجأ الفلاحون إلى بديل أقوى من المبيدات مثل الملاثيون, وعندما يفشل المبيد الجديد, يبدأون فى البحث عن مبيد آخر أكثر فاعلية, وهكذا ...

الرغبة فى إبادة الحشرات بإستخدام مادة ال"دى دى تى" أو بإستخدام سم مشابه, قد حظيت بفشل هائل. كل عام, يستخدم ما يقرب من 2 مليون طن من المبيدات الحشرية فى الولايات المتحدة وحدها. فالأمريكان يستخدمون من المبيدات 20 ضعف ما كانوا يستخدمونه عام 1945م, بالرغم من أن المبيدات الجديدة تزيد فاعليتها فى القتل ب 100 ضعف. إلا أن المفقود من المحاصيل بسبب الحشرات قد زاد من 7% إلى 13%. والسبب يرجع بالطبع إلى زيادة قدرة الحشرات على المقاومة.

النمل الذى يقوم بزراعة عش الغراب يعيش فى الغابات الإستوائية فى كل أنحاء العالم. طابور من النمل كبير الحجم يغادر العش كل يوم, ويسير بحثا عن الأشجار والغصون. يتسلق النمل الأشجار ويقطع أجزاء من أوراقها, ثم يعود بها إلى العش فيما يشبه العرض العسكرى أخضر اللون. يترك هذا النمل أوراق الشجر لمجموعة ثانية من النمل لتقوم بتقطيعها إلى أجزاء صغيرة, ثم تسلمها إلى مجموعة ثالثة لتقوم هى بدوره بتقطيعها إلى أجزاء أصغر, وهكذا..إلى أن تتحول أوراق الشجر إلى عجينة. ثم يقوم النمل بفرد عجينة أوراق الشجر فوق مزرعة من الفطر (عش الغراب) داخل العش. فينمو الفطر خلال عجينة الأوراق, ويقوم النمل بجنى محصوله الشهى والغنى بالمواد الغذائية من أجزاء معينة من الفطر. لأن النمل لا يستطيع هضم أوراق الشجر مباشرة, ويترك هذا الأمر لفطر عش الغراب.

بالنسبة لمقاومة الآفات, وجد العلماء أن النمل قاطع الأوراق هذا يستخدم مضادا حيويا لقتل الفطريات الطفيلية التى تنمو على الفطر الأصلى المزروع. هذا الفطر الطفيلى يمكنه إن لم يعالج أن يقضى على المزرعة بالكامل فى عدة أيام فقط. ووجد العلماء أن جسم النملة مغطى بطبقة باكتيريا الستربتوماسيس, التى يستخرج منها المضاد الحيوى الستربتومايسين. الباكتيريا تنتج مركب كيميائى يقتل الفطر الطفيلى أثناء قيام النمل برعاية المزرعة. والسؤال هنا كيف لم يتطور الفطر الطفيلى لمقاومة السم الذى تفرزه باكتيريا الستربتوماسيس خلال الخمسين مليون سنة التى عاشها هذا النمل؟ هذا مايقوم بدراسته العلماء الآن. فقد وجد أننا فى مقاومتنا للآفات, نعزل مركب كيميائى واحد ونستخدمه فى مقاومة الحشرات. لكن الباكتيريا التى يستخدمها النمل هى كائن حى, يستطيع أن يتطور هو الآخر بحيث يبقى فعالا إذا واجه مقاومة من الفطر الطفيلى. وبمعنى آخر, يقوم النمل بإستخدام قوانين التطور لمصلحته, بينما نفعل نحن العكس ونحارب نظرية التطور.

حتى الآن, لم يستطع الإنسان بعلمه ومبيداته الحشرية أن يقضى على نوع واحد من الحشرات قضاء مبرما. فالنمل مازال يجوب أرجاء المعمورة ويضرب فى بطونها كما كان الحال منذ 100 مليون سنة (الإنسان 10 مليون سنة فقط). فى الوقت الذى فنيت فيه عمالقة مثل الديناصورات كانت فى حجم الجبال ولكنها لم تتعاون ولم تهتم بالغير, وظلت تنتفخ بطونها وتنموا أجسامها حتى فنيت. التعاون والقيم الإجتماعية هو سر عظمة وبقاء النمل حتى الآن.

