مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 قصة الفلسفة الغربية: فلسفة التاريخ عند هيجل
...............................................................

 

هيجل وفلسفة التاريخ

 

بقلم: محمد زكريا توفيق
..........................
.

نحن الآن نعيش في القرن الواحد والعشرين. فهل يعي كثير منا طبيعة هذا العالم الذي نعيش فيه؟ ينصحنا هيجل، لكي نفهم هذا العالم وهذا العصر، ولا نعيش فيهما غرباء، علينا أن نفهم قوى التغيير التي تعمل داخلهما. في كتابه الرائع، "تجسد الروح"، حاول هيجل فهم طبيعة النفس البشرية، عن طريق النظر إلى جذور تكوينها في الماضي. كتاب "تجسد الروح"، سيرة شخصية. لا لشخص معين، ولكن للروح الإنسانية بصفة عامة، على مر العصور. تتابع تطورها ونموها ونضوجها. يقوم هيجل بوضع كل خبرات وتجارب العالم أمامك. بما تحتويه من أديان وإيمان ونظريات علمية وآراء فلسفية وحركات فنية. ثم يسألنا: أي نوع من البشر نحن، وما تأثير هذه التجارب والخبرات فينا؟ كيف تعمل هذه الخبرات والإنجازات، وما السبب في عجزها وقصورها عن فهم الحقيقة كاملة؟ الذي يظهر لنا، هو جانب واحد من الحقيقة. لا يخلو من التشويه والعيوب.

يبدأ هيجل كتابه، بالحديث عن تاريخ الفلسفة. حيث تتعارض وتتصارع الأنظمة والنظريات الفلسفية مع بعضها. تذهب من النقيض إلى النقيض. يدعي كل فليسوف، وكل نظام فلسفي، أنه وجد الحقيقة نفسها التي لا يوجد بعدها حقيقة. ولسان حاله يقول: "أنا اللي فيهم، وكلهم ركشُ"، كما يقول المثل الشعبي.

الدارس لتاريخ الفلسفة، يلاحظ شدة العداوة بين الفلسفات المختلفة. بدءا بالتصادم بين أفكار هيروقليطس وبارمنيدس. ثم التعارض بين أفلاطون والسفسطائيين. وبين وهيوم وديكارت، ثم كانط وهيوم. كل منهم يناقض الذي قبله.

يشير هيجل إلى أن كل فيلسوف، يعتقد أنه قد توصل إلى الحقيقة التي تجُب كل الفلسفات التي قبله، ويعمل على تشويه سمعة من سبقوه. يعتقد هؤلاء المفكرين، أن الحقيقة الفلسفية التي تم الوصول إليها، هي حقيقة نهائية ثابتة صلبة جامدة. وبالتالي يمكن الدفاع عنها ضد هجوم أي فلسفة معارضة.

هؤلاء الفلاسفة، لا يفهمون معني اختلاف النظريات الفلسفية. الفهم الحقيقي لهذا الإختلاف، هو أنه لا يمثل أزمة وعداوة بين أفكار مختلفة، ولكنه يدل على نمو وتطور الحقيقة. حتى الحقيقة تتطور. "الله يرحمك يا شارلز داروين ويحسن إليك، ويفشفش الطوبة اللي تحت راسك". فشفشة الطوبة التي تحت الرأس، هو دعاء البسطاء للميت. حتي يكون مراتحا في قبره.

إختلاف النظم الفلسفية، لا يجب أن ينظر إليه على أنه حروب بينها. هذه النظم المختلفة، ما هي إلا عناصر متنوعة في كائن حي أو وحدة عضوية واحدة.

الفلسفة، وباقي الحقائق وكل المخلوقات الحية، تتكون من أجزاء مستقلة. لكل منها وظيفته المختلفة. يشبه هيجل تاريخ الفلسفة بشجرة الفاكهة. النظريات الفلسفية على مر العصور، تشبه مراحل نمو الفاكهة. البراعم تتحول إلى زهور، والزهور إلى ثمار.

كل فليسوف في زمانه، يمثل مرحلة هامة من مراحل تطور الفلسفة. البراعم تختفي، لتفسح مكانا للزهور. والزهور تختفي، لكي تنمو مكانها الثمار. ولا ننظر نحن للبراعم والزهور على أنها أشياء غير حقيقية. ولكن مراحل نمو عضوي لثمار الفاكهة.

