قصة الفلسفة الغربية: ليبنيز العقلاني-ولوك التجريبي
...............................................................
| |
جون لوك | |
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
أحد الفلاسفة العقلانيين العظام في القارة الأوربية في عصر النهضة، هو الفيلسوف الألماني جوتفريد ليبنيز (1646-1716م). عبقري موسوعي، قام بإسهامات هامة في تقدم المنطق الرمزي.
توفى والده عندما كان في السادسة من عمره. لذلك تلقى علوم الدين والأخلاق من والدته. مما كان له تأثيرا كبيرا على أفكاره وفلسفته في المستقبل. كان والده أستاذا جامعيا، ترك له مكتبة كبيرة من الكتب الفلسفية والعلمية والأدبية.
إطلع ليبنيز على مكتبة والده منذ سن مبكرة، مما وسع مداركه، وجعله يتعلم اللاتينية في سن الثانية عشر، ويؤلف قصيدة مكونة من 300 بيت شعر، ألقيت في إحتفال بمدرسته في سن الثالثة عشر.
التحق ليبنيز بالجامعة في سن الرابعة عشر، وحصل على ماجستير الفلسفة في سن الثامنة عشر. وليسانس الحقوق في سن التاسعة عشر. في سن العشرين، نشر أول كتاب له بعنوان "فن التراكيب"، تضمن مقالا له في الفلسفة. ثم التحق بجامعة "التدورف" وحصل منها على شهادة الدكتوراة في القانون. ثم هجر الحياة الأكاديمية، وتفرغ لخدمة عائلتين من عائلات النبلاء الألمان.
عندما دعي ليبنيز إلى باريس، قام بمقابلة عالم الرياضيات والفيزياء العظيم هايجينز. عندما اكتشف ليبنيز أن معلوماته في الرياضيات والفيزياء ليست على ما يرام، قام بتعليم نفسه بنفسه الرياضة والفيزياء بمساعدة هايجينز. وسرعان ما تسبب ليبنيز في إسهامات هامة في كلا من هذين العلمين.
ثم قام بمقابلة الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، ودراسة فلسفة ديكارت وباسكال. (نموذج لما فعله رفاعة الطهطاوي، والإمام محمد عبده في باريس فيما بعد). ثم ذهب ليبنيز إلى إنجلترا عام 1673م، لمقابلة أولدنبورج وكولينز. وقام بعرض الآلة الحاسبة التي قام بإختراعها، والتي تقوم بالعمليات الحسابية الأساسية من جمع وطرح وضرب وقسمة.
قام أيضا بوضع خطة لغزو فرنسا لمصر حتي يشغل فكر الفرنسيين ويبعدهم عن أطماعهم في غزو البلاد الناطقة بالألمانية. نفس الخطة، قام باستخدمها نابليون بونابرت بعد 120 سنة.
إكتشف ليبنيز علم التفاضل والتكامل في نفس الوقت مع إسحق نيوتن، دون أن يعلم كل منهما ما يفعله الآخر. ثم قاما بتبادل الإتهامات بسرقة الفكرة.
أثناء سفر ليبنيز، توقف عدة أيام لمناقشة اسبينوزا في فلسفته. وكان ليبنيز معجبا جدا بذكاء اسبينوزا، لكنه رفض آراء اسبينوزا لتعارضها مع الديانة المسيحية واليهودية.
أراد ليبنيز، مثل اسبينوزا، تصحيح أفكار ديكارت الميتافيزيقية، دون أن يهدم أركان فلسفته الأساسية. ولم يكن مقتنعا بفلسفة وحدة الوجود عند اسبينوزا. لأنه كان يعتقد أن الإنسان له وجود حقيقي وإله متميز خارج عن الطبيعة.
بالنسبة للمنطق، فقام ليبنز بتقسيم كل القضايا الفكرية إلى قسمين. قضايا تحليلية، وقضايا تركيبية أو صناعية.