إذا كنت تعتقد أن البشر هم الذين إخترعوا نظام العبودية, فأنت مخطئ. لأن النمل قد سبقنا بملايين السنيين إلى إستخدام نظام العبيد. فيقوم النمل السيد أو المفترى والذى يتسم بالكسل والغباء, بالغزو والإغارة على فصائل أخرى من النمل أكثر ذكاء وقدرة على العمل الشاق. ولأن الغزاة أكبر حجما وأكثر شراسة, يصعب مقاومتهم. ويقوم النمل المهاجم بقتل كل من يقاومه من النمل الضعيف, ثم يتجه مباشرة إلى سرقة اليرقات ويحملها فخورا إلى عشه الأصلى. عندما تفقس اليرقات لا تدرى أنها أطفال غير شرعية تعيش مع قطاع طرق ووحوش ضارية, وتعتقد خطأ أنها تعيش فى وسط أهلها وبين أخواتها الشقيقات. فتقوم بخدمتها بإخلاص وإحضار الطعام لها والعناية بأطفالها ويرقاتها وتنظيف الخلية من النفايات ودفن الأموات والدفاع عن العش حتى الموت. أما السادة الظلمة المجرمون, فيتفرغون لإنجاب والأكل ولعق الأطراف وتلميع الشوارب والراحة, ولا يساهمون فى أى عمل منتج. ويصل بهم الأمر إلى العجز الكلى عن العمل. وتجدهم لايستطيعون حتى إطعام أنفسهم. ويصبح حالهم مثل حال الجيوش العربية فى بلادنا الآن. فهم أيضا قد ركنوا للراحة وطيب العيش والتفرغ للحكم, وفقدوا القدرة على العمل المنتج والدفاع عن أوطانهم. وأينما توجههم لا يأتون بخير. ولا يستطيعون إطعام أنفسهم إلا بإستعباد شعوبهم. والغريب أن هذا النمل البلطجى الصايع, لا يعيش إلا فى البلاد الباردة. فربما كانت البرودة لها دخل فى قساوة القلوب وتحجير العقول. وقد تكون سببا مباشرا فى حملات الغزو الإستعمارى والهيمنة التى تأتينا مع الرياح الشمالية. فليس كل ما يأتى من الغرب يسر القلب.

كيف يتخاطب النمل؟ ليس بالصوت ولا بالإشارات, وإنما بالكيمياء. وهو يستخدم فى ذلك مادة الفرمون. تنتشر فرق الجوالة والإستطلاع للنمل فى كل مكان, كل نملة بمفردها. وتترك خلفها أثرا من مادة الفرمون الذى تفرزه من غدة فى جسمها لتساعدها على العودة إلى العش. وعندما تكتشف مصدرا للطعام, تعود على نفس الأثر الكيميائي مع إضافة المزيد من الفرمون عليه, مما يجعل الأثر أكثر حدة. وعندما تجد نملة أخرى الأثر الموصل إلى الطعام, لا تضيع وقتها بالبحث من جديد, بل تسلك الأثر الموصل للطعام, وتضيف إليه من فرمونها هى الأخرى. وبذلك تستطيع النملة معرفة مكان الغذاء وكميته بمجرد فحصها للأثر وكمية الفرمون به. وإذا قل الغذاء, قل عدد النمل, وبالتالى قلت كمية الفرمون الموجودة فى المسار, لأن الفرمون القديم سريع التبخر. وفرمون النمل أكثر من نوع. أحدها لتحديد مكان الطعام, والثانى لتحديد مكان العش الجديد, والثالث للإنذار بالخطر وهكذا.

النمل الأبيض المعروف بالترمايت, يبنى قلاعا من الطمى بدون خرسانة مسلحة, وبدون حديد عز. ويبلغ إرتفاع هذه القلاع عشرة أقدام. فى أعلاها فتحات تهوية لإخراج الهواء الساخن, وبأسفلها فتحات أخرى لإدخال الهواء البارد, حتى يحفظ درجة الحرارة ثابتة داخل العش فيما لا يتجاوز نصف درجة مئوية. (تكييف هواء طبيعى)

يقوم النمل بتقسيم العمل مجموعتين. تقوم كلا منهما ببناء عمودا من الطمى فى نفس الوقت. وعندما يبلغ إرتفاع العمودين حدا معينا, وهونمل أعمى لا يرى, يبدأ فى إضافة الطمى إلى العمودين بزاوية تجاه كلا منهما إلى أن يتلاقي العمودان مكونان شكلا على هيئة قوس. ومن عدة أقواس يتم بناء الصرح.