كان هيجل من أوائل الذين استخدموا مفهوم الكائن الحي أو العضوي لوصف الفلسفة. كل الفلسفات عبارة عن أجزاء أو مراحل تطور لهذا الكائن العضوي. بنفس الأسلوب، يمكننا فهم الفكر الإنساني والمجتمعات والمؤسسات والتاريخ.

لقد تأثر بفكرة هيجل، "الكائن العضوي"، كل من عاصروه، والذين أتوا من بعده. فنجد جوته ينظر إلى الطبيعة على أنها كائن عضوي واحد حي.

الشعراء "شليجيل" و"وردزورث" و"نوليريدج"، كانوا يعتبرون الفن وحدة عضوية واحدة. وكذلك فلاسفة الإجتماع، روسو وهيردير وبورك. لم يكونوا ينظرون إلى المجتمعات على أنها مجموعة أفراد مستقلة. لكن كل مجتمع، عبارة عن وحدة عضوية واحدة، مثل أي كائن حي.

تحدث هيجل عن موضوع لم يعره ديكارت أو هيوم أي إلتفات من قبل. وهو موضوع "التاريخ". هذا مفهوم جديد، عندما نضيفه لمفهوم الكائن العضوي، يصبح لدينا أسلوبا ناجعا لفحص كل قضايانا ومعارفنا وخبراتنا الماضية.

نظرية هيجل الخاصة بالتاريخ تسمى: "Historicism". تقول أنه لفهم الإنسان، يجب أن نفهم تاريخه. كيف تطور فكريا؟ وما هي جذور هذا التطور؟ بدلا من الإكتفاء بسرد الأحداث في تسلسل زمني ممل. هيجل يقول، إن كل ظاهرة إنسانية، هي ظاهرة تاريخية.

لكي نفهم فلسفة معينة أو نظرية معينة ولتكن نظرية دارون مثلا، لا يجب أن ننظر إلى النظرية في حد ذاتها بمعزل عن أحداث التاريخ، وما كان يدور وقتها. علينا أن نبحث عن الأسباب التي دعت هذا الفليسوف، أو هذا العالم، أو جمال عبد الناصر، إلى تبني هذه الأفكار، وإصدار تلك القرارات؟ لماذا كان على السادات أن يمشي في طريق مخالف للطريق الذي سار فيه عبد الناصر من قبل؟

ماذا يعني هذا بالنسبة للفلسفة؟ يعني أن هيجل قد أمدنا بطريقة جديدة للنظر للأمور الفلسفية. الفلسفة لم تعد تفهم كما كان يفهما أفلاطون أو ديكارت أو هيوم. أي فلسفة واحدة صحيحة، تجُب ما قبلها من فلسفات. معنى الفلسفة يتضح فقط في إطار تطورها التاريخي. الفلسفة هي، بصريح العبارة، تاريخ الفلسفة.

في كتابه تجسد الروح، يرى هيجل أن الوقت قد حان لتقديم فلسفة جديدة، لا تتكلم فقط عن أشياء وخواصها كما فعل ديكارت، ولكن تأخذ في إعتبارها "وعي الإنسان" الذي يساهم في خلق هذه الأشياء. الحقيقة لا تقع في الأشياء نفسها، ولكن في درجة معرفتنا لهذه الأشياء.

الحقيقة، هي أيضا شئ حي، دائم التغير. الحقيقة، هي روح الإنسان. تطورت جدليا عبر القرون، عن طريق كل فروع الفلسفة عبر التاريخ.

الفلسفة الجديدة، بدت واضحة الآن. تأخذ كل التغيرات والمعتقدات الدينية والفلسفات عبر التاريخ، وتضعها فيى جسد واحد حي عضوي. أي في نظام جدلي واحد تتصارع فيه الأضداد للإرتقاء بالفكر الإنساني.

بالنسبة لتطور الوعي عند الإنسان، يقول هيجل، أن النفس في البداية، كانت مرتبطة بالأشياء عن طريق الرغبة. أو كما نقول نحن بالبلدي، "الواحد نفسه في الحاجة دي".

النفس ترغب في الأشياء التي تجد فيها متعة، لأنها تحقق حاجة الجسد. وتجد أيضا متعة في التحضير ومناولة وإستخدام هذه الأشياء. نحن نجد متعة في تحضير الوجبات، وتربية الحيوانات...إلخ. ثم نقوم بذبحها وأكلها وإفنائها.

عندما نمضغ الطعام، نحن ندمره. وعندما نأخذ قضمة من تفاحة، نحن نشوهها. ونجد متعة أيضا في تمزيق الورق وتهشيم الزجاج،...إلخ. وفي غلبة الآخرين، مثل الحروب والألعاب الرياضية. لأن هذا يعطينا الإحساس بالسيطرة والغلبة. ماتش مصر والجزائر في السودان.

نحن كائنات تحب السيطرة. تاريخنا يثبت ذلك. يرى هيجل أن هذه السيطرة، هي دليل على "مبدأ النفي"، والذي يسميه هيجل في بعض الأحيان "مبدأ الموت".

مبدأ النفي نجده في كل الفكر الإنساني. وهو الذي يولد التعارض. التعارض لكل فرضية، أو "النقيضة" لكل "طريحة". مبدأ النفي هذا، كما يقول هيجل، موجود في خصائص النفس بالنسبة للرغبة في الأشياء. وبالنسبة للرغبة في تحطيمها بصورة أو بأخري.

مبدأ النفي أو الموت تجاه الأشياء، لا يجد صعوبة عندما يكون الشئ تفاحة أو قطعة لحم. لكن، كيف نفسر مبدأ النفي، إذا كان الشئ إنسانا آخر؟

يقول هيجل، أن الرغبة لا تزال موجودة في السيطرة علي الآخر. عن طريق الإحتواء، والنفي، والقتل، والتعذيب، وغسل المخ، والإعتقال، والكبت،...إلخ. لكن، النفس الأخري لديها نفس الرغبة، وتبغي قتل النفس الأولي التي لا تستطيع السيطرة عليها. كل منا يريد في قرارة نفسه قتل الآخر، للسيطرة عليه.

تدخل النفس الأولى والثانية فيما أما أسماه هيجل ب"الصراع حتي الموت". في هذا الصراع، يخاطر كل منهما بحياته لقتل غريمه. لكن التغلب على الخصم، لا يأتي بكل الرضا. كل الرضا يأتي من جعل الخصم يعترف أنه قد هزم بواسطتي.

ما تبغيه النفس،كما يقول هيجل، ليس السيطرة على أجسام الآخرين فقط، ولكن السيطرة على نفوسهم أيضا. الهدف هو أن تعرف النفوس الأخرى، بأنني أنا المسيطر عليها والمتحكم فيها. إننا نري هنا حرص رجال الدين والحكومات المستبدة، على السيطرة على شعوبها.

لكن هناك نقطة هامة. أنا أريد النفس الأخرى تظل موجودة، حتي تعي وجودي وتعلم "أنني ابن جلا وطلاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوني". أنا أحتاج لكي أعي وجودي، وجود نفس أخرى تعرفني كنفس.

وجهة نظر هيجل هنا أننا لا نستطيع إدراك أنفسنا، إلا عن طريق نفس أخرى. تعمل كمرآة لوجودنا. هنا نجد هيجل على عكس ديكارت تماما. الذي يقول بأن النفس توجد بمفردها. "أنا أفكر، إذن أنا موجود".

هيجل يقول، أنا لا أستطيع أن أعرف نفسي في عزلة. في السجن الإنفرادي. أنا أعرف نفسي لأنني أراك تنظر وتبحلق في، وتستجيب لى كنفس. الوعي بوجودي، يستلزم وجود نفس أخرى.

إذا قمت بقتل النفس الأخرى، في عملية "النضال حتى الموت"، فسوف أخسر شيئين. أولا: إذا توفى الآخر، فلن أحصل على الرضا المصاحب لبقائه حي ومعرفته بأنني قد نجحت في السيطرة عليه. ثانيا: عند موت الآخر، فلن تكون هناك نفس أخرى تتحقق من وجودي كنفس. أي أنه في هذه الحالة، لن توجد مرآه، أري فيها نفسي.

المرحلة الثالثة لتطور الروح، التي أسماها هيجل تجسد الروح، هي مرحلة "السيد والعبد". في المرحلة السابقة، مرحلة "الصراع حتي الموت"، يدرك المنتصر أنه من الأفضل له إبقاء غريمه على قيد الحياة، واستغلاله وتحويله إلى عبد له.

يقول هيجل أن مرحلة "السيد والعبد"، نجدها في المجتمعات البدائية. ونجدها أيضا أثناء الحروب. عندما ينتصر إنسان على إنسان آخر.

لكن هذه العلاقة مليئة بالتعارض والقصور. عندما يقوم شخص بإستعباد الآخر، وتحويله إلى مجرد آلة تعمل فقط لخدمته. يصبح السيد، في نفس الوقت، في حاجة للعبد.

مع مرور الوقت، ومع استمرار العبد في خدمة سيده، يجد العبد نفسه في العمل الذي يقوم به. سوف يكتشف أنه ليس عبدا. بل هو كائن مستقل كوعي. له عقل وإرادة لها قوتها الخاصة.

الجزء الخاص بعلاقة السيد بالعبد، التي جاءت في كتاب هيجل "تجسد الروح" المكون من 800 صفحة، تعتبر أهم الأجزاء. ومن هذا الجزء، بدأت فلسفة هيجل الجدلية.

بعد مرحلة "السيد والعبد" بما فيها من تناقضات وصراعات، تنتقل روح الإنسان إلى مرحلة رابعة. تسمى المرحلة الرواقية. وهي فلسفة كانت منتشرة في بلاد الإغريق والرومان، في سالف العصر والأوان.

الإنسان عند الرواقيين، لا يجب أن يكف عن طلب العلم والحكمة طيلة حياته. حتي يصل إلى حالة التنوير والعلاء المنشودة. وعليه أن يحرر نفسه من متطلبات الحياة وخصوصا ما له علاقة بالعواطف مثل الحب والكره والحقد والرجاء وخلافه.

الرواقي رجل حكيم، متقشف. قام بمجاهدة النفس وتخليصها من كل أسباب الشقاء والبؤس. الرواقي ليس له إهتمام بأي شئ يجلب الألم أو الخوف أو حتي الأمل والفرح. ومن الفلاسفة الرواقيين، سينكا وإبيكتيتوس وماركوس أورليوس، الإمبراطور الروماني في القرن الثاني الميلادي.

ماذا يعني هيجل بالوعي الرواقي؟ يعني بأنني يمكنني أن أكون مستقلا وحرا. سواء كنت عبدا أو إمبراطورا أو رئيس جمهورية. عن طريق فهم القوانين التي تحكم هذا الكون، والقوانين التي تحكم سلوك الإنسان. عندما أكون قريبا من الطبيعة، تصبح القوانين التي تحكم الطبيعة، هي نفسها التي تحكم الإنسان.

يجنح الناس إلى الرواقية، في الأوقات العصيبة التي ينتشر فيها الفساد والإستبداد والخوف من العبودية والزبالة وتزوير الإنتخابات، مصحوبا بحب معرفة الحقيقة. وتصبح الرواقية، الملاذ الأخير . حيث الهدوء والسلام والإستقلال بعيدا عن هذه الأمواج المتلاطمة والعالم المضطرب.

لكن، حتى الرواقية لها قصورها. الذي يأتي معه النقيض وبذور فنائها. الرواقي يخاف العبودية مع أنه سيد قراره والمتحكم في أفكاره. لكنه لا يزال عبدا لقوانين الطبيعة والقوانين التي تحكم الإنسان. وهو أيضا مثل العبد، يعيش في عزلة، يطلب الزهد والتقشف. الرواقي ليست لديه الحرية للتمتع بالحياة، لكنه يتراجع ويتقوقع على نفسه ويعيش في عالم خيالي، يعتقد فيه أنه حر.

المرحلة الخامسة لروح الإنسان، تتخطى مرحلة الرواقية إلى مرحلة الشك. الرواقي يعتزل العالم وينسحب منه إلى مكان هادئ مسالم. لكن الشك، يجعل الإنسان رافضا لكل شئ تماما. الشك كقوة مدمرة تستخدم لنفي والتشكيك في كل المعتقدات والتجارب الخاصة والقوانين الوضعية.

ماهي حدود الشك؟ الشك يهاجم ويشكك في وجود النفس أيضا. ويقود الشك إلى نفسين لا نفس واحدة. نفس مسيطرة تعمل مثل "السيد"، ترفض كل شئ وتشك في كل شئ. ونفس مثل العبد، خاضعة ذليلة.

هذا التعارض بين النفس المسيطرة "السيد"، والنفس الخانعة "العبد"، يقود إلى مرحلة سادسة من تطور الروح. هي مرحلة الوعي الغير سعيد. وهي مرحلة التدين في العصور الوسطى. المتدين في العصور الوسطى، له نفس منقسمة إلى نصفين. بينهما صراع لا ينتهي.

صراع بين نفس حقيقية تتشوق للوصول إلى الله ولكنها لا تستطيع الوصول إليه. ونفس مزيفة تطلب متع الدنيا ونعيمها. الوعي الديني غير سعيد، لأنه يعرف أنه منقسم إلى نفسين لا نفس واحدة. تتصارعان كسيد وعبد.

تأتي المرحلة الأخيرة التي أسماها هيجل مرحلة "تجسد الروح". الوعي الديني بما في داخله من تناقض وتصارع، يقود إلى الحجة العقلية والفلسفة. الأفكار الدينية يجب أن تتحول من مجرد إيمان بحت، إلى أفكار يستوعبها العقل، تتوافق مع النظريات الفلسفية والعلمية.

النفس يجب أن تعلم أن الحقيقة العليا ليست شيئا مجسدا تعيه الحواس. لكن الحقيقة العليا، هي مجرد عقل شامل. تظهر نفسها عن طريق صراع جدلي داخل عقولنا المحدودة، خلال تاريخنا الإنساني. النفس يجب أن تدرك أيضا، أن الإنسان الحر، لا يجب أن يكون عبدا لأحد.

السيادة هي مطلب الإنسان. لكن هناك نوعا واحدا من السيادة يصلح للإنسان الحر. السيادة على جوانب الحقيقة التي تصلنا خلال حوادث التاريخ. حينئذ، لن يصبح هناك علاقة سيد وعبد. وتتحرر روح الإنسان وتصبح وعي متكامل مع الحقيقة العليا بالرغم من قصورها بالنسبة للمكان والزمان.

سنناقش الآن أهم أجزاء فلسفة هيجل وأكثرها شهرة وثراء، فلسفة التاريخ. فهل التاريخ له فلسفة؟ وهل التاريخ بصفة عامة، له معنى ودلالة؟ وهل هناك نمطا يمكن أن أستخرجه من أحداث التاريخ؟

للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نستعرض أحداث التاريخ ككل. لا يشغلنا هنا تراكم وحفظ المعلومات والوثائق التي تصف لنا حقيقة ما حدث هنا وهناك، الآن وبالأمس. الذي يجب أن يهمنا هنا، هو إختراق هذه المعلومات للبحث عما إذا كانت تعني شيئا، ومعرفة ما إذا كانت لها دلالات معينة ومعاني دفينة.

هل يمكن للأحداث المختلفة والمتفرقة والمعزولة عن بعضها، أن يكون لها دلالة معينة ومعاني خفية لا نراها بالعين؟ نعم. وسوف أوضح ذلك بمثال من علم الإحصاء.

ونحن أطفال، كنا نلعب لعبة "ملك أو كتابة". وهي أن نأخذ عملة معدنية على أحد وجهيها صورة، والوجه الآخر كتابة. ثم نلقيها في الهواء وننظر عندما تستقر على الأرض، أي وجه ظهر لنا.

إذا قمنا بإلقاء العملة مرة واحدة، فلا يمكن التنبؤ بظهور وجه معين بطريقة مؤكدة. أما إذا قمنا بإلقائها عشر مرات مثلا، فقد يظهر أحد الوجوه ست مرات والوجه الآخر أربع مرات، أو 7 و 3. في هذه الحالة، ستكون نسبة ظهور الصورة 60% أو 70%. وهي نسبة، لا يمكن التنبؤ بها بالضبط مسبقا.

لكن لو قمنا برمي العملة في الهواء ملايين المرات، وتسجيل عدد مرات ظهور الصورة. فسوف نجدها تقترب جدا من نسبة 50%. كلما زاد عدد المرات، كلما إقتربت نسبة ظهور الصورة من نسبة ال 50%.