نحن هنا بدأنا نخلع أحذيتنا، ونغوص في عمق الفلسفة والمنطق. لذلك وجب فهم بعض التعاريف المنطقية التي أرجوا أن لا يجدها السادة القراء جافة:
القضية المنطقية، هي كل كلام يفيد خبرا يحتمل الصدق أو الكذب. الأسئلة والأوامر وجمل التعجب، ليست قضايا منطقية. لأنها لا تخبر عن شئ يحتمل الصدق أو الكذب. جملة مثل "إقرأ هذا الكتاب"، لا تحتمل الصدق أو الكذب. أما جملة "هذا الكتاب قديم"، فهي قضية منطقية. لأن الكتاب قد يكون قديما، وقد لا يكون.
القضية المنطقية تتكون في أدنى صورها من: موضوع (الكتاب)، ومحمول (قديم)، ورابطة (هو). الرابطة هنا مستترة، لأن الجملة أصلها "الكتاب هو قديم".
القضايا المنطقية التحليلية، هي القضايا التي يكون محمولها تحليلا أو تكرارا لموضوعها، بدون أن تضيف إليه شيئا جديدا. مثل قضية "كل العوانس نساء". لأن كلمة نساء لم تضف للعوانس شيئا جديدا. فالمعروف هو أن كل العوانس نساء. كلمة نساء هنا تعتبر مجرد تكرار في الجملة.
كذلك قضية "الأب رجل له ابن"، "المثلث له ثلاثة أضلاع"، "2+3=5" وأيضا كل القوانين الرياصية والتعاريف المنطقية. هذه القضايا تحليلية، لأنها تعاريف حقيقية في حد ذاتها وواقع لا يمكن إثبات خطئه بالتجربة.
أما القضايا التركيبية أو الصناعية، فهي القضايا التي يضيف محمولها إلى موضوعها شيئا جديدا ليس فيه. مثل قولنا "إرتفاع الغرفة أربعة أمتار"، وقولنا "المطر غزير"، أو "الكتاب قديم". إرتفاع الغرفة قد يكون أربعة أمتار أو أكثر أو أقل. هذه صفات غير ضرورية للغرفة أو المطر أو الكتاب، يمكن أن توجد بدونها. ويمكن إثبات عدم صحتها بالقياس أو التجربة.
القضية التحليلية هي وحدة العلوم الرياضية. صدقها مرهون بعدم تناقض الفكر مع نفسه. أما القضية التركيبية، فهي وحدة العلوم التجريبية. وصدقها مرهون بعدم تناقض الفكر مع نتائج التجربة والواقع.
أفكار ليبنيز المنطقية يمكننا أن نلخصها في ثلاثة مبادئ هي:
1- الهوية
2- السبب الكافي
3- التوافق الداخلي
بالنسبة لمبدأ الهوية، أو القضية التحليلية، نفيها خطأ، والعكس صحيح. ماذا يعني هذا الكلام؟ دعنا نوضح ذلك بمثال:
"كل العوانس نساء"، هذه قضية تحليلية صحيحة تمثل الهوية. لأن كلمة نساء لم تضف جديدا، وتعتبر تعريف أو تكرار لوصف جاء في كلمة العوانس. نفي هذه الجملة هو "ليست كل العوانس نساء". هذا يعني أن بعض العوانس هن غير نساء. وهذا تعارض. هذا ما عناه ليبنيز بأن نفي الهوية أو القضية التحليلية خطأ منطقي.
بالنسبة لمبدأ "السبب الكافي"، فيقول" "إن كل شئ موجود لسبب ما، وكل حادث يحدث لسبب ما". إن هذا هو السبب المعقول الوحيد الذي يفسر ما نراه من أشياء أمامنا. الله فقط هو الذي يمكنه أن يفسر لماذا تحدث الأشياء بهذه الطريقة. لا بد أن هناك سببا ما وراء وجود هذا العالم. ويتساءل ليبنيز: "لماذا يوجد شئ بدلا من لا شئ؟". مثل القديس توماس من قبله، يري ليبنيز أنه لا بد من وجود محرك أول. هو الله الكامل وراء خلق هذا العالم.
ثم يأتي ليبنيز بمفاجأة، وهي قوله إن كل القضايا التركيبية الحقيقية، مثل قضية "القطة فوق الحصيرة"، هي قضايا تحليلية. مثل "1 +1=2". لأنه كان يعتقد أن كل الجمل الحقيقية، تمثل ضرورة إلهية. القطة "كاتي" فوق الحصيرة في زمن معين، هي صفة ضرورية للقطة "كاتي"، مثل كونها قطة بدلا من كلب مثلا.