نوع آخر من النمل يعيش فى أمريكا الجنوبية يبنى عشه من أوراق الشجر. يقوم فريقان من هذا النمل كلا منهما بحمل ورقة شجر وتقريبها من الأخرى حتى تتلامس الأحرف. ويقوم فريق ثالث بحياكة الأحرف مستخدما فى ذلك خيوط الحرير. وحيث أن النمل وهو مكتمل النمو لا ينتج الحرير, فإنه يحضر اليرقات ويحملها بين فكيه ويضغط عليها برفق حتى يخرج منها الحرير. ومن ثقوب يعملها على الحافتين, يدخل خيوط الحرير من الأمام ومن الخلف حتى تلتحم الورقتان مع بعضهما. ويستمر هكذا حتى يبنى العش. فهل ممكن لأعمال مثل هذه أن تتم بدون تعاون. وهل هناك تعاون أجمل أو أوضح من هذا.

لا يقتصر تعاون النمل على الأبدان فقط. وإنما يشمل تعاون العقول أيضا. فالنملة يبلغ سعة مخها مائة الف نيرون بينما عقل الإنسان يبلغ فى المتوسط 10 بليون نيرون. وعقل النملة الواحة لا يستطيع خزن معلومات كافية لبناء العش. إذن من أين أتت هذه المعلومات, وأين خزنت؟

لقد أتت هذه المعلومات من تعاون العقول. هذه المعلومات موجودة داخل المستعمرة ككل وموزعة بين الأفراد, ولكن لا يختص بها فرد معين. لذلك من الخطأ الحكم على مقدرة عقل النمل عن طريق دراسة وتشريح مخ نملة واحدة. كمن يحكم على مقدرة عقل الإنسان عن طريق دراسة خلية واحدة من مخه. فقد أثبتت التجارب أن النمل لا يستطيع بناء عشه إذا قل عدد أفراده عن حد معين. وكأن إكتمال العدد المطلوب يعطى عقل الجماعة القوة الدافعة لبناء العش. وإلا كيف نستطيع أن نفسر قيام النمل بتفتيت الحبوب قبل تخزينها حتى لا تنبت. وقيامه بإخراج الطعام من العش بعد المطر ونشره فى الشمس والهواء حتى يجف ولا يتعرض للعفن. كما أنه إذا وضعت مادة لزجة على جزوع الأشجار لمنع النمل من الصعود, فإنه يتغلب على هذه العقبة بأن يأتى بحصى الأرض ويضعه فوق المادة اللزجة ويعبر من فوقه كما نفعل نحن حينما نمر بأرض موحلة. وإذا وضع طعام فوق منضدة غمست أرجلها فى الكيروسين, فإن النمل يصل إلى الطعام عن طريق الصعود إلى سقف الغرفة ثم الإلقاء بنفسه من عل. أى عملية إسقاط جوى بدون باراشوت.

ولقد لا حظت يوما أن حشرة صغيرة فى حجم البرغوث لونها أخضر (حشرة المن), تتغذى على أوراق شجرة الخوخ الموجودة فى فناء منزلى. ولقد لاحظت أيضا أن هناك نمل كثير يجرى حول هذه الحشرة. فإعتقدت أن النمل يتغذى على الحشرة. ولكثرة النمل قلت فى نفسى أنه سوف يقضى على الحشرة ولا داعى للقلق. ولكننى بعد عدة أيام وجدت أن الحشرة تزداد مسببة أضرارا كبيرة لأوراق الشجرة وخصوصا البراعم الصغيرة. وعند الرجوع إلى أحد الكتب المتخصصة فى أمراض النباتات, وجدت أن النمل يقوم بتربية هذه الحشرة , كما نربى نحن الماشية. أى يقوم بحراستها ونقلها من فرع إلى فرع ومن شجرة إلى أخرى حتى تسمن وتكبر وتدر عليه من رحيقها الشهى. كما نقوم نحن بتربية الماشية طلبا للبن.

كيف نفسر مقدرة النمل على فعل هذه الأشياء رغم صغر مخه بغير أن النمل يفكر كمجموع وليس كأفراد. تعاون فكرى وعقل واحد هو عقل الجماعة. ولكن هل التعاون فقط هو سر بقاء النمل منذ الأزل؟ أم هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية. منها على سبيل المثال, التضحية بالنفس فى سبيل الجماعة.