هذه حقيقة ثابته من حقائق الحياة، لا نلاحظها في الحوادث الفردية، ولكن عندما ننظر إلى الحوادث مجتمعة. وهذا يعني، أنه عندما نقرأ ما بين سطور التاريخ، تبدأ الحقائق الخفية في الظهور.

أيضا حقيقة أن "السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة فساد مطلق"، كما قال اللورد البريطاني أكتون في نهاية القرن التاسع عشر. إذا تتبعنا سطور التاريخ، فسوف تتضح لنا هذه الحقيقة، حتي لو شذ حاكم أو إثنان عنها في عصر من العصور.

فلسفة التاريخ عند هيجل، تنبع من فلسفته المعروفة بإسم "المثالية المطلقة". التي تقول بأن الحقيقي عقلاني، يمكن معرفته عن طريق الصراع الجدلي بين الأضداد. فكرة "المثالية المطلقة" يجب تطبيقها في علم التاريخ، وفي كل العلوم.

هذا ما يعنيه هيجل بفلسفة التاريخ. المفاهيم العقلانية التي نستخرجها من التاريخ، لا تتعارض مع حقائقه، ولكنها تجعلنا أكثر فهما لهذه الحقائق.

من "المثالية المطلقة"، جاء هيجل بفلسفة تاريخ العالم. فلسفة التاريخ، ليست الفلسفة الوحيدة التي تفسر حركة التاريخ. فنجد مثلا، القديس أوغسطين له "فلسفة التاريخ المسيحي"، وكوندورسيه له "فلسفة التاريخ" في عصر الأنوار. كارل ماركس له "المادية التاريخية". وهذه أهم أربع فلسفات تاريخية على مدى العصور.

بالنسبة لنا، كتاب "سندباد مصري" للدكتور حسين فوزي، يعتبر من أمتع كتب التاريخ. وهو أكثر من كتاب تاريخ عن حياة الشعب المصري. يمثل في رأيي ما يتحدث عنه هيجل بالنسبة للتاريخ المصري.

فلسفة هيجل التاريخية هي المشهد الذي تظهر فيه الحقيقة المطلقة واضحة جلية للوعي الإنساني. فهم التاريخ فلسفيا، هو صياغة للحقيقة بطريقة عقلانية، لجعلها واضحة جلية للعقل البشري. تفسر لنا جدليا، الهدف من هذه الحياة. وحكمة الله في سير الأحداث بهذا الشكل. وكما يقول هيجل، أحداث التاريخ لها هدف من ورائها. غرض إلهي عقلاني نبيل.

لكننا نتساءل هنا، كيف يقول هيجل هذا الكلام الغير مفهوم؟ وهل التاريخ بأحداثه الخطيرة، يعتبر شئ عقلاني نبيل الغرض، وهو ملئ بالشر والظلم والقتل والحروب وسفك الدماء؟ كيف نفسر وجود الظلم والغبن الذي وقع على الطبقات الفقيرة إبان الثورة الفرنسية مما دفعهم إلى الثورة؟

وما تبريرنا لعهد الرعب وظهور دالتون وروبسبير ومارا بعد الثورة؟ وكيف نبرر مرض هيجل نفسه بالكوليرا وموته المبكر قبل الأوان، إذا كانت الأمور تسير على مايرام وفقا لمخطط إلهي حكيم؟

لم ينكر هيجل وجود الشر عبر التاريخ. وهو الذي جاء بتعبير "رعب التاريخ". وكان يقول بأن التاريخ مذبح مقدس، تقيد فيه الضحايا من البشر وتقتل بدم بارد كقرابين؟

إذن، ما هو الغرض من هذه التضحيات البشرية. ما يزيد على مليون عراقي، تتفحم بالقنابل العنقودية وتقدم كقرابين. وشعب بأكمله تسرق أرضه ويشرد في بقاع الأرض. وحاكم يستولي على ثروة بلاده ويحكم شعبه بالحديد والنار، وينقله إلى العصور الوسطى. أين دور الله؟ وكيف سمح للشيطان أن يعبث بالتاريخ.

يقول هيجل أنه لو تتبعنا حركة التاريخ العالمي، فسوف نجد أن التاريخ كائن حي له روح. هذه الروح هي حرية الإنسان ووعيه بهذه الحرية. التاريخ يسير في اتجاه المزيد من الحرية للإنسان. نظام الجواري والعبيد قد إختفى أو كاد. وتحررت معظم الشعوب من الإستعمار والتبعية أو كادت...إلخ.