إذا كانت القطة فوق الحصيرة، فلابد من سبب. الله فقط هو الذي يعلم السبب في وجود القطة، وسبب كونها فوق الحصيرة، بدلا من كونها فوق الدولاب، في هذه اللحظة الزمنية.
بالنسبة للتوافق الداخلي، وجود الله شئ منطقي وجيد. هذا الإله لابد أن يكون قادرا على خلق كل ما يمكن من الوجود والسلوك. أي خلق الكمال الميتافيزيقي والكمال الأخلاقي.
لذلك، عند بداية الخلق، فكر الله في كل الإحتمالات. إختار منها أعظم الوجود وأكمل الأخلاق. الله خلق الأفضل بالنسبة لهذا العالم وهذه الأخلاق.
هذا الكلام لم يدخل عقل الفيلسوف والشاعر والأديب الفرنسي العظيم فولتير. فقام بالرد على ليبنيز بروايته التهكمية "كانديد". التي يمثل ليبنيز فيها، شخصية الفيلسوف بانجلوس.
بانجلوس يرى كل شئ على مايرام في هذا العالم، المضطرب المرعب الملئ بالقسوة وسفك الدماء. عالم رواية "كانديد"، شبيه بعالم الرئيس الغير مأسوف عليه جورج بوش، وسياسته الغبية اللإنسانية، والتي تسمى الفوضى الخلاقة.
كان الفيلسوف طاليس المالطي في الزمن القديم يقول، أن أصل كل شئ هو الماء. وجاء بعده أناكسيماندر ليقول بأن أصل الأشياء هو شئ سرمدي غير متناهي وغير محدود. ثم يأتي اناكسيمنيس ليخالف كلا منهما ويقول بأن أصل الأشياء هو الهواء.
بعدهم يأتي فيثاعورث ليقول بأن أصل الأشياء، لا هذا ولا ذاك، إنما هي الأرقام. ثم نجد هيروقليطس يقول بأن الأصل هو النار. وتقريبا كل فيلسوف تعرض لموضوع أصل الأشياء وكان له رأي فيه.
نحن نقول اليوم بأن أصل الأشياء هي الذرات. ثم نكتشف أن الذرات تتكون من جزيئات صغيرة، هي بدورها تتكون من جسيمات أصغر. ونظل هكذا إلى أن نصل إلى الكوارك. ثم نكتشف نظرية جديدة تقول لا هذا ولا ذاك، إنما هي أوتار من الطاقة صغيرة جدا في حالة تذبذب أو عزف موسيقي مستمر، ونحن والعالم من حولنا أنغامها.
أما ليبنىز فيقول بأن المادة تتكون من عدد لانهائي من أشياء متناهية في الصغر أسماها "مونادز" المفرد "موناد".
يختلف كل موناد منها عن الآخر، مثل بصمات الأصابع. كل موناد ليس له مكان أو زمان. أي خارج نطاق الزمن والمكان. يعكس صورة العالم الخارجي. الموناد مغلق على نفسه، ليس به فتحات أو نوافذ تسمح بأي شئ يدخل أو يخرج منه.
الموناد ليس مادة، لكن له روح. وكل منها لا يتفاعل مع الآخر ومستقل بنفسه. مثل التعريف الكمي للفوتونات الضوئية التي جاء بها أينشتاين فيما بعد. الفوتونات لا تتجزء ولا تنقسم وتحمل طاقة تختلف حسب لون الموجة الضوئية.
المونادز تتفاعل مع بعضها بسبب التوافق الذي حباها به الله منذ نشأة الخلق. المونادز هي أصل كل شئ، أما ما نراه من مادة وأشياء من حولنا فهي مجرد خواص وصفات للمونادز.
يتضح لنا مما سبق أن ليبنيز حاول حل مشكلة ديكارت في التفسير الثنائي، المادة والروح، لوجود الأشياء. لكن فلسفته واجهت العديد من المشاكل. حينئذ، هب كثير من الفلاسفة للدفاع عن الفطرة السليمة والبديهة عند الإنسان، وإعادة ثقته في حواسه.