عند عبور مجرى مائى ضيق, يقوم النمل بعمل كوبرى من أجسادهم, بأن تتداخل الأرجل وتتشابك الأطراف مع بعضها البعض حتى الموت لكى يقوم باقى النمل بالعبور فوق أشلائها. وعند عبور النهر, يقوم النمل بعمل قارب أو سفينة من أجساد الغرقى. مثل الطوف, يعتليه باقى الأفراد. ويسير مع التيار هنا وهناك حتى يلقيه اليم إلى شاطئ النجاة مثل سفينة نوح عليه السلام, أو قارب كولومبس إلى العالم الجديد.

هل تعرف الشئ الذى تتجنبه كل حيوانات الغابة بدون إستثناء؟ ليس الأسد ولا النمر ولا الثعبان أو التمساح. وإنما هو طابور النمل الذى يعيش فى أمريكا الجنوبية وأفريقيا. هذا النوع من النمل يأكل اللحوم. ولا يعرف للخوف معنى. وليس له عش, وإنما يسير هائما فى شكل طابور عسكرى عرضه ثلاثة أمتار وطوله مائة متر. هذا النمل لا يبقى ولا يذر. أى شئ لا يستطيع أن يقف فى طريقه. يتسلق الأشجار بحثا عن صغار الطير, ويصعد التلال ويطوف الفيافى والقفار. إذا دخل منزلا, بعد أن يلوز سكانه بالفرار, فإنه يتركه خالى من أى حياة. وخالى من كل صرصار أو فأر أو برغوث أو بقة فراش. فى خلال دقائق يتحول الأسد إلى هيكل عظمى. سر قوة هذا النمل, بالرغم من كونه نمل أعمى, هى الشجاعة والتضحية بالنفس. فحياة الفرد ليست لها قيمة, وإنما حياة المجموع هى كل شئ.

إذا كانت التضحية بالنفس فى سبيل المجموع تعتبر شيئا كبيرا, فما رأيك فى نمل أستراليا الذى يقوم بجمع رحيق الزهور وإطعامه لأفراد منهم. تظل هذه الأفراد تأكل من الرحيق حتى تنتفخ بطونها ويرق جلدها وتصبح فى حجم حبات البازلاء. ثم يقوم النمل بتعليقها من أرجلها الأمامية فى غرف تحت الأرض, كما نعلق نحن الجرار فى غرف الخزين.وتظل الجرار الحية عدة شهور على هذا الحال إلى أن يأتى وقت الحاجة. أليست هذه تضحية فى سبيل المجموع أكثر من التضحية بالروح.

هل هناك دروس أخرى نستطيع أن نستفيد بها من دراستنا لعالم النمل؟ نعم هناك الكثير. منها مثلا, الصبر والجلد. هل رأيت نملة تحاول صعود مرتفع وهى تحمل أضعاف وزنها من طعام؟ النمل لا يعرف شيئا إسمه اليأس. وهل تعلم أيضا أن النمل مجتمع ديموقراطى؟ نعم.

فعندما يشعر بعض الأفراد بعدم صلاحية موقع عشهم الحالى, ويريدون الإنتقال إلى موقع جديد. فماذا يفعلون؟ إنهم يحسمون الأمر بعمل إستفتاء شعبى.

النمل الذى يود الإنتقال يقوم بحمل الصغار والمتاع إلى الموقع الجديد. بينما المعارضون والذين يفضلون التريث وعدم الإنتقال, يسيرون صفر اليدين فى طابور آخر مواز للطابور الأول. وعند الوصول إلى مكان العش الجديد, يحمل الطابور المعارض الصغار والأمتعة عائدا إلى العش الأصلى. وتستمر هذه العملية إلى أن تنتصر الأغلبية على الأقلية بهذا التصويت العملى الرائع الذى لا مكان فيه للتزوير أوالعزل السياسى. لأن الأمور المتعلقة بالحياة ببساطة لا تحتمل التزوير.

هل يمكن أن نستفيد شيئا من عالم الحشرات؟ أم أن هناك بقعا سوداء داخل قلوبنا تحجب عنا الرؤية الصادقة وتدفعنا نحو المجهول؟ هذه البقع لا تزال بمسحوق يشترى من الأسواق. وأنما علاجها يأتى بمجاهدة النفس وإحياء الضمائر والتمسك بالقيم وكأنها طوق نجاة. فالقيم هى سر الخلود. وقد رأينا كيف إستطاعت حشرة صغيرة مثل النمل التغلب على عجزها وقصور أعضائها عن طريق التمسك بهذه القيم. لذلك بقيت فى الوقت الذى فنى فيه الديناصور.




zakariael@att.net

 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية