قصص وحكايات من زمن فات (1)
...............................................................
| |
أيام زمان .. فلاح يركب النورج | |
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
قررت أن أعطي قارئي العزيز أجازة من السياسة والعلوم والفلسفة. فبدأت هذا المقال ولا أدري كيف ينتهي. هو ليس قصة قصيرة ولا بحث تاريخي ولا مقال إجتماعي ولا سيرة ذاتية. لكن مجرد ذكريات عن زمن جميل فات لن يعود. خشيت أن يطويها النسيان، وتذهب في خبر كان. هي تاريخ ما أهمله التاريخ. تعتمد فقط على ذاكرتي. أحداث رأيتها بنفسي، وأحداث سمعتها من أقرب الناس لي. كلها قصص حقيقية، إذا لم تخني الذاكرة. الزمن مثل السهم المنطلق. يسير في إتجاه واحد إلى الأمام، لا يعود للوراء. الزمن فقط بالنسبة لجسيمات الذرة الصغيرة، هو الذي يرجع إلى الوراء، إي إلى الماضي. لكن هذه قصة أخرى. قد أكون أكثر حظا من الكثير من السادة القراء. لأنني عشت في طفولتي أيام الملك فاروق. وفي صباي وشبابي، أيام الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبد الناصر. ثم هاجرت وعشت في الولايات المتحدة مدة حكم الرئيس السادات والرئيس مبارك. كنت خلالها أتابع ما يجري في مصر من تحولات تاريخية وإجتماعية عن كثب في الصحف المحلية والأجنبية.
كان والدي يعمل موظفا صغيرا في بنك التسليف الزراعي. وكان يتنقل بين قري ونجوع محافظة الشرقية، ترافقه الأسرة الصغيرة المكونة مني ومن والدتي ووالدي.
كنا نسكن في بيوت الفلاحين المبنية من الطين، والمعروشة بالحطب، والمكونة من غرفة واحدة أو غرفتين وحوش صغير. حيث لا مياة جارية ولا كهرباء ولا مجاري. لقد عشت قريبا من قاع المجتمع المصري ومراقبا له.
أول شيئ أتذكره في بيت جدي، هو خيوط ضوء ذهبية تنبعث من مصباح كيروسين زجاجي، نمرة خمسة. وحشد من الكتاكيت الصغيرة تملأ غربالا موضوعا بجوار المصباح. وسبت غسيل كنت أوضع داخله خوفا من السقوط.
أسمع صوت نغمات غليظة لآلة العود تأتي من الصالة يقوم بعزفها عمي، الذي يصغر والدي بعشر سنوات. كم كان عمري في ذلك الوقت؟ ربما سنة أو سنتين. هل يمكن لذاكرتنا أن نعود إلى الماضي البعيد هذه السنين؟ نعم.
ثاني شئ أتذكره، هو أنني وجدت دبورا أحمر كبيرا يحتضر أمام باب البيت. قررت الإمساك به بقشرة بصلة. لكن الحشرة كانت لاتزال حية، وقامت بلدغي في إصبعي. أخذني والدي إلى الحلاق لوضع بعض المراهم لتخفيف الألم. هل يمكن لقشرة البصل أن تحمينا من لدغ الزنابير؟ عقل أطفال.
كان لي مزاج خاص بالطرابيش. فكان جدي وعمي وأخوالى ووالدي يلبسون الطرابيش. وكنت دائم اللعب بطربوش جدي ونتف زره. وكان والدى ينهرني للكف عن اللعب بطربوش جدي، لكن جدي كان يجد متعه في رؤيتي وأنا أقلب الطربوش وأخرج خوصته الداخلية.
قام والدي بشراء طربوش صغير على مقاسي حتي أبتعد عن طربوش جدي. وكان اليوم عيد الفطر المبارك. ذهبت لكي أركب المراجيح يوم العيد. أعجبتني مرجيحة البطة. وهي عبارة عن صندوق خشبي على شكل مستطيل. مثبت من الوسط، يعلو وينخفض جانباه القصيران على التوالي.
ظللت أركب هذه المرجيحة اللعينة، إلى أن نفذت نقود العدية. فماذا أفعل؟ على رأي المطربة شريفة فاضل، الغاوي ينقط بطقيته. قمت أنا بالتنقيط بالطربوش.
طلبت من صاحب المرجيحة أن يُركّبني ويأخذ الطربوش. كان صاحب المرجيحة يعرف جدي. وزف له الأخبار والفضايح. وظل جدي رحمه الله يذكرني بهذه الواقعة إلى أن توفاه الله.
كان لدينا راديو فيليبس كبير يعمل ببطارية سائلة 12 فولت، التي تستخدم في السيارات. وكانت البطارية تشحن في ماكينة الطحين بالبلدة لكي تعمل لمدة لا تزيد عن بضع ساعات.
أذكر الصوت الحاد الذي يشبه صوت الصفير، الذي يأتي بين محطات الموجة القصيرة. عندما كان جدي يبحث عن محطة الإذاعة البريطانية لسماع الأخبار. وأذكر الإيريال الممتد بطول السطح، لإلتقاط المواجات القصيرة.
كان جدي يقول: "لم أشاهد إحتلال الإنجليز لمصر، اللهم مد في عمري حتي أري خروجهم". لقد حقق الله له هذه الأمنية. لقد خرج الإنجليز عام 1954م، وتوفي جدي عام 1964م.
في ليالي الصيف، كنت تجد الفلاحين رجالا ونساء، تتجمع أمام شباك منزلنا لسماع صوت أم كلثوم في حفلتها الشهرية يوم الخميس الأول من كل شهر، وهي تشدو بإغنية "سلو كؤس الطلا"، أو وهي تغني: "ريم على القاع، بين البان والعلم ، أحل سفك دمي، في الأشهر الحرم".
هؤلاء الفلاحين لا يعرفون معني كلمة "ريم" أو "البان" أو "العلم". لكنهم يعلمون أن هناك فنا جادا تقوله أم كلثوم، يستحق السماع والإنتباه.
جاءت سيدة ريفية كبيرة السن تزور جدتي، وعندما استمعت لأغاني محمد عبد الوهاب في الراديو، قالت: "الراديو بتاعكم ده أحسن بكتير من راديو زوج ابنتي". وعندما سألتها جدتي لماذا؟ قالت لأنه بيقول أغاني أحسن.
كانت فراشات دودة القطن تتجمع حول مصابيح الكيروسين والكلوبات، التي تضيئ شوارع القرية، وأولاد الفلاحين، تتجمع تحتها للعب والتحدث في ليالي الصيف الحارة.
في هذه الأثناء، كان مرتب والدي ثلاث جنيها في الشهر. وهو مبلغ كبير رشحه للزواج من والدتي. لأن عائلة والدتي كانت من أثرياء الريف، لكن عائلة والدي كانت فقيرة.
وجد والدي فرصة عظيمة للعمل بشركة أسمدة بمرتب أربعة جنيهات. لكن بسبب قيام الحرب العالمية الثانية، أفلست الشركة وقامت بتسريح والدي. وظل عاطلا، وهو متزوج وله طفل، لمدة عامين. عاد بعدها إلى العمل في بنك التسليف بواسطة أحد الباشوات بتوع زمان.
كان يأخذ والدي مصروفة، أثناء تعطله عن العمل، وقدره قرش صاغ واحد كل يوم. يذهب به إلى القهوة لقضاء بعض الوقت. لا تزال هذه القهوة موجودة ببلدتنا حتي الآن، ولكن مالكها الأصلي مختلف عن مالكها الحالي.
في أحد الليالي، كان الظلام دامسا بسبب غارة قامت بها الطائرات الألمانية علي وجه بحري أيام الحرب العالمية الثانية. وجاء فلاح يطلب كوب شاي. لكن الشاي أثاء الحرب لم يكن متوافرا بكثرة.
قرر صاحب المقهى عمل كوبا من شراب الكركديه بدلا من الشاي. وظن أن الفلاح لن يلاحظ ذلك بسبب العتمة. وما أن رشف الفلاح رشفته الأولي، إلا أن هب واقفا صارخا غاضبا: "مين قال لك تعصر عليه ليمون".
عزت قدري، شاب موسيقي خجول متواضع. وقع في حب فتاة من الفلاحات. طلب وساطة الشيخ محمد لكي يتوسط ويفتح الموضوع مع أهل العروسة.