فيأتي الفيلسوف البريطاني جون لوك (1632-1704م). وهو أول الفلاسفة التجريبيين. وأحد فلاسفة التنوير العظام. ليس فقط في إنجلترا، وإنما في أوروبا وأمريكا.
.
ولد جون لوك في مدينة صغيرة بالقرب من مدينة بريستول. وكان والده محاميا ثم موظفا كبيرا في خدمة البرلمان عام 1648م. لكنه أفلس وخسر كل شئ بسبب الحرب الأهلية التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في إنجلترا. فقد كان عصر جون لوك، هو عصر الطوائف والمذاهب المتناحرة.
درس جون لوك في طفولته اللغة اليونانية واللاتينية، وهما لغتا العلم والفلسفة في ذلك الوقت. كما درس فلسفة أرسطو في مدرسة ويستمنستر 1646-1652م. ثم أصبح محاميا في مدينة اكسفورد.
ارتبط بعلاقة صداقة مع لورد آشلي الذي كان وزيرا عند الملك شارل الثاني. لكن الظروف السياسية انقلبت عليه، فذهب إلى المنفي في هولندا مع جون لوك لمدة ست سنوات. درس جون لوك أثناءها أحوال أوروبا. وفكر في مصايب الحروب الأهلية. وخرج بكتاب شهير بعنوان: "مقالة في التسامح". وقلده فولتير فيما بعد.
في مراحل دراستنا الثانوية والجامعية، نلاحظ أن العلوم تنقسم إلى نوعين. علوم نظرية، وعلوم عملية. العلوم النظرية، مثل الرياضيات والمنطق والفيزياء النظرية. وهي علوم لا تحتاج في دراستها سوى الورقة والقلم.
أما العلوم العملية، مثل الكيمياء والفيزياء العملية والبيولوجيا والجيولوجيا والفلك ...إلخ، فتحتاج إلى الأجهزة والمعامل والقراءات من الواقع. أي أنها تحتاج إلى التجربة والمشاهدة. وسوف نري فيما بعد، أننا نحتاج إلى كلاهما، لكي نقترب من فهم حقيقة هذا الكون الذي نعيش فيه.
الفلاسفة التجريبيون ومنهم جون لوك، يعتقدون أن العلوم التجريبية فقط هي العلوم الصحيحة. أي العلوم التي تستمد معلوماتها من التجربة والمشاهدة. لأنهم وجدوا الفلاسفة العقلانيين مثل ديكارت واسبينوزا وليبنيز، تركن إلى التخمين والحدس في البحث عن الحقيقة.
ليس هناك ما يثبت بالقطع صحة هذه الفروض، بالنسبة للتفسيرات الميتافيزيقية للوجود. ولننظر ما أوصلنا إليه ليبنيز من "مونادز" وخلافه، أو ما كان يقوله أفلاطون من ولادة المعلومات مع الطفل عندما يولد، وما علينا سوى إستخراجها بالتفكير والتأمل.
فى كتابه "مقالة بشأن الفهم الإنساني", تساءل جون لوك عن مصدر المعرفة. كيف نعرف ما نعرفه؟ هل هو وراثي أم مكتسب؟ طبع أم تطبع؟ هل يأتي ما نعرفه عن طريق الإستنتاج أم التجربة؟
التجربة, والتجربة وحدها، هى مصدر المعرفة الإنسانية. هكذا قال جون لوك. هذه هى بداية الفلسفة التجريبية (Empiricism) التى قامت فى إنجلترا فى القرن السابع عشر. جون لوك يقول إننا نعرف ما نعرفه عن طريق التجربة وإستخدام الحواس فقط. وجاء بعده جورج بيركلي(1685-1753م) ثم دافيد هيوم(1711-1776م), ليقولا نفس الشئ.
منذ البداية, والفلاسفة التجريبيون لا يؤمنون بقدرة العقل وحده على معرفة الحقائق. ولا يثقون فى كلام ديكارت: "أنا أفكر, إذن أنا موجود". التفكير وحده غير كاف. وعلوم الرياضيات والمنطق والعلوم التى تعتمد على فروض وإستنتاج فقط, بدون تجارب وقراءات, غير كافية لمعرف الحقيقة الكاملة. وغير كافية لتفسير ما يجرى فى هذا الكون, أو لإثبات وجود الله والملائكة والشياطين والحياة الأخرى...إلخ.
التجريبيون لا يؤمنون بالغيبيات, وليس لديهم فلسفة ميتافيزيقية تبحث فى هذه المواضيع. فقط ما تدركه حواسنا ونراه ونسمعه ونشمه ونحسه هو الحقيقي, وما عدا ذلك لا يمكن الوثوق به.
السؤال الثاني الذى يثيره التجريبيون هو قدرة العقل المحدودة على الفهم. فعقل الإنسان, مهما كانت قدرته, خلق لمساعدة الإنسان على متطلبات الحياة وبقاء النوع. ولم يخلق لمعرفة كل الحقائق.
يعتقد جون لوك أن الإنسان يولد وهو من الناحية المعرفية مثل الكراسة الفارغة أو السبورة الممسوحة. صفحة بيضاء لم يخط فيها قلم. وبالتجربة والتجربة وحدها, يعرف الإنسان مايعرف. الماء يغلى فى درجة حرارة 100 مئوية, لأن هذا ما نشاهده بالتجربة والقياس. وليس هناك طريقة أو أسلوب ما، يمكننا من إستنتاج هذه المعلومة بدون تجربة.
فكرة أن الإنسان يولد ولديه معلومات فطرية غير مكتسبة, كما يقول ديكارت أو أفلاطون من قبله، هى فكرة خاطئة من أساسها. حجة جون لوك هى عدم وجود دليل مادى يدعم هذه المقولة.
كيف نعرف أن الإنسان يولد ولديه معلومات بالفطرة؟ وهل هذه المعلومات عند كل الناس أم لدى البعض منهم فقط؟ وما هى التجربة والقراءات التى تثبت هذا الكلام؟ قدرة الإنسان على التعلم لا تعني أنه مولود ولديه معلومات بالفطرة. كل ما لديه معلومات مكتسبة.
كان سلاح جون لوك في مهاجمة العقلانيين وديكارت، هو إستخدامه لمبدأ "موس أوكام". وهو مبدأ منسوب إلى المنطقي الإنجليزي وليام أوكام (1288-1347م). يقول بأن شرح أي ظاهرة، يعتمد على أقل عدد من الفروض، وترك أي فرضية زائدة لا تساعد في تفسير الظاهرة أو النظرية.
فمثلا لو استيقظنا في الصباح الباكر لنجد وسط الحقول دائرة كبيرة مرسومة . النباتات داخل الدائرة مضغوطة بآلة حادة. الآن لدينا نظريتين في تفسير ما حدث:
النظرية الأولى، هي أن سكان الكواكب الأخري، هبطت من السماء أثناء الليل في طبق طائر، ثم غادرت المكان دون أن يشعر بها أحد. الدائرة بفعل ضغط الطبق الطائر على النباتات داخل الدائرة.
النظرية الثانية، هي أن بعض المشاغبين من السكان أتوا أثناء الليل، وقاموا برسم الدائرة بإستخدام حبل طويل, ثم قاموا بالضغط بآلة ثقيلة مثل التي تستخدم في رصف الشوارع على النباتات داخل الدائرة، حتي تبدو محيرة للمشاهدين.
أيي النظريتين أقرب إلى الصحة؟ يخبرنا مبدأ أوكهام بأن النظرية الأولي أكثر تعقيدا. لأنها تستلزم وجود سكان الكواكب الأخري، وزيارتهم إلى كوكب الأرض وهذا لم يثبت بعد بالدليل المادي.
أما النظرية الثانية، فهي أبسط ولا تعتمد على فروض لم يثبت صحتها بعد. إذن النظرية الثانية هي النظرية التي يجب أن نأخذ بها. مبدأ أوكهام يقول لا يجب الذهاب أبعد من الضروري في تبرير الأحداث. أبسط النظريات هي أقربها إلى الصواب. أو كما تقول صباح في أحد أغنياتها: "البساطة البساطة ياعيني على البساطة".
دعنا نقول بأن المخ عند الولادة عبارة عن ورقة بيضاء لم يخط فيها قلم. من أين أتت هذه المعلومات؟ يتساءل جون لوك. للإجابة على هذا السؤال أقول في كلمة واحدة: "التجربة". عن طريق الحواس، وما ترسله من إشارات للمخ.
الأفكار البسيطة، لا يمكن تقسيمها إلى أفكار أبسط منها. الأفكار البسيطة متمركزة في الحواس. إذا كان الشخص لا يفهم معني اللون الأصفر. فكل الذي يمكن عمله، هو الإشارة إلى شئ لونه أصفر، والقول "هذا هو اللون الأصفر". فوق هذه الأفكار البسيطة، قام جون لوك ببناء صرح المعرفة.
الأفكار المعقدة، تتكون من تركيبة أفكار بسيطة. معرفتنا بالتفاحة تتكون من اللون الأحمر والشكل الكروي والمذاق الحلو ...الخ. والأفكار المعقدة أيضا، نجدها عندما نقارن أو نوجد علاقات بين الأشياء، أو نقوم بالتجريد عندما نشعر بالإمتنان أو الغضب من حدوث شئ معين.
ثم قام جون لوك بتقسيم الأفكار إلى إبتدائي وثانوي. وهو هنا يستعير من ديكارت وجاليليو، اللذان قاما بالإستعارة، هما أيضا، من ديموقريطس مكتشف النظرية الذرية قبل الميلاد.
الأفكار الإبتدائية، تأتي من الصفات الخارجية للأشياء. أما الأفكار الثانوية، فلا توجد إلا في العقل. مثل الأصوات والطعم.
الصفات الحقيقية، هي صفات أشياء حقيقية. والأشياء الحقيقية تتكون من مادة وصورة. كل ما يوجد في هذا العالم، إما مادة أو صفات للمادة.
بالنسبة لديكارت، لا يمكننا فهم طبيعة المادة من المشاهدة فقط. لأن المشاهدة، تعطينا الصفات فقط. لهذا، نحتاج إلى معلومات فطرية تولد معنا لفهم طبيعة المادة. لأن المادة، أو الهيولي كما يسميها أرسطو، ليست لها صفات في حد ذاتها.
لكن جون لوك يرفض فكرة المعلومات الفطرية التي تولد معنا. المعرفة تأتي فقط عن طريق الحواس. فماذا يقول عن موضوع المادة؟ جون لوك يقول ما معناه، أنه لا يوجد أحد يفهم معني المادة.
يقول جون لوك، أن الفلاسفة الذين يحاولون شرح معني المادة، مثل الهنود الحمر الذين يقولون أن الأرض يحملها فيل عظيم، والفيل يقف على ظهر سلحفاء، والسلحفاء تقف بدورها على ظهر شئ غير معروف.
لم يكن إهتمام جون لوك منصبا فقط على فرع الفلسفة الخاص بالمعرفة (إبيستيمولوجيا)، لكنه كان مهتما أيضا بالفرع الخاص بالسياسة.
في رسالتين كتبهما جون لوك عن الحكومة، قام مثل هوبز من قبل، بمقارنة القوانين السياسية التي تحكم الدولة، بالقوانين الطبيعية التي توجد في الغابة. إلا أن القوانين الطبيعية عند جون لوك، تختلف إختلافا بينا عنها عند هوبز.
عند هوبز، لا توجد عدالة أو ظلم. ولا يوجد صح أو خطأ بالنسبة للقوانين الطبيعية. لا يوجد إرث أو ملكية خاصة، هذا لي وذاك لك. كل شئ مباح طالما يخدم فرص البقاء ومواصلة الحياة. تستطيع أن تحصل على ما يمكنك الحصول عليه، طالما تستطيع أن تبقيه بالقوة معك. تماما كما يحدث بالنسبة لإسرائيل والأراضي الفلسطينية. وموضوع قنص السلطة في البلاد العربية والإسلامية.
عندما يقتل الأسد فريسته، لا يعتبر هذا قتل أو شئ مريع قد وقع. إنما هو مجرد عمل "روتيني" لإحضار وجبة غذاء يومية. لا أكثر ولا أقل. مثل ذهابنا للسوبر ماركت لشراء ما يلزمنا من حوائج. الحق الطبيعي عند هوبز، هو حق الحياة ولا يوجد غيره. كل شئ مباح في سبيل أن نبقى أحياء.
لكن الحق الطبيعي عند لوك يختلف. فهو يمثل حقوق طبيعية للإنسان. الحق الطبيعي، هو حقنا في أن نحيا، وأن نحيا في صحة جيدة. وحقنا في الحرية الكاملة، وفي الملكية الخاصة.
كان هوبز يعتقد أن غريزة حب البقاء هي التي تولد هذا الحق. الله عند هوبز، لا يتدخل في هذه الأمور. لأن هوبز أراد أن يبتعد عن فلسفات القرون الوسطى، التي تفترض كلها وجود الله. أما الحقوق الطبيعية عند لوك، فتأتي من الأخلاق ومن الله، ولا تأتي من الغريزة فقط.
لقد وهبنا الله الأرض. فالأرض لمن يعمرها ويستصلحها ويزرعها. إذا قمت بإستصلاح قطعة أرض في الصحراء، ورويتها من عرقك. فهي تصبح ملكك كما يقول جون لوك. هذا حق طبيعي لك.
إذا قمت ببناء منزل من اللبن الآتي من تراب الأرض، أو قمت بقطع الأشجار لبناء منزل. فهذا المنزل هو لك. أنت مالكه دون غيرك. وهذا حق طبيعي لك.
الإنسان له الحق في جمع ممتلكاته كحق طبيعي بالشروط الآتية:
1- أنها لا تفسد من التراكم
2- الباقي يكفي الآخرين
3- تراكم الممتلكات لا يضر بالآخرين
بالنسبة لجون لوك، الدولة يجب عليها أن تقوم بحماية الحقوق الطبيعية لمواطنيها. الحكومة الجيدة هي التي تضمن الحقوق الطبيعية وتعليها. الحكومة الرديئة هي التي تهمل هذه الحقوق. الحكومة الشريرة هي التي تعتدي على هذه الحقوق الطبيعية.
العقد الإجتماعي عند جون لوك يقول، بأن كل المواطنين تقبل بأن تحكم بحكومة منتخبة بالأغلبية، طالما هذه الحكومة تقوم بحماية الحقوق الطبيعية للمواطنين. حكم الطغاة غير قانوني. ويجب الإطاحة به. لوك هنا يختلف عن هوبز، في أنه يجعل الثورة على الطغاة عملا مشروعا.
يعتبر جون لوك أبو النظرية الليبرالية لدولة الحق والقانون. فلقد دافع عن حق الملكية والحرية الفردية. وهو القائل: "حريتي تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين". الحرية عند جون لوك، لا تعني الإباحية. إنما تعني المسؤولية.
على الناس أن يحافظوا على حياتهم، لأنها هبة من الله. وعليهم أن يحترموا حياة بعضهم البعض وملكيتهم الخاصة. وإلا يحدث الإطراب الذي يؤدي إلى تدمير الحياة الإجتماعية.
العنف مرفوض في المجتمع الليبرالي القائم على العقل والإحترام المتبادل. وعلى الناس أن تحترم المواثيق والعهود حتي لا يخرب المجتمع وينهار.
كانت أفكار جون لوك وراء الثورة الإنجليزية عام 1688م، التي أسست، ولأول مرة في التاريخ، دولة الحق والقانون. وبذلك تكون انجلترا قد سبقت فرنسا بمئة سنة إلى النظام الديموقراطي الليبرالي الحر. ولهذا السبب، مجدها فولتير في كتابه "رسائل عن الإنجليز"، بعد أن زارها عام 1728م، ورأي ما بلغته من تقدم سياسي وإجتماعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، إستخدموا نظرية جون لوك وقاموا بإدماجها في وثيقة "إعلان الإستقلال" والدستور الأمريكي.
أحسن ما في الولايات المتحدة من تقدم ونظام حكم، قد أتي من أحسن الأفكار في نظرية جون لوك السياسية. وأسوأ ما في التجربة الأمريكية، يأتي من أسوأ ما في نظرية جون لوك. الولايات المتحدة، هي نظرية جون لوك في الحكم، وتجربته العظيمة.
zakariael@att.net
06/11/2014