لكن، كيف يحدث هذا؟ وكيف يقود الشر إلى الخير؟ يجيب هيجل، بأن هذا يحدث لسببين. السبب الأول هو الفهم العقلاني للحرية. التي تحاول الحقيقة العليا إظهارها. السبب الثاني هو الرغبة والهوى لإشباع رغبات الإنسان الملحة. الإنسان يتحرك مدفوعا برغباته وغرائزه.

الرغبة والشهوة والشبق، أقرب إلى قلب الإنسان من القوانين والأخلاق التي تحاول كبح جماحه. نحن هنا نتذكر هيوم عندما قال بأن العقل عبد للشهوة.

إذا وضعت هدفا، أو قمت بتعديل الدستور، فهذا العمل يجب أن يخدم مصلحتي أنا وأولادي. لا شئ يحدث لوجه الله والحق. كل شئ يحدث وفقا لرغباتنا، الظاهرة أو الدفينة في العقل الباطن.

هذه الرغبات المعقدة، سواء كانت تعديل الدستور لكى يضمن توريث السلطة، أو التبرع للجياع في بلاد بعيدة لم نزرها من قبل. يجب على الحقيقة العليا التعامل معها، لكي تظهر أهدافها النبيلة عبر التاريخ. الحقيقة العليا، أو الله، أو الحق المطلق، تستخدم إرادة الإنسان كوسيلة لإظهار أهدافها النبيلة.

كيف تفعل الحقيقة العليا ذلك؟ يقول هيجل، عن طريق "مكر العقل الكلي". عن طريق إستخدام وسائل العنف واللين والمهارة والمكر،...إلخ. بهدف إحضار الحرية كحقيقة عقلانية إلى عقل الإنسان. "مكر العقل الكلي" تستخدم جشع الإنسان ورغباته الملحة لتحقيق أهداف الحقيقة العليا في تطور الإنسان الخلقي.


عصرالأنوار الأوروبي الذي تحقق على أيدي فلاسفة التنوير، يعتبر تطبيق لتلك الفلسفة الجديدة للتاريخ، فعندما كان العقل الكلي الأوروبي سائراً نحو التحرر الكامل والتقدم في اتجاه تقدم الإنسان، كان لابد لمنطق التاريخ الجدلي، من أن يعمل على إشعال نار الاصطدام بين رجال الكنيسة في أوروبا وبين التيارات الفكرية التنويرية الجديدة.

كان لذلك ثمنه الباهظ الذي تمثل في الاضطهاد الديني للمفكرين والأدباء والفلاسفة الأوروبيين. الذي جاء مخالفا لمحاولات الكنيسة للحفاظ على موقعها المتميز، القائم على حقها الوحيد في الإمساك بزمام الخلاص الروحي والتفسير الوحيد للدين.

لم يكن يدور بخلد أولئك المنفذين من أباطرة الكنيسة وقساوستها، وهم يقيمون محاكم التفتيش ويحرقون العلماء ويسحلون الفلاسفة، أنهم يؤدون دوراً رسمه لهم التاريخ بواسطة العقل الكلي المسيطر مسبقاً.

هذا الصراع، بلغ مرحلته الحاسمة، عندما أدى إلى انتهاء دور الكنيسة الأوروبية، في هيمنتها على الأفراد والحياة. وتحرر العقل الأوروبي نهائياً من قبضتها، وتحولت الكنيسة إلى مؤسسة دينية تحكمها لوائح وأنظمة المؤسسات الأخرى في المجتمع. وعقبالنا يا رب، عندما نتخلص من تحكم رجال الدين والدعاه الجدد في شعوبنا.

الحقيقة العليا لا تظهر نفسها في الأفراد، أنا وأنت. ولكن تظهر نفسها في كل الناس مجتمعة، في الأمم ككل. مثل رمية نرد واحدة أو قطعة نقود واحدة، لا تستطيع أن تتنبأ بظهور الصورة. لكن ملايين الرميات، تستطيع التنبؤ بهذه الحقيقة.