بادره الشيخ محمد:
إنت معاك فلوس؟ أجاب عزت قدري:
أيوه، أنا محوش 20 جنيه.
طيب هاتهم، وربنا يفعل ما فيه الخير. إنتظر هنا على الكوبري لغاية لما أقنع أهل العروسة.
ظل عزت قدري على الكبري لغاية ما "رصرص" من البرد في يوم شتاء بارد. الوقت يمر ببطئ حتي منتصف الليل. لا حس ولا خبر للشيخ محمد. بعد فترة وجده عائدا بخطى متثاقله.
إيه يا شيخ محمد، وافقوا؟ لا إجابه.
وافقوا ياشيخ محمد؟ برضه، لا إجابه.
إنت ما بتردش ليه، قلقتني؟
يا أخي إخفه. هم وافقوا لي إلا بالعافية.
الله، هو إنت تزوجتها يا شيخ محمد؟
أيوه.
طيب وفلوسي؟
إبقى خدها في الوسعة.
كان أخو جدتي غاوي تصليح ساعات الجيب والمنبهات القديمة. وكانت له محاولات فاشلة في تحويل النحاس إلى ذهب. في يوم من الأيام، حضر لزيارة جدتي ومعه ساعة جيب قديمة.
لم يصبر حتي يعود إلى داره، فجلس وسط دار جدتي وطلب غطاء حلة. جلس القرفصاء، وغطاء الحلة على الأرض الترابية أمامه. ظل مع كوب الشاي، يفكك الساعة بمفك صغير، ويضع أجزائها الدقيقة في غطاء الحلة بترتيب معين، يفيده في إعادة تركيبها لاحقا بعد تنظيفها وتزييتها.
لكي تقوم جدتي بالواجب نحو أخيها الضيف. فتحت باب الزريبة، وظلت تطارد ديك عفي، لكي تعده للعشاء. لكن الديك كان يحاول الهرب بحياته، لأن الحياة عزيزة على كل المخلوقات حتي الديوك.
ظل الديك يجري هنا هناك وجدتي خلفه بالسكين. وفجأة وعلي غير المتوقع، هوب نط في قلب غطاء الحلة، وإذا بأجزاء الساعة الدقيقة تتبعثر في كل مكان على الأرض الترابية.
في منزل جدتي، عندما تهدأ الريح ويطبق السكون، تستطيع أن تسمع صوت القطار. وأيضا إذا وقفت أمام الدار، تستطيع أن تري شراع المراكب التي تمر بالنهر، تظهر من بين أشجار النخيل من بعيد.
كنت وأنا طفل صغير، عندما أسمع صوت القطار، أو أرى أشرعة المراكب، أصاب بحزن عميق لا أدري سببه. هل كان عقلي الباطن يدرك مسبقا أنني سوف أتغرب عن بلدي معظم عمري؟ ربما.
فلاح بسيط فقد ابنته، وفقد معها عقله. فملأ حجره بالطوب والزلط. وأخذ يرمي الطوب إلى السماء وهو يصرخ، قائلا: "هو أنت لم تجد غير بنتي تاخدها". الناس تجري وراءه وتقول: يا راجل حرام عليك، كفرت بالله. وهو مستمر في إلقاء الحجارة والزلط.
فلاح آخر إختطف الأشقياء إبنه، طلبا للفدية. عندما بلغته رسالة اللصوص، أجاب: "خليهم ياخدوه، على الأقل أكون إرتحت من أكله". فترك اللصوص الطفل في اليوم التالي.
اقترب طفل صغير تدل ثيابه على فقر مدقع. ويدل لون بشرته على سوء تغذية شديد. أعطاه أحد المارة قطعة من الحلوى. إذا بالطفل يأخذ قطعة الحلوى، ويذهب إلى مجموعة أطفال كانت تراقبه من بعيد. ويقوم بتقسيم الحلوى فيما بينهم، حتى يحصل كل منهم على جزء صغير. فهل يحدث هذا الآن؟
البقرة بالنسبة للفلاح، هي كل شئ. عليها يعتمد الفلاح في المأكل وأعمال الحقل. كانت هناك بقرة تسير على حافة بئر الساقية، فسقطت في البئر.
هرول الفلاحون الذين كانوا بجوار الحادث، وحاولوا إنقاذ البقرة، لكن دون فائدة. حاولوا الإهتداء إلى صاحبها، لكنهم لم يعثروا له على أثر.
عندما تيقنوا من قرب موت البقرة. قاموا بذبحها، وبيع لحمها بينهم. ثم جمعوا ثمن البيع في صندوق، حفظوه كأمانة حتي يظهر صاحب البقرة. هل نفعل ذلك الآن؟
كان هناك نفر من اللصوص، رغبوا في السطو ليلا على منزل تسكنه فلاحة عجوز. أثناء نومها، دخلوا الدار وعبثوا بكل أرجائها، بحثا عن أي شئ ذي قيمة. أعياهم البحث، ولم يجدوا غير مخزون الدار من الخبز البارد.
شعرت العجوز بحركة غير عادية، فقامت من نومها، وفتحت باب غرفتها، لترى في ضوء القمر، مجموعة من الأشقياء تجلس القرفصاء في صحن الدار وتأكل خبذها الجاف.
إذا بها تعود إلى غرفتها لتحضر طبق ملئ بالقشدة وتضعه أمام ضيوفها وأولادها، وتتركهم متمنية لهم الخير وتعود لتكمل نومها. ذهل اللصوص من شجاعة السيدة وكرمها، وقرروا ترك بعض النقود لها تعبيرا عن شكرهم وامتنانهم البالغ.
أول ما أذكر بالنسبة للمدارس، هو تجربتي الأولى بمدرسة أولية بقرية السماكين بالشرقية. لم أكن مقيدا بالمدرسة بسبب صغر سني. كنت أحضر الفصول كطالب غير مقيد.
لذلك لا يصرف لي غذاء بالمدرسة. فكان المدرس يعطيني من نصيب التلامذة الغائبين. وإذا لم يكن هناك غياب، كان مدرس الفصل يقتطع بعض الخبز والغموس من التلاميز ويعطيه لي.
كان المدرس من حين لآخر، يطلب منا إحضار حفنة من الغلال، قمح أو ذرة أو فول ناشف. بحجة تعليمنا العد والجمع والطرح. وكانت حصيلة هذه الغلال، تذهب إلى المدرس في نهاية كل درس.
كان عمدة قرية السماكين من أثرياء الريف، يمتلك مئات الأفدنة الزراعية من أجود الأراضي. وكان يقوم في مناسبات كثيرة بعمل صوان رهيب يدعوا إليه كل ضباط وعساكر وخفر الشرطة، والعاملون في الوحدات الصحية والمدرسين والعاملين في بنك التسليف وباقي موظفي الحكومة.
كان يحضر الطباخين والسفرجية من البندر، ويحضر فرق موسيقية، فرق المطافي. لأن كل فرق المطافي في ذلك الزمن، كانت تتقن العزف الموسيقي وتعمل كفرق موسيقية بالأجر، وفي المناسبات الوطنية، بدون أجر. عندما لا تكون هناك حرائق تستدعيهم للإطفاء.
كانت تذبح الذبائح، وتكنس الأرض، وترش بالماء، وتفرش بالرمل الأبيض الناعم. وتفرش الموائد بالقماش الأبيض. وتوضع عليها اللحوم وديوك الرومي وذكور البط والفراخ والحمام وطواجن الفرن من فريك ورز معمر وفطائر ومشلتت وجميع أنواع الحلويات والفاكة والمكسرات، والماء المثلج المعطر بماء الورد والزهر والعصائر والمشروبات.
كان موسم الجفاف يأتي في فصل الشتاء. فتجف المياة من الترع. ويظهر قاع النهر، إلا من بقع صغيرة تجاهد الأسماك في البقاء بها حية. وكانت وزارة الري تقوم بتطهير الترع وتعميقها ونقل الطمي منها أثناء فترة الجفاف.
كانت بالنسبة لنا ونحن أطفال، عالم آخر وتجربة مثيرة ومتعة لا تضاهيها متعة، نشاهدها كل عام. سواء كانت فترة الجفاف، أو عندما يأتي الفيضان ويمتلئ النهر بالغرين والخير، ويتغير لون الماء إلى اللون الأحمر، لون الحياة.
وللحديث بقية، فإلى اللقاء.