"روح الشعوب"، هو تعبير كان يستخدمه هيجل. يعني شيئا قريبا من تعبير "الحضارة". يشمل اللغة والدين والفنون والموسيقى والشعر والمعمار والأخلاق والفلسفة والعلوم والقانون. روح أي شعب، نجدها مجسدة في كل هذه العوامل.

عوامل الحضارة، تنتشر بين أفراد الشعب. توحدهم في جسد حي واحد. لا يكفي أن نقول نحن شعب عظيم بالوراثة. إذا لم تكن لدينا أرقى هذه العناصر الحضارية وأعظمها. أعظم العلوم، وأرقى الأخلاق، وأجمل الفنون، وأعذب الموسيقى،... إلخ.

عناصر روح الشعوب، لا تعمل أو تفهم بمفردها. لكنها مجتمعة، تشكل كائن حي عضوي. الإنسان المصري القديم، لا يمكن أن نفهم طبيعته وعظمته، إلا من خلال فنونه وديانته وآدابه وما خلفه لنا من آثار عظيمة.

الدولة في مفهوم هيجل، هي أيضا كائن عضوي. تشمل الحكومة والمؤسسات والثقافة. الدولة تمثل العضو في التاريخ العالمي. ويكون هدف "مكر العقل الكلي"، هو إستخدام، لا الأفراد مثلي ومثلك، ولكن الدول. لكي تعطي الإنسانية وعيها بالحرية.

هذه الدول العظيمة، لا الأفراد، هي التي يظهر فيها الوعي بالحرية. وكل دولة، لها دور محدد، من واجبها القيام به نحو هدف الحرية النبيل على مسرح التاريخ العالمي.

جدلية هيجل، هي التي سمحت بتبرير وجود الشر في هذا العالم. الشر موجود لدفع التقدم إلى الأمام. حركة التاريخ تسير إلى الأحسن. لكنها لا تسير في خطوط مستقيمة. مثل أسعار الأوراق المالية في البورصة. تتراوح بين صعود وهبوط. مرات الصعود أكثر وأطول. إتجاه أسعار البورصة في المدي الطويل في صعود مستمر.

كذلك حركة التاريخ. هي أيضا بين صعود وهبوط جدلي. لكنها في الأمد البعيد، في صعود مستمر. فلم تعد لدينا جواري أو عبيد. وتحررت معظم الشعوب من الإستعمار المسلح، إلا الشعب الفلسطيني. وبدأت الديموقراطية في الإنتشار بين الشعوب. إلا شعوبنا.

سوف تختفي الديكتاتورية وحكم الإستبداد قريبا. وسوف تختفي إسرائيل كدولة عنصرية، ويعيش الفلسطينيون واليهود آمنين في دولتهم وبين أقرانهم من البشر كباقي الشعوب. هذا ما يقوله لنا التاريخ. متى؟ التاريخ لديه الوقت الكافي، لتحقيق كل أهدافه.

كيف نقارن فلسفة هيجل بفلسفة الأنوار. بالنسبة لهيجل، التاريخ يستند إلى المجتمعات والدول، لا الأفراد. التاريخ يهتم بروح الشعوب، بكل ما لها من حضارة، ولا يهتم فقط بالعلوم والتكنولوجيا.

التاريخ ليس مسرحا للسعادة، ولكنه حركة نحو الحرية بالنسبة للشعوب. يستخدم الخير والشر إن لزم. يستخدم شهوة الفرد وطمعه كوسيلة لتحقيق أغراض التاريخ النبيلة.

قراءة هيجل، تمدنا بالكثير من الحكمة. فلسفته أعطت العالم الكثير من المفاهيم. روح الشعوب، حضارة الشعوب، حيوية المجتمعات، جدلية الأفكار. نظرياته بينت العلاقة بين الفرد والمجتمع. معظم أعمال هيجل ونظرياته، نجدها الآن في علوم الإجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ والتحليل النفسي.

تأثير هيجل، لا ينحصر فقط على العلوم التي تهتم بالإنسان. لكن على الفلسفة نفسها. وكما يقول الفليسوف الفرنسي "موريس ميرلو"، كل الأفكار الفلسفية العظيمة في القرن التاسع عشر، وكل فلاسفة التنوير، وماركس، ونيتشه، والوجوديين، والمحللين النفسانيين، كل هؤلاء بدأوا بفلسفة هيجل.

zakariael@att.net

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية